دروس وفتاوى الحرم المدني 1416ه [3]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمدٍ خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإنه جرت العادة أن يكون بداية اللقاء الكلام على ما تيسر من تفسير ما سمعناه في قراءة المغرب، ولكن نظراً لأن هذه الليلة ليلة الجمعة، ينبغي أن نتكلم عن شيء من خصائص هذا اليوم العظيم.

هذا اليوم العظيم يوم الجمعة يومٌ جعله الله تعالى عيداً للأسبوع، وما طلعت الشمس ولا غربت على يومٍ أفضل من يوم الجمعة باعتبار أيام الأسبوع، وخير يومٍ طلعت عليه الشمس يوم عرفة باعتبار أيام السنة.

هذا اليوم يوم العيد منَّ الله به على هذه الأمة وأضل اليهود والنصارى، فصار لليهود يوم السبت، وصار للنصارى يوم الأحد، وضلوا عن يوم الجمعة الذي فيه ختم الله خلق السماوات والأرض؛ لأن الله تعالى خلقها في ستة أيام أولها الأحد وآخرها الجمعة، وفيه ابتداء خلق آدم؛ خلق الله آدم يوم الجمعة، وفيه أخرج من الجنة وأهبط إلى الأرض، فيكون مبدأ خلق البشر يوم الجمعة، وفيه تقوم الساعة فيكون منتهى الخلق أيضاً يوم الجمعة، فهو يومٌ عظيم، ولهذا اختص بأحكامٍ نذكر منها ما تيسر:

من ذلك: أنه اختص بفرض صلاة الجمعة، وهذه الصلاة يشترط فيها الجماعة باتفاق المسلمين، فلا تصح صلاة الجمعة من منفرد، لا في البيت كالمرأة والمريض، ولا في المساجد، بل لابد من الجماعة فيها، فلو قدر أن إنساناً صلى وحده يوم الجمعة، وقال: أريد أن تكون جمعةً، قلنا له: إن صلاتك غير صحيحة، ويجب عليك أن تعيدها، هذه الصلاة لابد فيها من جمع ثلاثة فأكثر، غيرها من الصلاة تنعقد باثنين؛ بإمام ومأموم، أما الجمعة فلابد فيها من الجمع ثلاثة فأكثر، واختلف العلماء رحمهم الله في العدد الذي لابد منه في صلاة الجمعة، فمنهم من قال: أربعون رجلاً، فلو كان هناك قرية صغيرة ليس فيها إلا ثلاثون رجلاً فإنهم لا يقيمون الجمعة؛ لأنه لابد أن يكون العدد أربعين.

وقال بعض العلماء: يكفي اثنا عشر رجلاً؛ لأن الصحابة الذين انفضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأوا التجارة لم يبق منهم إلا اثنا عشر رجلاً، وهذا يدل على أن اثني عشر رجلاً يكفي في عدد الجمعة.

ومنهم من قال: يكفي في عدد الجمعة ثلاثة، فلو فرض أن قرية ليس فيها مستوطنون سوى ثلاثة نفر فإنها تقام الجمعة؛ لأنه يحصل بها الجمع، إمام يخطب، ومؤذنٌ يدعو، ومأموم مجيب، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ [الجمعة:9] هذا من المنادي المؤذن، ولابد من خطيب ولابد من مدعو: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا [الجمعة:9] وهذا القول أرجح الأقوال: أنه يكفي في عدد الجمعة ثلاثة، إمامٌ يخطب، ومؤذن يدعو، ومأموم مجيب، فنقول: لو صلى الإنسان غير الجمعة كالظهر مثلاً، لو صلى وحده أتجزئه الصلاة؟

الجواب: نعم. تجزئه وتبرأ بها ذمته، لكن إن كان ممن تجب عليه الجماعة كان آثماً، وإن كان ممن لا تجب عليه الجماعة كان غير آثم.

