أرشيف المقالات

خطر البدعة

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2خطر البدعة


الحمد لله، نَحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ وباركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ.
 
أما بعد:
فهذا موضوعٌ أحببتُ أنْ أذكِّر به إخواني المسلمين؛ لخطره على الأمَّة الإسلامية؛ وذلك أن سببَ ما نحن فيه من الاختلافات والفتن والمصائب هو بُعدنا عن القرآن والسنَّة باستحداث البدع، و"ما أُحدثتْ بدعةٌ إلا وأُميتتْ سنَّةٌ"؛ كما ورَد عن بعض السلف.
 
• وأبدأ الموضوع بتعريف (البدعة) لغةً:
فقد جاء في "لسان العرب": بدَع الشيءَ يبْدعُه بَدْعًا، وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه...
والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوَّلًا...
وأَبدعْتُ الشْيءَ: اخْتَرَعْتُه لا علَى مِثالٍ.
إذًا، فالبدعة في اللغة تُطلق على الشيء المخترَع الجديد الذي ليس له مِثال سابق.
 
• أما تعريفها اصطلاحًا؛ فقد تعدَّدَت أقوال العلماء فيها، وأختارُ هنا أقربها إلى الفهم إن شاء الله:
قال الحافظ ابن رجب: "البدعة المذمومة: ما ليس لها أصل من الشريعة يُرجَع إليه، وهي البدعة في إطلاق الشرع"؛ [جامع العلوم والحكم: (ص 267)].
 
ويرى شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّ البدعة هي: (ما خالفَ الكتابَ والسنةَ أو إجماعَ سلفِ الأمَّة من الاعتقادات والعبادات)، أو بمعنى أعَم: (ما لم يشرعه الله من الدِّين؛ فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بِدعة، وإن كان متأوِّلًا فيه)؛ أي: مما استحدثه الناس، ولم يكن له مستند في الشريعة،‏ وهي بهذا المعنى على نوعين: (نوع في الأقوال والاعتقادات، ونوع في الأفعال والعبادات، وهذا الثاني يتضمَّن الأول، كما أن الأول يدعو إلى الثاني)، فمثال الأول في الأقوال: بدعة الأوْراد المحدَثة؛ وفي الاعتقادات: بدعة الخوارج وغيرهم من الفِرَق الناريَّة...
ومثال الثاني في الأفعال: لبس الصوف عبادةً، وعمَل المولِد تقرُّبًا؛ وفي العبادات: الجهر بالنية في الصلاة، والأذان في العيدين؛ [يُنظَر: فصل (مفهوم السنة والبدعة عند ابن تيمية) من كتاب: "أصول الحكم على المبتدعة عند شيخ الإسلام ابن تيمية"، د.
أحمد الحليبي]
.
 
وقال العلامة الشاطبي: "فالبدعة إذًا عبارة عن: طريقة في الدِّين مخترَعة، تضاهي الشرعيَّة، يُقصَد بالسلوك عليها المبالغةُ في التعبُّد لله سبحانه"؛ [الاعتصام (1/ 50)].
 
• ضابط البدعة:
وقد بيَّن الشيخُ ابن عثيمين ضابط البدعة، فقال: "البدعة شرعًا ضابطها: (التعبُّد لله بما لم يشرعه الله)، وإن شئتَ فقل: (التعبُّد لله تعالى بما ليس عليه النَّبي صلى الله عليه وسلَّم، ولا خلفاؤه الراشدون)؛ فالتعريف الأول مأخوذ من قوله تعالى: ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشورى: 21]، والتعريف الثاني مَأخوذ من قول النَّبي صلى الله عليه وسلَّم: ((عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور))؛ فكلُّ مَن تعبَّد لله بشيء لم يشْرعه الله، أو بشيء لم يكن عليه النَّبي صلى الله عليه وسلَّم وخلفاؤه الراشدون - فهو مبتدِع، سواء كان ذلك التعبُّد فيما يتعلَّق بأسماء الله وصفاته أو فيما يتعلَّق بأحكامه وشرْعه، أما الأمور العاديَّة التي تتبع العادة والعُرف فهذه لا تسمَّى بدعة في الدِّين وإن كانت تسمَّى بدعة في اللغة، ولكن ليست بِدعة في الدين، وليست هي التي حذَّر منها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم"؛ [مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (2/ 292)].
 
