أرشيف المقالات

صور من الحياة:

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
8 ضعف للأستاذ كامل محمود حبيب تباً لك يا من تتشح بالمبادئ الفجة والنظريات السقيمة لتغوى العقول المتداعية والأذهان الضعيفة فتخدعهم عن الوطن وهو روح القلب، وتصرفهم عن الدين وهو روح الحياة، وتشغلهم عن اللغة وهي سر الكرامة.
أي شيطان وسوس لك - يا صاحبي - فرحت تمتهن الوطن والدين واللغة، وجئت تريد أن تسترق الناس منها جميعاً لتذر هم - بعدها - حطاماً خوى من الكرامة والرجولة والإنسانية.
لقد قلت لي يوماً (أنا ابن الطبيعة وثمرة الحرية فدعني أهم في أرجاء الأرض لا يقيدني وطن، ولا يمسكني دين، ولا تربطني لغة.
دعني أنطلق منها فهي أغلال ثقيلة تشل عقلي وتصعق خواطري وتعبث بأفكاري)
آه يا صاحبي، إنك حين تنبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة تسجل على نفسك أن في عقلك لوثة وأن في خواطرك خللاً، وأن في أفكارك صدعاً. لقد درج أحمد وشب في كنف الريف، ونما وترعرع في حضن الغيط، وقوى وأشتد في ظل الدين.
ثم دفعه أبوه إلى الكُتاب ليقرأ - أول ما يقرأ - القرآن، ويتعلم - أول شيء - الوضوء والصلاة.
وقضى سنوات يغدو إلى الكتاب ويروح إلى الدار أو إلى الحقل ويختلف إلى المسجد، وأبوه رجل ريفي جلف، غليظ الكبد، شديد البخل، سريع الغضب، ضيق العقل، ثائر الأعصاب، تنزعج الدار لرؤيته، وتتفزع لغضبه، وهو - دائما - يتلمس أوهى الأسباب ليزجر زوجه في عنف، ويعاقبها في جفوة ويقسو عليها في إفراط، والزوجة تضطرب بين يديه في صمت وتبكي في تخاذل، والدار في عينيها جحيم تتسعر ما يهدأ أوارها، ولا يسكن لهبها إلا حين يتوارى هذا الوحش الكاسر. وشب الفتى بين أب جاف وأم متكسرة، يشهد عنت الأب وثورته ويقاسي هوان الأم وذلتها، وهو عاجز اليد واللسان لا يستطيع أن يرد أباه ولا أن يدفع عن أمه، فعاش هملاً في ناحية من الدار يفتقد العطف، وقلب أبيه صلب لا ينبض بشفقة، ولا يخفق برحمة.
والبخيل - دائماً - رجل أرضي النزعات ترابي المشاعر طيني الجبلة لا تشرق في نفسه أضواء الرجولة ولا ومضات الإنسانية.
وأمه في شغل تجتاحها العواصف من حولها فلا تحس ف قرارتها معاني المرأة ولا روح الأنثى. وهكذا اضطربت الحياة في ناظري الفتى وتزعزعت أركانها، فنشا ضعيف النفس، واهي الروح سقيم الخلق وضيع الهمة، وبدا منقبض الأسارير مشلول العقل، لا يحس السعادة في طفولته ولا يجد اللذة في صباه ولا يستشعر المتعة في شبابه، يأنس بالوحدة ويطمئن إلى الخلوة، وتعقدت نفسه فأنحط عن أترابه، وسفل عن زملائه.
ولزمته هذه الخصال فعاش عمره مضعضع الجانب مفلول العزيمة مستلب الحرية. وحين أنتظم في سلك المدرسة وجد في الكتاب سلوه وعزاء فدفن نفسه بين دفتيه لا يبغي عنه حولا، فصدأ عقله من طول ما أنكب على الدرس، ونحل جسمه من طول ما أرهق ذهنه، وذوى شبابه من طول ما ذاق من حبس ومن حرمان.
وإن الطالب في المدرسة ليقع بين عدوين: المدرس والمنهج.
فالمدرس في المدرسة يسيطر عليه الفتور والملل فهو يشرح في خمول ويعامل تلامذته في قسوة، لا يندفع إلى العمل في نشاط، ولا يهب إلى الدرس في رغبة، وإن نفسه لتتوثب سخطاً وكراهية حين يحس عنت العمل وضياع الحق، وإن حيويته لتخبوا رويداً رويداً حين يخيل إليه أنه قد تخلف عن الركب، فهو - في رأي نفسه - يبذل غاية الجهد ولا يجد الجزاء، ويستفرغ منتهى الطاقة ولا يلمس الوفاء.
أما المنهج فهو أخلاط من العلم ينوء بها العقل المتألق، وأشتات من النظريات يتيه في أضعافها الذهن المشرق، وألوان من الدرس يضل في ثناياها الفكر المتوثب.
فما بال أحمد؟ لطالما كان يتعثر في علومه، ولكنه سكن إلى الدرس لا يريم، فهو يخشى وطأة أبيه وإن يده لغليظة، ويكره داره في القرية، وإن جنباتها لموحشة، ولا يطمئن إلى أمه وإن فيها التكسر والخذلان. وتخرج أحمد - بعد لأي - في مدرسة المعلمين العليا قسم الآداب ولكن أعجزه أن يكون مدرساً ناجحاً بالمدارس الثانوية فأنطلق يتلمس مخرجاً.
ووجد الخلاص على يد رجل من رجال الدولة ذي مكانة وشأن، فراح يتملقه ويستخذي له ويستجدي عطفه، فقربه الرجل إلى نفسه وأدناه من مجلسه، ونقله من المدرسة إلى الديوان ليكون صنيعة له هو، وليكون مرءوساً، وليكون آلة صماء يديرها على أي نسق شاء. وجلس الفتى إلى مكتبه في الديوان وإن قلبه ليتوثب أن رأى نفسه ساقة بين زملائه، منبتاً عن رفاقه، لا يكاد يبلغ شأوهم، ولا يستطيع أن يرقي إليهم، فاستولى عليه اليأس وتملكته الحيرة. أما الرجل، فهو موظف كبير في الحكومة، وسمته الوظيفة بميسمها ولّفته في خصالها.
والوظيفة الحكومية تسم الموظف الكبير بالغطرسة والكبرياء وتصبغه بالعظمة والتسامي، فهو - يركن دائما - إلى من يتملق ويتمسح به، وينفر - أبداً - ممن يحس فيه الإباء والكرامة والشرف.
وتسم الموظف الصغير بالضعة والذلة.
واطمأن الفتى إلى رئيسه الكبير حين وجد فيه العون والساعد، واطمأن الرئيس إلى الفتى حين لمس فيه الطاعة والاستكانة.
وعاش أحمد تبعاً لرئيسه يتصاغر أمامه إن أغلظ له القول، ويتضاءل له إن أرهقه بالعمل، لا يستشعر في ذلك الاحتقار ولا المهانة، وهو يرى أن الأمر قد تهيأ له واستقام، وأن المستقبل - في رأي عينه - قد تفتح له وازدهر على يدي هذا الرئيس.
وكان الرئيس يتصنع الأدب ولم توافرت له أداته، ويتكلف العلم وما تكاملت له أسبابه، فاتخذ من الشباب المثقف صنائع ضمهم تحت جناحيه وحباهم بعطف موهوم، بذل لهم الوعد الخلاب، ومد لهم في الأماني البراقة، ثم راح يستنزف شبابهم الغض ويستغل عقولهم الناضجة، فامتلأت داره بمن يقدم له الأبحاث العلمية، ومن يترجم له أمهات الكتب الغربية، ومن ينشئوا له المقالات القيمة لقاء كلمة معسولة، أو ابتسامة عابرة، أو دريهمات لا تقيم أود.
ووجد الرئيس في أحمد فتى سلس القياد، سهل الخضوع، لين العريكة، لا يمل العمل وأن أضناه، ولا يضيق بالجهد وأن أسقمه، ولا يقصر في أمر وإن أعضل عليه، فأصطفاه لنفسه وعهد إليه - فيما عهد - أن يترجم فصولا من كتاب الفلسفة ودخلت - ذات مرة - إلى مكتبه في الوزارة فألفيته جالساً إلى هذا الكتاب يترجم فصوله إلى اللغة العربية، وبين يديه قاموس كبير، ومن حوله رفاقه في المكتب وقد انغمروا في نقاش عنيف صاخب، فامتلأت أرجاء الحجرة بالضجة واللغط والضوضاء والفتى منصرف عن الحديث إلى الترجمة لا يعبأ بما حوله.

