أرشيف المقالات

قصة فتاة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
8 يوم السبت 29 سبتمبر سنة 1945: ظلت الفتاة أسبوعين بعد لقائنا في الكنتننتال تتردد فيهما على مكتبي، فلا تجد الفرصة مواتية لتقول مثل ما كانت تقول؛ ولا الجلسة خاصة لتسمع مثل ما كانت تسمع.
ثم انقطع عني عيانها وخبرها فجأة، فلم أعد أراها في المكتب، ولا أسمعها في التليفون، ولا أقرأها في البريد؛ فعللت هذا الانقطاع بما يجوز من العلل في مثل هذه الحال، ولكنها لم تعْدُ أن تكون ظنوناً لا يطمئن عليها البال: هل عادت إلى القرية؟ ولكن لماذا لم تودعني قبل سفرها؟ ولماذا لم تخبرني بعودتها وهي تعلم أني أسر بخبرها؟ هل أصابها مرض ألزمها الفراش؟ ولكنها مرضت قبل ذلك فلم يمنعها المرض أن تبعث إليّ برسالتها مرة وبرسولتها أخرى. هل قطعت بينها وبيني الأسباب؟ ولكنها قنعت مني بالسبب الضعيف الذي لا يربط، فلا ينفعها أن تقطعه، ولا يضرها أن تصله.
إذن ما عسى أن تكون العلة الصحيحة لانقطاع خبرها عن علمي هذا الشهر كله؟ كنت أدير في خاطري هذا السؤال حين ألقى إلىَّ البريد في مساء هذا اليوم كتاباً ورقه كذلك الورق، وخطه كذلك الخط؛ ولكن أسلوبه مختلف وإمضاءه مغاير! مَن (زوزو) هذه التي تكتب إلىَّ بهذا الطول وتخاطبني بهذه اللهجة؟ عرفت بعد ما قرأت أنها ابنة أختها، وأنها تقص علىَّ في هذا الكتاب مأساة خالتها، وما غاب عني من عقدة هذه المأساة ونهايتها. سألخص كتابها في صفحة هذا اليوم وهو التاسع والعشرون من سبتمبر، لأرفه عن نفسي المحزونة بهذا الأسلوب الطريف، ولأكمل به هذه القصة التي بدأت في الربيع انتهت في الخريف! قالت الآنسة زوزو ما معناه: أكتب إليك يا سيدي ولست غريبة عن بالك، فإنك سمعت بي ولا شك من خالتي المسكينة (س)، وقد كنت رسولتها إليك في ذات يوم لو تذكر.
ولطالما حدثتني عن أثرك في نفسها فأشتهي أن أراك، وخوفتني من رأيك في مثلها فأستحي أن تراني.
ولولا أن في ذمتي عهداً لخالتي ورفيقتي أن أقص عليك عاقبة أمرها لما أبحت لنفسي أن أبكيك بذكر حادثتها الأليمة وخاتمتها المحزنة! لقد لقيها الذئب فعلاً يا سيدي! لقيها في أصيل يوم من أيام أغسطس الأخيرة، وكان الحر فيه يزهق النفوس ويضيق الأنفاس؛ فجلسنا أنا وهي في (سان سوسى) بميدان الجيزة نستروح نسيم النيل ونستنشي عبير الرياض.
وكان الذئب يجلس إلى المنضدة التي تقابلنا في زى شاب وضئ الطلعة ظريف الهيئة، فخالسَنا النظر وخالسناه، وأشار أن يجالسنا فجالسناه.
وعرفنا من فحوى كلامه أنه مخبر في إحدى جرائد الصباح، فزويت وجهي عنه لأنه لم يكن من الصنف الذي أتعاطاه.
ولكنه كان حسن الحديث حاضر البديهة بارع النكتة لطيف الدعابة، فاستخفَّت خالتي ظله وصغت إليه.
وقضينا في مناقلة الطرائف والأسمار أربع ساعات كانت أربع سنوات في رفع الكلفة بينها وبينه.
ثم عدنا مع الفتى في الترام إلى المنيرة، وهنالك ودعناه وواعدناه.
وباتت خالتي على هوى جديد لم تذق مثله منذ قدمت القاهرة ونازعت الندمان كؤوس الحب! تجدد بعد ذلك الموعد، وتعدد اللقاء، وتأكد الود، حتى أصبحت تخرج وحدها إليه، فيقضيان أواخر النهار وأوائل الليل متنقلين في القاهرة بين مقاهيها وملاهيها، وبين أرباضها ورياضها، فيتساهمان اللهو، ويتقاسمان الصفو، والشاب يبذل لها من الوعود، مقدار ما تبذل له من النقود؛ فيزعم أن أحد الأحزاب المعارضة سينشئ له صحيفة، ويشترى للصحيفة مطبعة، ويبنى للمطبعة داراً؛ وأن رئيس الحكومة قد بلغه ذلك، فهو يساومه على قلمه الحوَّل القلَّب، وعقله الخرَّاج الوَّلاج، بمورد ذهبي يتفجر في بيته كل شهر من خزانة الداخلية وخزانة الحزب.
وهو على يقين جازم من أحد الموردين إن لم يكن من كليهما؛ ولذلك أمر سماسرة البيوت أن يبحثوا له عن دارة في المعادى، ووكلاءَ السيارات أن يسجلوا اسمه على سيارة (بويك)! ماذا تصنع خالتي وقد جمع الله لها كل أمانيها في هذا الصحفي الشاب؟ حب مكنون يملأ شعاب القلب، ومنطق معسول يلائم هوى النفس، ومستقبل مأمون يضمن رفاهية العيش! أخلدت إليه بالثقة، ورفَّت عليه بالأنس، وقبلت أن تزوره في غرفته الخاصة على سطح من سطوح النازل الحقيرة! وهنالك رأت أن ثروة الشاب لا تزيد على بذلة نظيفة فوق جسمه، ولسان ذهبي في فمه، وطمع أشعبي في قلبه! ولكن الهوى يعمى ويصم، والشباب يغوى ويصل، والشراب يغرى ويجرئ.
فباتت لأول مرة في بيت غير بيتها، من دون إيذان لرفيقتها ولا استئذان من أختها! وفى الصباح أفاقت المسكينة من سكرة الهوى فأحست بعقرة الذئب! فقالت له وهى تمزج الدم بالدمع: ما علاج هذا الأمر وأخي لا يزال على حفاظ أهل الصعيد: يفرق بين الحرية والإباحة، وبين المدنية والتبرج؛ فهو يسامح إلا في الشرف، ويغضي إلا عن العرض؟ فأجابها الفتى باسماً: العلاج الزواج! وكان قد علم من قبل أن لها مالا مدخراً وأرضاً مستغلَّة؛ فالزواج له فرصة، ولكنه لخالتي غصة.
فقالت له: إن أسرتنا تشترط في الزواج التكافؤ في الطبقة والثروة؛ وحالك على ما أرى لا تطمعك في رضا أهلي.
فقال لها الفتى في إصرار وقوة: المهم أن نستر بالزواج جريمة العرض؛ أما جريمة الفقر فجريرتها هينة، وعقوبتها محتملة.
وسنجابه أخاك بالأمر الواقع فيثور قليلا ثم يسكن، ويغضب طويلا ثم يرضى. وصارحت الأخت أختها بالحادث والحديث؛ فباركت أمي الخطبة وأقرت الزواج.
واتفقت الحماة والعروسان على ليلة العقد وحفلة الزفاف.
وتسامع الناس بالخطبة المفاجئة والقران الخفي، فظنوا الظنون، وتقولوا الأقاويل؛ وأبرق بعضهم بهذه الشائعات إلى خالي فلم يبت إلا في القاهرة. تطلب منى المحال إذا طلبتَ أن أصف لك كيف دخل خالي الصالون فوجد المأذون وبيده الدفتر، وأبى وبإزائه العريس، وأمي وبقربها العروس، والبواب وبجانبه الشاهد الآخر، وهؤلاء جميعاً شملهم السكون وغشاهم الوجوم؛ فكأنهم يودعون مريضاً يُحتضَر، أو يشيعون ميتاً يدفن.