الوقت شرط في صحة صلاة الجمعة

من خصائص هذه الصلاة العظيمة أنها لا تصح إلا في الوقت، ولهذا قال العلماء: من شروط صحة الجمعة: الوقت، وفي غيرها قالوا: من شروط الصلاة: دخول الوقت، وحينئذٍ نسأل: ما الفرق بين قولنا: من شروط صحة الصلاة الوقت، ومن شروط صحة الصلاة دخول وقت الصلاة؟ هل بين العبارتين فرق أو هما شيءٌ واحد؟ الفرق بين قولنا: من شروط صحة الصلاة دخول الوقت، وقولنا: من شروط صحة الصلاة الوقت، أننا إذا قلنا: من شروط صحة الصلاة الوقت فإنها لا تصح لا قبله ولا بعده، وإذا قلنا: من شروط صحة الصلاة دخول الوقت لم تصح قبله وصحت بعده، ولكن هل تصح الصلاة بعد الوقت لمن أخرها عمداً أو لا؟ لا تصح. ولمن أخرها نوماً أو نسياناً؟ تصح، الصلاة التي غير الجمعة لو أن إنساناً نام ولم يستيقظ، وليس عنده من يوقظه فلم ينتبه إلا حين خرج الوقت فإنها تصح، يصليها وصلاته صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها -متى؟- إذا ذكرها) هذا بالنسيان، وإذا استيقظ هذا في حق اليقظة، ولهذا لما نام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الفجر وهم في سفر فلم يستيقظوا إلا في طلوع الشمس صلاها ولم يدعها، لكن لو أخر الصلاة عمداً عن وقتها بلا عذر شرعي فهل تصح الصلاة؟ لا تصح، والدليل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ومؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون عمله مردوداً. وكذلك أيضاً ربما يستدل بقوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229] والمخرج للصلاة عن وقتها بلا عذرٍ متعدٍ لحدود الله فيكون ظالماً والظالم لا يقبل منه: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].

الجمعة لا تكون إلا في الأوطان

من خصائص صلاة الجمعة: أنها لا تكون إلا في الأوطان في المدن والقرى، أما غير الجمعة ففي أي مكان، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسافر الأسفار الطويلة وتمر به الجمعة ولم يكن يقيمها في السفر، ولو كانت الجمعة واجبة على المسافر لأقامها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واعجبوا أن يوم عرفة في حجة الوداع صادف يوم الجمعة، ومع ذلك لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة صلاة الجمعة كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بالوادي فخطب الناس -خطبة معروفة بليغة- ثم أمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر) هكذا قال جابر رضي الله عنه، ولقد ضل من قال: إن الجمعة تقام في السفر، وخرج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه إذا فعل أن يعيدها إن كان يريد إبراء ذمته وإقامة حجته عند الله عز وجل؛ لأن هذا ليس موضع اجتهاد حتى يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، هذا السنة فيه واضحة أجلى من النهار في ارتفاع الشمس، ولا عذر لأحد أن يقيم صلاة الجمعة في السفر إطلاقاً، لكن لو صادف أنك في بلد نازل تريد أن تواصل السفر في آخر النهار وجب عليك أن تصلي مع المسلمين؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] والمسافر من المؤمنين فيشمله الخطاب.

صلاة الجمعة لا يجمع إليها ما بعدها

ومن خصائص هذه الصلاة: أنه لا يجمع إليها ما بعدها، والذي بعدها ما هو الأصل؟ صلاة العصر، فلا تجمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة، فلو أن الإنسان كان مسافراً نازلاً من بلد، ويريد أن يواصل السير بعد صلاة الجمعة، وصلى مع الناس صلاة الجمعة؛ فإنه لا يضم إليها العصر، لماذا؟ لأن السنة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر، وصلاة الجمعة ليست صلاة ظهر بالاتفاق، لا أحد يقول: إن صلاة الجمعة صلاة ظهر، وعلى هذا فنقول: واصل السفر وإذا دخل وقت العصر وأنت في السفر فصل حيثما أدركتك الصلاة.

الجهر بالقراءة في صلاة الجمعة

ومن خصائص هذه الصلاة العظيمة: أن القراءة فيها تكون جهراً، وغيرها سراً، إلا ما كان مثلها في جمع الناس فتكون جهراً، ولهذا نرى أن صلاة العيدين تكون القراءة فيها جهراً، الكسوف جهر، حتى في النهار لو كسفت الشمس فالقراءة فيها جهر، الاستسقاء جهر؛ لأن الناس مجتمعون، فهذا الاجتماع الموحد جعل القراءة في الصلاة جهراً ولو كانت نهارية. إذاً: من خصائص صلاة الجمعة أن القراءة فيها جهر، بخلاف الظهر، وذلك من أجل أن يجتمع هذا الجمع الكبير على قراءة واحدة وهي قراءة الإمام.