وعجبت أن يؤدي الفتى هذا العمل الفني الدقيق في هذه الضجة الصاخبة، وهو يتطلب المكان الساكن والأعصاب الهادئة والفكر المتفرغ! وَيْ.

كأن هذا الفتى يعمل عملا آلياً لا روح فيه ولا معنى! لا عجب إن أخرج للناس صفحات مهلهلة متداعية تتكدس في جوانبها الأخطاء اللغوية والأغلاط الفنية.

ولكن الفتى كان حريصاً على أن يرضي رئيسه وأن يقدم له أكبر إنتاج في أقصر وقت.
وحين لمس الرئيس في الفتى الجد والإخلاص والجلد عزم على أن يجزيه أجر ما فعل.
وفي ذات يوم أخذ يحدثه قائلا: (كيف تقضي وقت فراغك يا أحمد؟) قال: (في البيت يا سيدي).
فقال الرئيس: (أفلا تريد أن تشغل فراغك بعمل يدر عليك مالاً؟) قال الفتى: (وكيف السبيل يا سيدي؟) قال: (لقد وجدت لك عملاً يرضيك، أقدمه لك جزاء إخلاصك واجتهادك) قال الفتى في سرور ونشوة: (وما هو يا سيدي؟) قال: (أن تقوم بالتدريس مساءً في معهد (كذا) الأجنبي).

واندفع الفتى إلى رئيسه يلثم راحته شكراً له على فضله وتقديره! ودخل الفتى المعهد ليبيع كرامته وشرفه ورجولته بثمن بخس دراهم معدودات.

واطمأن عميد المعهد إلى استخذائه وضعفه، فشمله بعطفه وحباه بصداقته.

ثم.

ثم قرر - بعد حين - أن يوفده في بعثة إلى الخارج ليتم دراسته على نفقة المعهد ليكون صنيعة له وعوناً وساعداً. ولبس الفتى القبعة.
.
لبس القبعة لينزل عن كرامته ولينبذ المعاني السامية للوطن والدين واللغة.
كامل محمود حبيب

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