Warning: Undefined array key "sirA3lam" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f704007db74beca75b87a603e53b9db7fc676f54_0.file.history.tpl.php on line 73
فتح يزيد بن المهلب قلعة نيزك، وكان يزيد قد وضع على نيزك العيون، فلما بلغه خروج نيزك عنها سار إليها فحاصرها فملكها وما فيها من الأموال والذخائر، وكانت من أحصن القلاع في زمانها، وكان نيزك إذا رآها سجد لها تعظيما لها، كتب يزيد بن المهلب إلى الحجاج بالفتح: أنا لقينا العدو فمنحنا الله أكتافهم، فقتلنا طائفة، وأسرنا طائفة، ولحقت طائفة برؤوس الجبال وعراعر الأودية، وأهضام الغيطان وأثناء الأنهار.
غزا عبد الله بن عبد الملك الروم ففتح المصيصة وبنى حصنها، ووضع بها ثلاثمائة مقاتل من ذوي البأس، ولم يكن المسلمون سكنوها قبل ذلك، وبنى مسجدها.
قام محمد بن مروان وهو أمير الجزيرة بغزو أرمينية وحرق كنائسهم، وتسمى هذه السنة بسنة الحرق.
هو عمران بن حطان بن ظبيان، السدوسي البصري، نشأ في البصرة، حدث عن عائشة، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، وروى عنه ابن سيرين، وقتادة، ويحيى بن أبي كثير.
كان من أهل السنة والجماعة، فتزوج امرأة من الخوارج حسنة جميلة جدا فأحبها، وكان هو دميم الشكل، فأراد أن يردها إلى السنة فأبت، فارتد معها إلى مذهبها.
وقد كان من الشعراء المطبقين، وهو القائل في قتل علي وقاتله: يا ضربة من تقي ما أراد بها.
.
.
إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا إني لأذكره يوما فأحسبه.
.
.
أوفى البرية عند الله ميزانا أكرم بقوم بطون الطير قبرهم.
.
.
لم يخلطوا دينهم بغيا وعدوانا وقد رد عليه بعض العلماء في أبياته المتقدمة في قتل علي رضي الله عنه بأبيات على قافيتها ووزنها: بل ضربة من شقي ما أراد بها.
.
.
إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا إني لأذكره يوما فأحسبه.
.
.
أشقى البرية عند الله ميزانا
بعد فتح تونس اقتضت الحاجة لبناء مسجد للصلاة ونشر الدين الإسلامي بين أهالي تونس، بني أول مسجد فيها الشيخ الأمين حسان بن النعمان الغساني فاتح تونس وقرطاجنة، وسمي بـ (جامع الزيتونة) لأن موقعه كانت به شجرة زيتون عند صومعة كان يتعبد فيها راهب نصراني، وقيل: إن السبب في تسميته بهذا الاسم هو لكثرة شجر الزيتون بالقرب من مكان الجامع عند بنائه، ثم في سنة 116هـ قام والي أفريقيا الأمير عبيد الله بن الحبحاب بتوسعة وإعمار الجامع، وأحكم وضعه على أساس فخم، وزاد في ضخامته.
وفي سنة 250هـ بنى أبو إبراهيم أحمد الأغلبي في عهد الخليفة المستعين بالله قبة الجامع.
وفي سنة 381هـ قام أبو الفتح المنصور بن أبي الفتوح يوسف بن زيري ثاني ملوك الصنهاجيين بترميم قبة بهو الجامع.
وفي سنة 747هـ في أيام محمد المستنصر بن أبي زكريا زود الجامع بالماء عن طريق بناء قناطر، وقام أمراء الشيعة المهدية وبنو حفص سلاطين تونس بالاهتمام بهذا الجامع، وكان الانتهاء من العمل به في عهد الحاكم الأغلبي زيادة الله الثاني.
وفي سنة 1312هـ /1894م بنيت مئذنة الجامع مكان المئذنة القديمة من قبل المهندس سليمان النيقرو.
وفي سنة 1357هـ /1939م حصل آخر ترميم للجامع.
هو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي، أمير سجستان كان قائدا أمويا من أهل الكوفة وأشرافها، بدأ عبد الرحمن كأي قائد لبني أمية، وضم عددا كبيرا من البلدان لصالح الدولة الأموية، ولم تكن أسباب خروجه دينية على الإطلاق.
ولد عبد الرحمن في الكوفة في بيت من أشرافها، فأبوه محمد بن الأشعث، أحد وجوه كندة.
كانت علاقة الحجاج بن يوسف به سيئة للغاية، وكان الحجاج كلما رأى عبد الرحمن قال: يالخيلائه! أنظر إلى مشيته، والله لهممت أن أضرب عنقه.
فلما انهزم ابن الأشعث وفر إلى رتبيل ملك الترك كتب الحجاج إلى رتبيل يقول له: والله الذي لا إله إلا هو، لئن لم تبعث إلي بابن الأشعث لأبعثن إلى بلادك ألف ألف مقاتل، ولأخربنها.