• بيان خطر البدع:
لقد حذَّر العلماء من البدعة، وبيَّنوا أنها شرٌّ من المعصية؛ لأن صاحِب البدعة يعتقد أنه يتقرَّب بها إلى الله، أمَّا صاحب المعصية فيعرف أنها معصية، وغالبًا ما يؤنِّبه ضميره إذا صحا، فيستغفر ويتوب إلى الله تعالى، وقد روي عن سفيان الثوري رحمه الله: "إن البدعة أحبُّ إلى إبليس من المعصية؛ لأنَّ البدعة لا يُتاب منها والمعصية يُتاب منها"؛ [التحفة العراقية في الأعمال القلبية (ص12)].
 
ومن خطورة البدع أنَّها مُعارِضة للسنَن؛ فهي تقود أصحابها إلى الاعتقادات الباطلة والأعمالِ الفاسدة والخروج عن الشريعة.
ومن خطورة البدعة أنَّها تتضمَّن الادعاء بأنَّ الدين فيه نَقص، فيحتاج إلى زيادة وابتداع!
ومن خطورة البدعة أنَّها تتضمَّن أنَّ أصحابها جاؤوا بأفضل مما جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلَّم؛ وهذا لسان حالهم من حيث لا يشعرون.
قد يقول أحدُنا: أنا أستحسِن أن أعْبُد الله بشيء معيَّن، فهل يكون حسَنًا؟
الجواب على ذلك أننا نَنظر أولًا إن كان موجودًا في الدِّين أو له أصل في الشريعة؛ فهو حسن، وإن لم يكن كذلك فلا يكون حسَنًا.
 
• هل يوجد بدعة حسنة وبدعة سيئة؟
لا يوجَد في الدِّين بِدعة حسنة وبدعة سيِّئة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((كل بِدعة ضلالة، وكل ضلالة في النَّار))؛ [رواه مسلم، والزيادة على شرط مسلم كما قال الألباني].
 
ولفظة ((كل)) من ألفاظ العموم، بل هي أعمُّ صِيَغ العموم، كما نبَّه على ذلك الشيخ ابن عثيمين، وقال أيضًا: "وهذا العموم المحكم لا يخرج منه شيء"؛ [تفسير ابن عثيمين: سورة الأنعام (ص254)].
 
وثبت أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه قال: ((عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء المهديين الراشدين، تمسَّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإيَّاكم ومحدثات الأمور؛ فإنَّ كل مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة))؛ [رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني].
 
وفي الحديث الآخر: ((مَن أحدَث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ))؛ [متفق عليه]، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((مَن عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ))؛ [رواه مسلم].
إذًا؛ فكل مُحدَثٍ مردود، ولا يصحُّ تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة.
 
• رد شبهة القائلين بالبدعة الحسنة:
يحتجُّ البعض بأثَر عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جمع الناس في رمضان على أُبَيِّ بن كعب وتميم الدَّاري رضي الله عنهما، وكان الناس بعد أن امتنَع رسولُ الله عن إقامة رمضان بهم في جماعة صاروا يقومون أفرادًا، أو جماعات متفرِّقة، فيحصل التشويش، فخرج عمر ذات ليلة وهم على هذا، فأمر أُبَيًّا وتميمًا أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعة، ثم خرج مرة أخرى، ورآهم على هذه الحال، فقال: "نِعْمَ البدعةُ هذه"؛ أخرجه البخاري، فسمَّاها (بدعة) وأثنى عليها؛ فاستدلُّوا بهذا الأثَر على استساغة البدع الدينية، وأجابهم شيخنا ابن عثيمين رحمه الله بأمور [كما في تفسيره لسورة الأنعام (ص 254، 255)]:
الأمر الأول: لو صحَّ أنَّها بدعة شرعيَّة، لكان عمر ممن يُقتدى به، وسنَّته متَّبعة، بأمرِ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
 
الأمر الثاني: أنَّها بدعة نسبيَّة، باعتبار هجرها من عهد الرسول صلى الله عليه وسلَّم إلى أن أقامها عمر رضي الله عنه، ولا يصح أن نقول: إنها بدعة لغويَّة؛ لأن البدعة اللغوية لا بدَّ أن تكون غير مسبوقة، لكن نقول: هي بدعة نسبيَّة؛ باعتبار أنها هُجرَت من عهد الرسول صلى الله عليه وسلَّم مارًّا بعهد أبي بكر ثم أوَّل خلافة عمر رضي الله عنهما.
 