تصور أنت بخيالك هذا المنظر الأليم على ما يكون المجلس عبوساً وجهامة، وفي أشنع ما يكون الجلوس خزياً وندامة. سلم خالي إيماءً باليد ثم جلس وعيناه تلتهبان من الحنق، وشفتاه ترتجفان من الغضب، والتفت إلى أمي وقال لها بصوت فيه روعة القضاء ورهبة القدر: متى كنا يا فلانة نزوج بناتنا في مثل هذا المكان، ومن مثل هذا الإنسان، في غيبة عن الأهل وخفية من الناس؟ لقد سبقتمونا إلى (المدنية) فلم يعُد رأينا متفقاً في معنى الشرف، ولا شعورنا متحداً في إدراك الكرامة!! ثم لحظ العروس البائسة وقال لها بلهجة صارمة: اذهبي يا فاجرة فأعدي حقيبتك وسأنتظرك أمام البيت. حاولت أمي أن تجيب لتبرر الموقف المريب، وهمَّ أبي أن يتكلم ليدفع الخطر الداهم، وأراد المأذون أن يفتي لينقذ العقد المهدَّد، ولكن خالي أزلقَهم ببصره؛ ثم خرج وهو يتسعر من الغيظ وينتفض من الغضب كأنه لم ير أحداً ولم يسنع كلاماً.
وقضى هو وأخته الليل في أحد الفنادق ثم ركبا أول قطار إلى العزبة.
والقوم هناك يا سيدي يرجمون بالظنون؛ فبعضهم يزعمون أنها سجينة القصر، وأكثرهم يعتقدون أنها دفينة القبر.
والأمر الذي لا مرية فيه أنها خرجت من دنيا الناس! هذه قصة فتاتي، وما أظنها تختلف كثيراً عن قصص أكثر الفتيات اليوم! ذهبت غفر الله لها ضحية للتربية المهملة، والرقابة المغفَّلة، والتعليم الفاسد، والقدوة السيئة، والقصص الماجنة، والصحف الخليعة، والسينما المثيرة! فهل يُضطر الذين لا يزالون لسوء حظهم يغارون غلى أن يعودوا فيسألوا الله العصمة من ولادة البنات، أو يقولوا كما كان يقول الجاهليون: وأْدَ البنات من المكرمات؟ احمد حسن الزيات

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