فلما تحقق الوعيد من الحجاج استشار في ذلك بعض الأمراء فأشار عليه بتسليم ابن الأشعث إليه قبل أن يخرب الحجاج دياره، ويأخذ عامة أمصاره، فأرسل إلى الحجاج يشترط عليه أن لا يقاتل عشر سنين، وأن لا يؤدي في كل سنة منها إلا مائة ألف من الخراج، فأجابه الحجاج إلى ذلك، وقيل: إن الحجاج وعده أن يطلق له خراج أرضه سبع سنين، فعند ذلك غدر رتبيل بابن الأشعث، فقبض عليه وعلى ثلاثين من أقربائه فقيدهم في الأصفاد، وبعث بهم مع رسل الحجاج إليه، فلما كانوا ببعض الطريق بمكان يقال له: الرخج، صعد ابن الأشعث وهو مقيد بالحديد إلى سطح قصر، ومعه رجل موكل به; لئلا يفر، وألقى نفسه من ذلك القصر، وسقط معه الموكل به فماتا جميعا، فعمد الرسول إلى رأس ابن الأشعث فاحتزه، وقتل من معه من أصحاب ابن الأشعث، وبعث برؤوسهم إلى الحجاج، فأمر فطيف برأسه في العراق، ثم بعثه إلى أمير المؤمنين عبد الملك فطيف برأسه في الشام، ثم بعث به إلى أخيه عبد العزيز بمصر فطيف برأسه هنالك، ثم دفنوا رأسه بمصر وجثته بالرخج, وقيل إنه مات عام 85 هـ.
قال عنه ابن كثير: "والعجب كل العجب من هؤلاء الذين بايعوه بالإمارة وليس من قريش، وإنما هو كندي من اليمن، وقد اجتمع الصحابة يوم السقيفة على أن الإمارة لا تكون إلا في قريش، واحتج عليهم الصديق بالحديث في ذلك، حتى إن الأنصار سألوا أن يكون منهم أمير مع أمير المهاجرين فأبى الصديق عليهم ذلك.
فكيف يعمدون إلى خليفة قد بويع له بالإمارة على المسلمين من سنين فيعزلونه وهو من صلبية قريش ويبايعون لرجل كندي بيعة لم يتفق عليها أهل الحل والعقد؟! ولهذا لما كانت هذه زلة وفلتة نشأ بسببها شر كبير هلك فيه خلق كثير، فإنا لله وإنا إليه راجعون".
تمرد متولي المغرب محمد بن مقاتل العكي، وظلم وعسف واقتطع من أرزاق الأجناد وآذى العامة، فخرج عليه تمام بن تميم التميمي نائبه على تونس، فزحف إليه فبرز لملاقاته العكي، فهزمه ابن تميم، فتحصن العكي بالقيروان في القصر، وغلب تمام على البلد، ثم نزل العكي بأمان وانسحب إلى طرابلس، فنهض لنصرته إبراهيم بن الأغلب، فتقهقر تمام إلى تونس ودخل ابن الأغلب القيروان، فصلى بالناس وخطب وحض على الطاعة، ثم التقى ابن الأغلب وتمام فانهزم تمام، واشتد بغض الناس للعكي، وكاتبوا الرشيد فيه، فعزله وأقر عليهم إبراهيم بن الأغلب.
بعد أن قام إبراهيم بن الأغلب بقمع تمرد تمام بن تميم في أفريقيا، ولاه الرشيد، فانقمع الشر، وضبط الأمر، وسير تماما وكل من يتوثب الولاة إلى الرشيد، فسكنت البلاد، وابتنى مدينة سماها العباسية بقرب القيروان، وانتقل إليها بأهله وعبيده.
هو أبو عبادة الوليد بن عبيد بن يحيى الطائي البحتري المنبجي القحطاني، صاحب الديوان المعروف، شاعر كبير يقال لشعره سلاسل الذهب، كان أحد أشعر أهل عصره، ولد بمنبج إحدى قرى حلب عام 206ه وهو أحد الثلاثة الذين كانوا أشعر أبناء عصرهم: هو، والمتنبي، وأبو تمام، قيل إن أبا تمام لما سمع شعره قال: نعيت إلي نفسي، رحل البحتري إلى العراق متكسبا بشعره، فكان يمدح ويهجو على حسب ذلك، اتهم بالبخل وقلة الوفاء؛ بسبب ذلك التقلب بالمديح والهجاء، أما شعره فغلب عليه الوصف وسهولة التراكيب، مع براعة في الوصف والخيال، اعتزل في آخر أيامه في مدينة مولده منبج، حتى مات فيها عن 78 عاما.
كان سبب الفتنة أن راغبا مولى الموفق ترك الدعاء لهارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون، ودعا لبدر مولى المعتضد، واختلف هو وأحمد بن طوغان، فلما انصرف أحمد بن طوغان من الفداء سنة 283 ركب البحر ومضى، ولم يدخل طرسوس، وخلف دميانة غلام بازمان بها للقيام بأمرها، وأمده ابن طوغان، فقوي بذلك، وأنكر ما كان يفعله راغب، فوقعت الفتنة، فظفر بهم راغب، فحمل دميانة إلى بغداد، ثم في هذه السنة قدم قوم من أهل طرسوس على المعتضد يسألونه أن يولي عليهم واليا، وكانوا قد أخرجوا عامل ابن طولون، فسير إليهم المعتضد ابن الإخشيد أميرا.