ساعة الإجابة تصادف صلاة الجمعة

من خصائص صلاة الجمعة: أنها تصادف ساعة الإجابة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: (لا يوافقها عبدٌ مسلم وهو قائمٌ يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه) وهذه نعمة عظيمة، هذه ليست موجودة في صلاة الظهر مثلاً، لكنها في صلاة الجمعة، فأرجى ساعات الجمعة بالإجابة هي وقت الصلاة، وذلك لأمور: أولاً: لأن ذلك جاء في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه. وثانياً: أن هذا اجتماع من المسلمين على عبادة واحدة بقيادة واحدة، يعني: إمام واحد، وهذا الاجتماع يكون أقرب إلى الإجابة، ولهذا في يوم عرفة حين اجتمع المسلمون على صعيد عرفة ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا يباهي بهم الملائكة ويجيب دعاءهم، لذلك احرص يا أخي! على الدعاء في هذا الوقت وهو وقت صلاة الجمعة، لكن متى تدخل هذه الساعة ومتى تخرج؟ تدخل من حين أن يدخل الإمام إلى أن تقضى الصلاة، فلننظر الآن متى ندعو، دخل الإمام وسلم وبعد ذلك الأذان؛ الأذان ليس فيه دعاء فيه إجابة للمؤذن، بعد الأذان هناك دعاء، بين الأذان والخطبة هناك دعاء، تقول بعد الأذان: (اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة والقائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم مقاماً محموداً الذي وعدته، إنك لا تخلف الميعاد). ثم تدعو بما شئت، ما دام الخطيب لم يشرع في الخطبة فأنت في حل فادع الله بما شئت، كذلك أيضاً بين الخطبتين تدعو الله بما شئت من خيري الدنيا والآخرة، كذلك أيضاً في أثناء الصلاة في السجود: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقرب ما تكون من الرب وأنت ساجد، لماذا؟ لأن هذه الهيئة -أعني هيئة السجود- أكمل ذل للإنسان، أي عضو فيك أشرف؟ الوجه، أين تضعه في السجود؟ في الأرض موطئ الأقدام، فرأسك وجبهتك محاذية أصابع رجليك، بهذا الذل والخضوع العظيم صار الإنسان أقرب ما يكون من ربه جل وعلا؛ لأن من تواضع لله رفعه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد) استغل هذه الفرصة أكثر من الدعاء، بأي شيء تدعو؟ بالذي تريد من خيري الدنيا والآخرة، لو قال الإنسان في دعائه: اللهم ارزقني سيارة جميلة، يصلح؟ يصلح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليسأل أحدكم ربه حتى شراك نعله) حتى شراك النعل، ثم الدعاء نفسه عباده، فإذا دعوت الله بأي غرض، لو قال الطالب وهو في أيام الامتحان: اللهم ارزقني نجاحاً إلى درجة ممتاز، يصلح؟ يصلح، هذا دعاء لله تخاطب الله، والممنوع مخاطبة الآدميين، لكن مخاطبة الله بالدعاء ليست ممنوعة. ولكن هل هناك محل دعاء ثانٍ في الصلاة؟ بعد التشهد كما في حديث ابن مسعود حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم التشهد ثم قال بعده: (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) وكلمة: (ما شاء) عند علماء الأصول تفيد العموم؟ الدليل على أن الاسم الموصول يفيد العموم قوله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر:33] (أولئك هم) هذه جماعة، (والذي) مفرد، فما الذي أوجب أن يخبر عن المفرد بالجماعة؟ الذي أوجب ذلك أن الاسم الموصول يفيد العموم، ومثل ذلك اسم الشرط يفيد العموم، والدليل على هذا قول الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] فهذه تفيد العموم ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخيل وأثنى عليها وما فيها من الأجر، قالوا: يا رسول الله! فالحمر، قال: (لم ينـزل عليَّ فيها إلا هذه الآية الشاذة والفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة:7] * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:8]) هذه تعم كل شيء. إذاً: اسم الموصول يفيد العموم، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث ابن مسعود : (ثم ليتخير من الدعاء ما شاء) يفيد عموميتها، وأما قول بعض الفقهاء رحمهم الله: إنه لا يجوز للإنسان أن يدعو في صلاته بشيءٍ من ملاذ الدنيا؛ فإنه قولٌ ضعيف يخالف الحديث، وإذا كان الإنسان في أزمة اقتصادية فإلى من يلجأ؟ إلى الله، يدعو الله عز وجل. فصار عندنا الآن في ساعة الإجابة وقت صلاة الجمعة عدة مواطن للدعاء، فانتهز الفرصة يا أخي! انتهز الفرصة في الدعاء في صلاة الجمعة لعلك تصادف ساعة الإجابة. هناك أيضاً ساعة أخرى ترجى فيها الإجابة من نفس اليوم، وهي ما بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، لكن هذا القول أشكل على بعض العلماء وقال: إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (وهو قائمٌ يصلي) وبعد العصر لا توجد صلاة، أجاب عنهم العلماء، فقالوا: إن منتظر الصلاة في حكم المصلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ولا يزال في صلاةٍ ما انتظر الصلاة).