الأمر الثالث: أنَّ هذه البدعة لها أصل في السنَّة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلَّم صلى بأصحابه في قيام رمضان ثلاث ليال، وتخلَّف في الرابعة، وقال: ((إنِّي خشيتُ أن تُفرض عليكم وتعجزوا عنها))؛ رواه البخاري، هذه علَّة تَأخُّر النبيِّ عن إقامتها جماعة، وهل هي باقية في عهد عمر رضي الله عنه؟ الجواب: لا؛ لأنَّ الحُكم يدور مع علَّته، وهذه العلَّة في عهد عمر لا يمكن أن تكون؛ فبطل تشبُّث أهل البدع بمثل هذه الكلمة من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
 
• شبهة أخرى يردُّها ابن عثيمين:
قال رحمه الله [كما في المرجع السابق (ص 255، 256)]: "فإن قال قائل: ابتُدعتْ أشياء أقرَّها المسلمون؛ كجمْع القرآن على مصحف واحد، وكتبويب الأحاديث، وكبناء المدارس، وأشياء كثيرة، ما تقول في هذا؟
أقول: هذه ليست مَقصودة بذاتها؛ بل هي مقصودة لغيرها؛ فجَمْع الناس على مصحف واحد لئلَّا تتفرَّق الأمَّة، لو كان الناس يقرؤون في المصاحف التي في عهد الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لتمزَّقَت الأمة تمزُّقًا عظيمًا، ولقالت النصارى: إذا كان عندنا أربعة أناجيل أو خمسة فعندكم عشرات! فلهذا كان توحيد المصحف مقصودًا لغيره؛ وهو جمع كلمة المسلمين وعدم تنازعهم.
 
كذلك أيضًا تبويب الأحاديث أو جمعها على المسانيد هو أيضًا مَقصود لغيره حتى يتيسر على المسلمين أصول السنَّة، أرأيت لو أنَّها لم تبوَّب على الأبواب ولا على المسانيد لكان الإنسان إذا أراد مسألةً أن يقرأ كلَّ حديث ورَد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخفى ما في هذا من التعب العظيم ومن تعطُّل الشريعة، فكان هذا مقصودًا لغيره".
ويقاس على ذلك أمثاله، فقد ضرب لنا الشيخ رحمه الله أمثلة أخرى كثيرة، يمكن مراجعتها في مَوضِعها.
 
• تلخيص وتنبيه:
وفي الختام يتلخَّص لنا أنَّ هذه الأمور التي جاءت لمصلحة هي من الوسائل التي تحفظ الدين وتسهِّل على المسلمين، فإذا كانت فيها مصلحة حقيقية، تُتَّبَع.
 
لكن إذا كان هناك إحداث وابتِداع في العبادات التي ليس لها أصلٌ في سنَّة النبي صلى الله عليه وسلَّم، وكان مقتضى الفعْل قائمًا على عهده ولم يفعلْه، فلا يجوز فعله، وهو داخل في قوله: ((كل بِدعة ضَلالة)).
 
ومِن مشهور كلام الإمام مالك رحمه الله قوله: "مَن ابتَدع في الإسلام بدعةً يراها حسنة، فقد زعم أنَّ محمدًا خان الرِّسالة؛ لأنَّ الله تعالى يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]؛ فما لم يكن يومئذ دِينًا، فلا يكون اليوم دينًا"، فباب التشريع قد أُغلِق بموت النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم، وانقطع وحْي السَّماء.
 
ومن خلال موضوع البدعة هذا، أودُّ أن أنبِّه إخواني المسلمين إلى أنَّ خير ما تعلَّمتُه في ديني وسائر حياتي: أن لا أقول ولا أفعل شيئًا إلا بدليل مَوثوق، ورحم الله أحد السَّلف حين قال: "إن استطعتَ أن لا تحكَّ رأسك إلَّا بأثَر، فافعل".
 
فما أسْلَمَ أنْ نتَّبع منهج المعصوم صلى الله عليه وسلَّم الذي لا ينطِق عن الهوى، والذي قال عنه صحابته: "لقد تركَنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلَّم وما طائرٌ يطيرُ بجناحَيه إلا عندنا منه عِلْمٌ"؛ أخرجه ابن حبان، وصحَّحه الألباني، وخير سبيل هو السبيل الذي أمرنا به ربُّنا عز وجل، فقال: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7].
 
فأرجو أن يكون هذا هو منهاجنا جميعًا؛ لأنَّ به نصرة هذا الدِّين العظيم بعون الله وقوته، والحمد لله رب العالمين على ما هدانا إليه، ونسأله الثَّبات على الإسلام والسنَّة، إنه سميع مجيب.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