عزم المعتضد على لعن معاوية بن أبي سفيان- رضي الله عنه- على المنابر، فحذره وزيره عبد الله بن وهب، وقال له: إن العامة تنكر قلوبهم ذلك، وهم يترحمون عليه ويترضون عنه في أسواقهم وجوامعهم، فلم يلتفت إليه، بل أمر بذلك وأمضاه، وكتب به نسخا إلى الخطباء بلعن معاوية، وذكر فيها ذمه وذم ابنه يزيد بن معاوية وجماعة من بني أمية، وأورد فيها أحاديث باطلة في ذم معاوية وقرئت في الجانبين من بغداد، ونهيت العامة عن الترحم على معاوية والترضي عنه، فلم يزل به الوزير حتى قال له فيما قال: يا أمير المؤمنين، إن هذا الصنيع لم يسبقك أحد من الخلفاء إليه، وهو مما يرغب العامة في الطالبيين وقبول الدعوة إليهم، فوجم المعتضد عند ذلك؛ تخوفا على الملك.
ظهر اختلال حال هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون بمصر، واختلفت القواد، وطمعوا فانحل النظام، وتفرقت الكلمة، فأقاموا له أحد أمراء أبيه يدير الأمور ويصلح الأحوال، وهو أبو جعفر بن أبان، وكان عند والده وجده مقدما كبير القدر، فأصلح من الأحوال ما استطاع، وكان من بدمشق من الجند قد خالفوا على أخيه جيش بن خمارويه، فلما تولى أبو جعفر الأمور سير جيشا إلى دمشق عليهم بدر الحمامي، والحسين بن أحمد الماذرائي، فأصلحا حالها وقررا أمور الشام، واستعملا على دمشق طغج بن جف واستعملا على سائر الأعمال، ورجعا إلى مصر والأمور فيها اختلال، والقواد قد استولى كل واحد منهم على طائفة من الجند وأخذهم إليه، وهكذا يكون انتقاض الدول، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد لحكمه، وهو سريع الحساب.
عظم خطب العيارين، وعاثوا ببغداد فسادا، وأخذوا الأموال والعملات الثقال ليلا ونهارا، وحرقوا مواضع كثيرة، وأخذوا من الأسواق الجبايات، وتطلبهم الشرط، فلم يفد ذلك شيئا ولا فكروا في الدولة، بل استمروا على ما هم عليه من أخذ الأموال، وقتل الرجال، وإرعاب النساء والأطفال، في سائر المحال، فلما تفاقم الحال بهم تطلبهم السلطان بهاء الدولة وألح في طلبهم فهربوا بين يديه واستراح الناس من شرهم.
رجع ركب العراق أثناء طريقهم للحج بعدما فاتهم الحج، وذلك أن الأصيفر الأعرابي الذي كان قد تكفل بحراستهم اعترض لهم في الطريق وذكر لهم أن الدنانير التي أقطعت له من دار الخلافة كانت دراهم مطلية، وأنه يريد من الحجيج بدلها، وإلا لا يدعهم يتجاوزون هذا المكان، فمانعوه وراجعوه، فحبسهم عن السير حتى ضاق الوقت ولم يبق فيه ما يدركون فيه الحج، فرجعوا إلى بلادهم، ولم يحج منهم أحد، وكذلك ركب الشام وأهل اليمن لم يحج منهم أحد هذا العام، وإنما حج أهل مصر والمغرب خاصة.
في أيام السلطان ملكشاه، فإنه اجتمع منهم ثمانية عشر رجلا، فصلوا صلاة العيد في ساوة، ففطن بهم الشحنة –المسؤول عن ضبط أمن ساوة-، فأخذهم وحبسهم، ثم سئل فيهم فأطلقهم، فهذا أول اجتماع كان لهم، ثم إنهم دعوا مؤذنا من أهل ساوة كان مقيما بأصبهان، فلم يجبهم إلى دعوتهم، فخافوه أن ينم عليهم، فقتلوه، فهو أول قتيل لهم، وأول دم أراقوه، فبلغ خبره إلى نظام الملك، فأمر بأخذ من يتهم بقتله، فوقعت التهمة على نجار اسمه طاهر، فقتل، ومثل به، وجروا برجله في الأسواق، فهو أول قتيل منهم، وأول موضع غلبوا عليه وتحصنوا به بلد عند قاين، كان متقدمه على مذهبهم، فاجتمعوا عنده، وقووا به، فتجرد للانتقام منهم أبو القاسم مسعود بن محمد الخجندي، الفقيه الشافعي، وجمع الجم الغفير بالأسلحة، وأمر بحفر أخاديد، وأوقد فيها النيران، وجعل العامة يأتون بالباطنية أفواجا ومنفردين، فيلقون في النار، وجعلوا إنسانا على أخاديد النيران وسموه مالكا، فقتلوا منهم خلقا كثيرا.