وجوب الغسل لصلاة الجمعة

ومن خصائص هذه الصلاة: أنه يجب الغسل لها كما يغتسل الإنسان للجنابة، يجب أن يغتسل لها كما يغتسل للجنابة وجوباً، في الشتاء وفي الصيف، الدليل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (غسل الجمعة واجبٌ على كل محتلم) (واجب) من القائل: واجب؟ الرسول عليه الصلاة والسلام وهو أعلم الخلق بشرع الله، ولا يمكن أن يطلق على شيءٍ مستحبٍ أنه واجب، لو كان كذلك لكان الأمر خطيراً فهو أعلم الخلق بشريعة الله، وهو أفصح الخلق بما ينطق به، وهو أنصح الخلق للخلق، نعم والله! أنصح الخلق للخلق، وهو أصدق الخلق خبراً، نعم. هو يقول: (غسل الجمعة واجب) بعد أن قدمت لك هذه المقدمات احكم أنت، غسل الجمعة واجب، ثم قرن الوجوب بما يقتضي التكليف وهو قوله: (على كل محتلم) لأن المحتلم هو الذي تجب عليه الواجبات، والمحتلم معناه: ليس الذي احتلم بالفعل، المحتلم بالفعل يجب عليه الغسل من الجنابة ولو في الإثنين والثلاثاء والأربعاء، لكن غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم. أظن أننا لو قرأنا هذه العبارة في مصنفٍ من مصنفات الفقه لم يبق عندنا شكٌ بأن المؤلف يرى الوجوب، فكيف والناطق به محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. ثم إن في الغسل فائدة للبدن تنشيطاً وتنظيفاً، ويدل للوجوب ما جرى بين عمر وعثمان رضي الله عنهما: كان عمر يخطب الناس فدخل عثمان في أثناء الخطبة فكأن عمر لامه على تأخره، قال: والله يا أمير المؤمنين! ما زدت على أن سمعت الأذان فتوضأت ثم أتيت -مشغول- قال له عمر أمام الناس وهو يخطب: والوضوء أيضاً -يعني: تقتصر على الوضوء أيضاً وتأتي متأخراً- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل) فكلمه بنوعٍ من التوبيخ، واستدل على ذلك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل).

لا راتبة قبل الجمعة

وكذلك أيضاً من خصائص هذه الصلاة العظيمة: أنه ليس لها راتبة قبلها، لأن المؤذن إذا أذن فالخطيب حاضر سوف يبدأ بالخطبة، وإن شاء التطوع بعد الخطبة حرام، ولو فعل لكان آثماً والصلاة غير مقبولة إلا فيمن دخل والخطيب يخطب فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين لما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أن رجلاً دخل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فجلس فقال: أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصلِ ركعتين وتجوز فيهما) لذلك ليس لها سنة قبلها، الظهر لها سنة راتبة قبلها أربع ركعات بتسليمتين، أما الجمعة فليس لها راتبة قبلها، لكن من جاء قبل الأذان الثاني فليتطوع بما شاء، بدون حد. هل لها راتبة بعدها؟ نعم. لها راتبة بعدها، ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصلي بعدها ركعتين في بيته، وقال: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) فعندنا الآن سنة قولية وسنة فعلية، القولية أربع ركعات، والفعلية ركعتان، كيف نجمع بينهما؟ هل نأخذ بالسنة الفعلية، أو بالسنة القولية، أو نأخذ بهما جميعاً، أو نفصل؟ كم الاحتمالات الآن؟ أربعة: هل نأخذ بالسنة القولية فنقول: سنة الجمعة أربع ركعات. أو بالسنة الفعلية فنقول: سنة الجمعة ركعتان. أو نجمع بينهما فتكون السنة ست ركعات. أو نفصل والتفصيل أذكره لكم إن شاء الله، فالاحتمالات أربعة: من العلماء من قال: السنة ركعتان في البيت؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]. ومن الناس من قال: السنة أربع، سواءٌ صلاها في البيت أو في المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً) وقوله مقدم على فعله عند التعارض. ومنهم من قال: الاحتياط أن يأتي بالسنة الفعلية والقولية فيصلي ستاً. أما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ففصل، قال: إن صلى في بيته فالسنة ركعتان فقط؛ لأن الرسول لم يزد على ركعتين في بيته، وإن صلى أربعاً ففي المسجد، وهذا تفصيلٌ لا بأس به. إذاً: تفارق الجمعة الظهر بأنه ليس لها راتبة قبلها، وراتبتها بعدها ركعتان إن صلى في البيت، وأربع إن صلى في المسجد.