وقعت بالشام وكثير من البلاد زلازل كثيرة، وكان أكثرها بالشام، ففارق الناس مساكنهم، وانهدم بأنطاكية كثير من المساكن، وهلك تحتها عالم كثير، وخرب من سورها تسعون برجا، فأمر السلطان ملكشاه بعمارتها.
جهز الخليفة الناصر لدين الله عسكرا كثيرا، وجعل المقدم عليهم وزيره جلال الدين عبيد الله بن يونس، وسيرهم إلى مساعدة قزل أرسلان بن الأتابك إيلدكز، ليكف السلطان طغرل عن البلاد، فسار العسكر ثالث صفر إلى أن قارب همذان، فلم يصل قزل إليهم، وأقبل طغرل إليهم في عساكره، فالتقوا ثامن ربيع الأول بـ (داي مرج) عند همذان، واقتتلوا، فلم يثبت عسكر بغداد، بل انهزموا وتفرقوا، وثبت الوزير قائما، ومعه مصحف وسيف، فأتاه من عسكر طغرل من أسره، وأخذ ما معه من خزانة وسلاح ودواب وغير ذلك، وعاد العسكر إلى بغداد متفرقين.
سار صلاح الدين عن دمشق منتصف ربيع الأول إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس غربي حمص، وجاءته العساكر، فأول من أتاه من أصحاب الأطراف عماد الدين زنكي بن مودود بن آقسنقر.
صاحب سنجار، ونصيبين، والخابور، وتلاحقت العساكر من الموصل وديار الجزيرة وغيرها.
فاجتمعت عليه، وكثرت عنده.
فسار حتى نزل تحت حصن الأكراد من الجانب الشرقي، فأقام يومين، وسار جريدة- الجريدة خيل لا رجالة فيها- وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج، فأغار على صافيثا، والعريمة، ويحمور، وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد، وعرف من أين يأتيها، وأين يسلك منها، ثم عاد إلى معسكره سالما، وقد غنم العسكر من الدواب على اختلاف أنواعها ما لا حد له، وأقام تحت حصن الأكراد إلى آخر ربيع الآخر.
لما أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، أتاه قاضي جبلة، وهو منصور بن نبيل، يستدعيه إليها ليسلمها إليه، حملته الغيرة للدين على قصد السلطان، وتكفل له بفتح جبلة واللاذقية والبلاد الشمالية، فسار صلاح الدين معه رابع جمادى الأولى، فنزل بأنطرطوس سادسه، فرأى الفرنج قد أخلوا المدينة، واحتموا في برجين حصينين، كل واحد منهما قلعة حصينة ومعقل منيع، فخرب المسلمون دورهم ومساكنهم وسور البلد، ونهبوا ما وجدوه من ذخائرهم، وكان الداوية بأحد البرجين، فحصرهما صلاح الدين، فنزل إليه من في أحد البرجين بأمان وسلموه، فأمنهم، وخرب البرج وألقى حجارته في البحر، وبقي الذي فيه الداوية لم يسلموه، فخرب صلاح الدين ولاية أنطرطوس، ورحل عنها وأتى مرقية، وقد أخلاها أهلها، ورحلوا عنها، وساروا إلى المرقب، وهو من حصونهم التي لا ترام، وهو للإسبتارية، فاجتاز المسلمون وعبروا المضيق ووصلوا إلى جبلة ثامن عشر جمادى الأولى.
وتسلمها وقت وصوله، وكان قاضيها قد سبقه إليها ودخلها.
فلما وصل صلاح الدين رفع أعلامه على سورها وسلمها إليه، وتحصن الفرنج الذين كانوا بها بحصنها، واحتموا بقلعتها، فما زال قاضي جبلة يخوفهم ويرغبهم، حتى استنزلهم بشرط الأمان، وأن يأخذ رهائنهم يكونون عنده إلى أن يطلق الفرنج رهائن المسلمين من أهل جبلة.
وكان بيمند صاحبها قد أخذ رهائن القاضي ومسلمي جبلة، وتركهم عنده بأنطاكية، فأخذ القاضي رهائن الفرنج فأنزلهم عنده حتى أطلق بيمند رهائن المسلمين فأطلق المسلمون رهائن الفرنج، وجاء رؤساء أهل الجبل إلى صلاح الدين بطاعة أهله، وصار الطريق في هذا الوقت عليه من بلاد الإسلام إلى العسكر، وقرر صلاح الدين أحوال جبلة، وجعل فيها لحفظها الأمير سابق الدين عثمان بن الداية، صاحب شيزر، وسار عنها.
لما فرغ صلاح الدين من أمر جبلة، سار عنها إلى اللاذقية، فوصل إليها في الرابع والعشرين من جمادى الأولى، فترك الفرنج المدينة لعجزهم عن حفظها، وصعدوا إلى حصنين لها على الجبل فامتنعوا بهما، فدخل المسلمون المدينة وحصروا القلعتين اللتين فيهما الفرنج، وزحفوا إليهما، ونقبوا السور ستين ذراعا، وعلقوه- حازوه- وعظم القتال، واشتد الأمر عند الوصول إلى السور، فلما أيقن الفرنج بالعطب، ودخل إليهم قاضي جبلة فخوفهم من المسلمين؛ طلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين، ورفع المسلمون الأعلام على الحصنين، وكان ذلك في اليوم الثالث من النزول عليها، وكانت عمارة اللاذقية من أحسن الأبنية وأكثرها زخرفة مملوءة بالرخام على اختلاف أنواعها، فسلمها صلاح الدين إلى ابن أخيه تقي الدين عمر، فعمرها، وحصن قلعتها.
في المحرم حاصر صلاح الدين الحصن، لكنه رآه منيعا فكان رحيله عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلا ونهارا بالحجارة والسهام، وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم من أول السنة، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، ثم لما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين، فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدا، فلقي رجلا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم فأخذهم وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قوله، وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة لا تنقطع ليلا ولا نهارا، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور, واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير.
قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك".
في المحرم حاصر صلاح الدين الحصن، لكنه رآه منيعا فكان رحيله عنها في ربيع الأول إلى دمشق، فأقام بدمشق إلى منتصف رمضان، وسار عن دمشق إلى قلعة صفد فحصرها وقاتلها، ونصب عليها المجانيق، وأدام الرمي إليها ليلا ونهارا بالحجارة والسهام، وكان أهلها قد قاربت ذخائرهم وأزوادهم أن تفنى في المدة التي كانوا فيها محاصرين، فإن عسكر صلاح الدين كان يحاصرهم من أول السنة، فلما رأى أهله جد صلاح الدين في قتالهم، أرسلوا يطلبون الأمان، فأمنهم وتسلمها منهم، فخرجوا عنها وساروا إلى مدينة صور، وكفى الله المؤمنين شرهم، ثم لما كان صلاح الدين يحاصر صفد، اجتمع من بصور من الفرنج، وقالوا: إن فتح المسلمون قلعة صفد لم تبق كوكب، ولو أنها معلقة بالكوكب، وحينئذ ينقطع طمعنا من هذا الطرف من البلاد، فاتفق رأيهم على إنفاذ نجدة لها سرا من رجال وسلاح وغير ذلك، فأخرجوا مائتي رجل من شجعان الفرنج وأجلادهم، فساروا الليل مستخفين، وأقاموا النهار مكمنين، فاتفق من قدر الله تعالى أن رجلا من المسلمين الذين يحاصرون كوكب خرج متصيدا، فلقي رجلا من تلك النجدة، فاستغربه بتلك الأرض، فضربه ليعلمه بحاله، وما الذي أقدمه إلى هناك، فأقر بالحال، ودله على أصحابه، فعاد الجندي المسلم إلى قايماز النجمي، وهو مقدم ذلك العسكر، فأعلمه الخبر، والفرنجي معه، فركب في طائفة من العسكر إلى الموضع الذي قد اختفى فيه الفرنج، فكبسهم فأخذهم وتتبعهم في الشعاب والكهوف، فلم يفلت منهم أحد، ولما فتح صفد سار عنها إلى كوكب ونازلها وحصرها، وأرسل إلى من بها من الفرنج يبذل لهم الأمان إن سلموا، ويتهددهم بالقتل والسبي والنهب إن امتنعوا، فلم يسمعوا قوله، وأصروا على الامتناع، فجد في قتالهم، ونصب عليهم المجانيق، وتابع رمي الأحجار إليهم، وزحف مرة بعد مرة، وكانت الأمطار كثيرة لا تنقطع ليلا ولا نهارا، فلم يتمكن المسلمون من القتال على الوجه الذي يريدوه، وطال مقامهم عليها، وفي آخر الأمر زحفوا إليها دفعات متناوبة في يوم واحد، ووصلوا إلى باشورة القلعة- الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- ومعهم النقابون والرماة يحمونهم بالنشاب، فلم يقدر أحد منهم أن يخرج رأسه من أعلى السور، فنقبوا الباشورة فسقطت، وتقدموا إلى السور الأعلى، فلما رأى الفرنج ذلك أذعنوا بالتسليم، وطلبوا الأمان فأمنهم، وتسلم الحصن منهم منتصف ذي القعدة، وسيرهم إلى صور, واجتمع للمسلمين بفتح كوكب وصفد من حد أيلة إلى أقصى أعمال بيروت، لا يفصل بينه غير مدينة صور، وجميع أعمال أنطاكية سوى القصير.
قال ابن الأثير: " واجتمع بصور من شياطين الفرنج وشجعانهم كل صنديد، فاشتدت شوكتهم، وحميت جمرتهم، وتابعوا الرسل إلى من بالأندلس وصقلية وغيرهما من جزائر البحر يستغيثون ويستنجدون، والأمداد كل قليل تأتيهم، وكان ذلك كله بتفريط صلاح الدين في إطلاق كل من حصره، حتى عض بنانه ندما وأسفا حيث لم ينفعه ذلك".