من خصائص هذه الصلاة العظيمة أنها لا تصح إلا في الوقت، ولهذا قال العلماء: من شروط صحة الجمعة: الوقت، وفي غيرها قالوا: من شروط الصلاة: دخول الوقت، وحينئذٍ نسأل: ما الفرق بين قولنا: من شروط صحة الصلاة الوقت، ومن شروط صحة الصلاة دخول وقت الصلاة؟ هل بين العبارتين فرق أو هما شيءٌ واحد؟ الفرق بين قولنا: من شروط صحة الصلاة دخول الوقت، وقولنا: من شروط صحة الصلاة الوقت، أننا إذا قلنا: من شروط صحة الصلاة الوقت فإنها لا تصح لا قبله ولا بعده، وإذا قلنا: من شروط صحة الصلاة دخول الوقت لم تصح قبله وصحت بعده، ولكن هل تصح الصلاة بعد الوقت لمن أخرها عمداً أو لا؟ لا تصح. ولمن أخرها نوماً أو نسياناً؟ تصح، الصلاة التي غير الجمعة لو أن إنساناً نام ولم يستيقظ، وليس عنده من يوقظه فلم ينتبه إلا حين خرج الوقت فإنها تصح، يصليها وصلاته صحيحة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها -متى؟- إذا ذكرها) هذا بالنسيان، وإذا استيقظ هذا في حق اليقظة، ولهذا لما نام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن صلاة الفجر وهم في سفر فلم يستيقظوا إلا في طلوع الشمس صلاها ولم يدعها، لكن لو أخر الصلاة عمداً عن وقتها بلا عذر شرعي فهل تصح الصلاة؟ لا تصح، والدليل قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ومؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون عمله مردوداً. وكذلك أيضاً ربما يستدل بقوله تعالى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:229] والمخرج للصلاة عن وقتها بلا عذرٍ متعدٍ لحدود الله فيكون ظالماً والظالم لا يقبل منه: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21].

من خصائص صلاة الجمعة: أنها لا تكون إلا في الأوطان في المدن والقرى، أما غير الجمعة ففي أي مكان، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يسافر الأسفار الطويلة وتمر به الجمعة ولم يكن يقيمها في السفر، ولو كانت الجمعة واجبة على المسافر لأقامها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، واعجبوا أن يوم عرفة في حجة الوداع صادف يوم الجمعة، ومع ذلك لم يصل النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة صلاة الجمعة كما في حديث جابر الطويل الذي رواه مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بالوادي فخطب الناس -خطبة معروفة بليغة- ثم أمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر) هكذا قال جابر رضي الله عنه، ولقد ضل من قال: إن الجمعة تقام في السفر، وخرج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وعليه إذا فعل أن يعيدها إن كان يريد إبراء ذمته وإقامة حجته عند الله عز وجل؛ لأن هذا ليس موضع اجتهاد حتى يقال: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، هذا السنة فيه واضحة أجلى من النهار في ارتفاع الشمس، ولا عذر لأحد أن يقيم صلاة الجمعة في السفر إطلاقاً، لكن لو صادف أنك في بلد نازل تريد أن تواصل السفر في آخر النهار وجب عليك أن تصلي مع المسلمين؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9] والمسافر من المؤمنين فيشمله الخطاب.

ومن خصائص هذه الصلاة: أنه لا يجمع إليها ما بعدها، والذي بعدها ما هو الأصل؟ صلاة العصر، فلا تجمع صلاة العصر إلى صلاة الجمعة، فلو أن الإنسان كان مسافراً نازلاً من بلد، ويريد أن يواصل السير بعد صلاة الجمعة، وصلى مع الناس صلاة الجمعة؛ فإنه لا يضم إليها العصر، لماذا؟ لأن السنة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر، وصلاة الجمعة ليست صلاة ظهر بالاتفاق، لا أحد يقول: إن صلاة الجمعة صلاة ظهر، وعلى هذا فنقول: واصل السفر وإذا دخل وقت العصر وأنت في السفر فصل حيثما أدركتك الصلاة.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [2] 2513 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [4] 2480 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [1] 2298 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [5] 1772 استماع
دروس وفتاوى الحرم المدني لعام 1416ه [7،6] 1405 استماع