لما فرغ صلاح الدين من أمر قلعة صهيون، سار في ثالث جمادى الآخرة، فوصل إلى قلعة بكاس فرأى الفرنج قد أخلوها، وتحصنوا بقلعة الشغر، فملك قلعة بكاس بغير قتال، وتقدم إلى قلعة الشغر وحصرها، وهي وبكاس على الطريق السهل المسلوك إلى اللاذقية وجبلة، والبلاد التي افتتحها صلاح الدين من بلاد الشام الإسلامية، فلما نازلها رآها منيعة حصينة لا ترام، ولا يوصل إليها بطريق من الطرق، إلا أنه أمر بمزاحفتهم ونصب منجنيق عليهم، ففعلوا ذلك، ورمى بالمنجنيق، فلم يصل من أحجاره إلى القلعة شيء إلا القليل الذي لا يؤذي، فبقي المسلمون عليه أياما لا يرون فيه طمعا، وأهله غير مهتمين بالقتال لامتناعهم عن ضرر يتطرق إليهم، وبلاء ينزل عليهم، فبينما صلاح الدين جالس، وعنده أصحابه إذ أشرف عليهم فرنجي ونادى بطلب الأمان لرسول يحضر عند صلاح الدين، فأجيب إلى ذلك، ونزل رسول، وسأل إنظارهم ثلاثة أيام، فإن جاءهم من يمنعهم وإلا سلموا القلعة بما فيها من ذخائر ودواب وغير ذلك، فأجابهم إليه وأخذ رهائنهم على الوفاء به، فلما كان اليوم الثالث سلموها إليه، واتفق يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة؛ وكان سبب استمهالتهم أنهم أرسلوا إلى البيمند، صاحب أنطاكية، وكان هذا الحصن له، يعرفونه أنهم محصورون، ويطلبون منه أن يدفع عنهم المسلمين، فإن فعل وإلا سلموها، وإنما فعلوا ذلك لرعب قذفه الله تعالى في قلوبهم، وإلا فلو أقاموا الدهر الطويل لم يصل إليهم أحد، ولا بلغ المسلمون منهم غرضا، فلما تسلم صلاح الدين الحصن سلمه إلى أمير يقال له قلج، وأمره بعمارته ورحل عنه.
لما رحل صلاح الدين من قلعة الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وصفت له، وهي تقابل حصن أفامية، وتناصفها في أعمالها، وبينهما بحيرة تجتمع من ماء النهر العاصي وعيون تتفجر من جبل برزية وغيره، وكان أهلها أضر شيء على المسلمين؛ يقطعون الطريق، ويبالغون في الأذى، فلما وصل إليها نزل شرقيها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم ركب من الغد وطاف عليها لينظر موضعا يقاتلها منه، فلم يجد إلا من جهة، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهل القلعة عليها منجنيقا بطولها، فلما رأى صلاح الدين أنهم لن ينتفعوا بالمنجنيق لارتفاع القلعة، عزم على الزحف ومكاثرة أهلها بجموعه، فقسم عسكره ثلاثة أقسام: يزحف قسم، فإذا تعبوا وكلوا عادوا وزحف القسم الثاني، فإذا تعبوا وضجروا عادوا وزحف القسم الثالث، ثم يدور الدور مرة بعد أخرى حتى يتعب الفرنج وينصبوا، فإنهم لم يكن عندهم من الكثرة ما يتقسمون كذلك، فإذا تعبوا وأعيوا سلموا القلعة، فلما كان الغد- وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة- تقدم أحد الأقسام، وخرج الفرنج من حصنهم، فقاتلهم على فصيلهم، ورماهم المسلمون بالسهام، ومشوا إليهم حتى قربوا إلى الجبل، فلما قاربوا الفرنج عجزوا عن الدنو منهم لخشونة المرتقى، وتسلط الفرنج عليهم؛ لعلو مكانهم، بالنشاب والحجارة، فلما تعب هذا القسم انحدروا، وصعد القسم الثاني، وكانوا جلوسا ينتظرونهم، فقاتلوهم إلى قريب الظهر، ثم تعبوا ورجعوا، فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقدم إليهم يردهم، وصاح في القسم الثالث، وهم جلوس ينتظرون نوبتهم، فوثبوا ملبين، وساعدوا إخوانهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنج ما لا قبل لهم به، وكان أصحاب عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضا معهم، فحينئذ اشتد الأمر على الفرنج، وبلغت القلوب الحناجر، وكانوا قد اشتد تعبهم ونصبهم، فظهر عجزهم عن القتال، وضعفهم عن حمل السلاح؛ لشدة الحر والقتال، فخالطهم المسلمون، فعاد الفرنج يدخلون الحصن، فدخل المسلمون معهم، فملكوا الحصن عنوة وقهرا، ودخل الفرنج القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نقبها، وكان الفرنج قد رفعوا من عندهم من أسرى المسلمين إلى سطح القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلما سمعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبروا في سطح القلة، وظن الفرنج أن المسلمين قد صعدوا على السطح، فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسر، فملكها المسلمون عنوة، ونهبوا ما فيها، وأسروا وسبوا من فيها، وأخذوا صاحبها وأهلها، وألقى المسلمون النار في بعض بيوتهم فاحترقت، وأما صاحب برزية، فإنه أسر هو وامرأته وأولاده، فأطلقهم صلاح الدين.
لما كان صلاح الدين مشغولا بفتح القلاع والحصون التي بيد الفرنج، سير ولده الظاهر غازي، صاحب حلب، فحصر سرمينية، وضيق على أهلها، واستنزلهم على قطيعة قررها عليهم، فلما أنزلهم وأخذ منهم المقاطعة، هدم الحصن وعفى أثره وعالي بنيانه، وكان فيه وفي هذه الحصون من أسارى المسلمين الجم الغفير، فأطلقوا وأعطوا كسوة ونفقة، وكان فتحه في يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الآخرة.
بعد أن فتح صلاح الدين حصن برزية رحل عنه من الغد، فأتى جسر الحديد، وهو على النهر العاصي، بالقرب من أنطاكية، فأقام عليه حتى وافاه من تخلف عنه من عسكره، ثم سار عنه إلى قلعة درب ساك، فنزل عليها ثامن رجب، وهي من معاقل الداوية الحصينة وقلاعهم التي يدخرونها لحماياتهم عند نزول الشدائد، فلما نزل عليها نصب المجانيق، وتابع الرمي بالحجارة، فهدمت من سورها شيئا يسيرا، فلم يبال من فيه بذلك، فأمر بالزحف عليها ومهاجمتها، فبادرها العسكر بالزحف وقاتلوها، وكشفوا الرجال عن سورها، وتقدم النقابون فنقبوا منها برجا وعلقوه- حازوه- فسقط واتسع المكان الذي يريد المقاتلة أن يدخلوا منه، وعادوا يومهم ذلك، ثم باكروا الزحف من الغد، وكان من فيه قد أرسلوا إلى صاحب أنطاكية يستنجدونه، فصبروا، وأظهروا الجلد، وهم ينظرون وصول جوابه إما بإنجادهم وإزاحة المسلمين عنهم، وإما بالتخلي عنهم ليقوم عذرهم في التسليم، فلما علموا عجزه عن نصرتهم، وخافوا هجوم المسلمين عليها، وأخذهم بالسيف، وقتلهم وأسرهم، ونهب أموالهم، طلبوا الأمان، فأمنهم على شرط أن لا يخرج أحد إلا بثيابه التي عليه بغير مال ولا سلاح، ولا أثاث بيت، ولا دابة، ولا شيء مما بها، ثم أخرجهم منه وسيرهم إلى أنطاكية، وكان فتحه تاسع عشر رجب.
لما فرغ صلاح الدين من أمر قلعة درب ساك سار إلى قلعة بغراس، فحصرها، وجعل أكثر عسكره يزكا- اليزك كلمة فارسية تعني مقدمة الجيش- مقابل أنطاكية، يغيرون على أعمالها، وكانوا حذرين من الخوف من أهلها إن غفلوا؛ لقربهم منها، وصلاح الدين في بعض أصحابه على القلعة يقاتلها، ونصب المجانيق، فلم يؤثر فيها شيئا لعلوها وارتفاعها، فغلب على الظنون تعذر فتحها وتأخر ملكها، وشق على المسلمين قلة الماء عندهم، إلا أن صلاح الدين نصب الحياض، وأمر بحمل الماء إليها، فخفف الأمر عليهم، فبينما هو على هذه الحال إذ قد فتح باب القلعة، وخرج منه إنسان يطلب الأمان ليحضر، فأجيب إلى ذلك، فأذن له في الحضور، فحضر وطلب الأمان لمن في الحصن حتى يسلموه إليه بما فيه على قاعدة قلعة درب ساك، فأجابهم إلى ما طلبوا، فعاد الرسول ومعه الأعلام الإسلامية، فرفعت على رأس القلعة، ونزل من فيها، وتسلم المسلمون القلعة بما فيها من ذخائر وأموال وسلاح، وأمر صلاح الدين بتخريبه، فخرب، وكانت مضرته عظيمة على المسلمين؛ فإن ابن ليون صاحب الأرمن خرج إليه من ولايته وهو مجاوره، فجدد عمارته وأتقنه، وجعل فيه جماعة من عسكره يغيرون منه على البلاد، فتأذى بهم السواد الذي بحلب.
لما فتح صلاح الدين بغراس عزم على التوجه إلى أنطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك، وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كل أسير عنده من المسلمين، فاستشار من عنده من أصحاب الأطراف وغيرهم، فأشار أكثرهم بإجابته إلى ذلك؛ ليعود الناس ويستريحوا ويجددوا ما يحتاجون إليه، فأجاب إلى ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر، وسير رسوله إلى صاحب أنطاكية يستحلفه، ويطلق من عنده من الأسرى، وكان صاحب أنطاكية في هذا الوقت أعظم الفرنج شأنا، وأكثرهم ملكا، وأما صلاح الدين فإنه عاد إلى حلب ثالث شعبان، فدخلها وسار منها إلى دمشق، وفرق العساكر الشرقية، ثم رحل من حلب إلى دمشق، ودخل دمشق أول شهر رمضان.
هو الأمير الكبير، العلامة فارس الشام، مجد الدين، سلالة الملوك والسلاطين مؤيد الدولة، أبو المظفر أسامة بن الأمير مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني الشيزري.
ولد بشيزر سنة 488.
أحد الشعراء المشهورين.
قيل: كان يحفظ من شعر الجاهلية عشرة آلاف بيت.
قال الذهبي: "سافر إلى مصر, وكان من أمرائها الشيعة، ثم فارقها وجرت له أمور، وحضر حروبا ألفها في مجلد فيه عبر".
قال يحيى بن أبي طيئ الشيعي في (كتابه تاريخ الشيعة): "كان ابن منقذ إماميا، حسن العقيدة، إلا أنه كان يداري عن منصبه، ويتاقي".
كان ابن منقذ عمره تاريخا مستقلا وحده، وكانت داره بدمشق، وكانت معقلا للفضلاء ومنزلا للعلماء، وله أشعار رائقة، ومعان فائقة، ولديه علم غزير، وعنده جود وفضل كثير، وكان من أولاد ملوك حصن شيزر، وهذا الحصن قريب من حماة، وكان لآل منقذ الكنانيين يتوارثونه من أيام صالح بن مرداس، ثم انتقل إلى مصر فأقام بها مدة أيام الفاطميين، في وزارة العادل ابن السلار، واتصل ابن منقذ بعباس الصنهاجي، فحسن له قتل زوج أمه ابن السلار، فقتله، ثم ولاه الظافر الوزارة فاستبد بالأمر, ولما علم الأمراء والأجناد أن قتل ابن السلار من فعل ابن منقذ، عزموا على قتله، فخلا بعباس، وقال له: كيف تصبر على ما أسمع من قبيح القول؟ قال: وما ذلك؟ قال: الناس يزعمون أن الظافر يفعل بابنك نصر، وكان نصر خصيصا بالظافر، وكان ملازما له ليله ونهاره، وكان من أجمل الناس صورة، وكان الظافر يتهم به، فانزعج لذلك عباس وعظم عليه، وقال: كيف الحيلة؟ قال: تقتله فيذهب عنك العار، فذكر الحال لولده نصر، فاتفقا على قتل الظافر فقتله نصر, ثم عاد ابن منقذ إلى الشام، فقدم على الملك صلاح الدين في سنة 570, وله نظم في الذروة, منه ديوان شعر كبير، وأشعار في مدح السلطان صلاح الدين، وله كتاب لباب الآداب، والبديع، وأخبار النساء، وغيرها، وكان صلاح الدين يفضل ديوانه على سائر الدواوين، وكان في شبيبته شهما شجاعا، قتل أسدا وحده مواجهة.
توفي في هذه السنة ليلة الثلاثاء الثالث والعشرين من رمضان، عن عمر ست وتسعين سنة، ودفن شرقي جبل قاسيون.
هو الشاعر الكبير رئيس الشعراء، أبو الفتح محمد بن عبيد الله نشتكين بن عبد الله.
الكاتب المعروف بسبط ابن التعاويذي، الشاعر المشهور، كان والده عبيد الله من غلمان بني المظفر، وكان اسمه نشتكين فسماه ابنه أبو الفتح عبيد الله, وهو سبط أبي محمد المبارك بن علي بن نصر السراج الجوهري الزاهد المعروف بابن التعاويذي- نسبة إلى كتابته التعاويذ وهي الحروز- وإنما نسب إلى جده؛ لأنه كفله صغيرا، ونشأ في حجره فنسب إليه.
كانت ولادة أبي الفتح في العاشر من رجب يوم الجمعة سنة 519, وهو أحد فحول شعراء العربية، وشاعر العراق في عصره.
ومن أهل بغداد، وقد ولد وتوفي فيها.
ولي بها الكتابة في ديوان المقاطعات.
اشتهر بالمديح وبرع فيه.
قال ابن خلكان: "كان أبو الفتح شاعر وقته، لم يكن فيه مثله، جمع شعره بين جزالة الألفاظ وعذوبتها، ورقة المعاني ودقتها، وهو في غاية الحسن والحلاوة، وفيما أعتقد لم يكن قبله بمائتين سنة من يضاهيه، ولا يؤاخذني من يقف على هذا الفصل؛ فإن ذلك يختلف بميل الطباع، ولله القائل: وللناس فيما يعشقون مذاهب" عمي أبو الفتح في آخر عمره سنة 579، وله في عماه أشعار كثيرة يرثي بها زمان شبابه، وكان قد جمع ديوان شعره بنفسه، ورتبه على أربعة فصول قبل العمى، وعمل له خطبة طريفة.
توفي في ثاني شوال سنة أربع، وقيل ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد، ودفن في باب أبرز ببغداد عاش خمسا وستين سنة.