لقاء الباب المفتوح [215]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذا هو اللقاء الخامس عشر بعد المائتين من لقاءات الباب المفتوح التي تتم كل يوم خميس، وهذا الخميس هو العشرون من شهر جمادى الثانية عام (1420هـ).

نبتدئ هذا اللقاء بما ييسر الله عز وجل مما وقفنا عليه في تفسير القرآن الكريم، الذي أدعو فيه جميع المسلمين إلى أن يتدبروا كلام الله عز وجل؛ لأنه لا يمكن العمل بالقرآن إلا إذا فُهم معناه.

تفسير قوله تعالى: (وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض)

انتهينا إلى قول الله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:10] يعني أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله عز وجل، والمال ليس بباق لكم فإنكم سوف تخلّفونه، ولهذا قال: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:10] وقد قال بعض أهل العلم: إن الشح بإنفاق المال سفه في العقل، لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه، وإما أن يبقى بعد موتك فيرثه أهل الخير فينفقونه ويكون أجر الإنفاق لهم، أو يرثه أهل شر فيستعينون به على معصية الله، فأنت خاسر على كل حال، وهنا يقول الله عز وجل: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:10] فإنه لن يبقى هذا المال لكم بل سيورث وترجع الأمور كلها إلى الله تبارك وتعالى.

تفسير قوله تعالى: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل)

قال تعالى: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10] أي: لا يكونون سواءً، الذي أنفق من قبل الفتح -والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبين قريش، وذلك في ذي القعدة من العام السادس من الهجرة- وسمي فتحاً لأنه صار فيه توسيع للمسلمين، وتوسيع أيضاً للمشركين، اختلط الناس بعضهم ببعض وأمن الناس بعضهم من بعض، حتى يسر الله عز وجل أن نقضت قريش العهد فكان من بعد ذلك الفتح الأعظم فتح مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان.

تفسير قوله تعالى: (أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا...)

قال الله عز وجل: أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا [الحديد:10] وذلك لأن الأولين أنفقوا وقاتلوا وسبقوا إلى الإسلام، وكان الإسلام في حاجة لهم ولإنفاقهم فكانوا أفضل ممن أنفق من بعد وقاتل، والله سبحانه وتعالى يقضي بالعدل بين عباده، ولكن لما كان تفضيل السابقين قد يفهم منه ألا فضل للاحقين قال: وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى [الحديد:10] (كلاً) من الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا، والذين أنفقوا من بعده وقاتلوا، وعدهم الله الحسنى، يعني: الجنة.

تفسير قوله تعالى: (والله بما تعملون خبير)

قال تعالى: وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد:10] أي: عليم ببواطن أموركم كظواهرها لا يخفى عليه شيء، وإذا كان عالماً بها فسوف يجازي جل وعلا كل عامل بما عمل، قال الله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:7-8] والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ، والمراد بالحسنى: الجنة.

إذاً.. كل الصحابة وعدهم الله تعالى الجنة، فنحن نشهد لكل الصحابة أنهم في الجنة، لكن لا نشهد لأحد بعينه إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

تفسير قوله تعالى: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له وله أجر كريم)

ثم قال عز وجل حاثاً ومرغباً على الإنفاق في سبيله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11] أي: أين الذين يقرضون الله قرضاً حسناً، أي: ينفقون فيما أمرهم بالإنفاق فيه، وأشار الله في هذا إلى شيئين: الإخلاص والمتابعة، الإخلاص في قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [الحديد:11] أي: لا يريد سوى الله عز وجل، والمتابعة في قوله: حَسَناً [الحديد:11] لأن العمل الحسن ما كان موافقاً للشريعة الإسلامية، وهذان -أعني: الإخلاص والمتابعة- هما شرطان في كل عمل: أن يكون مخلصاً لله وأن يكون متابعاً فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

وصف الله تعالى الإنفاق في سبيله بالقرض تشبيهاً بالقرض الذي يقرضه الإنسان غيره؛ لأنك إذا أقرضت غيرك فإنك واثق من أنه سيرد عليك، وهكذا أيضاً العمل الصالح سيرد على الإنسان بلا شك، ولهذا قال: فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11] المضاعفة هنا الزيادة، وقد بيَّن الله تبارك وتعالى قدرها في سورة البقرة، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] فأنت إذا أنفقت درهماً، فإن جزاءه سبعمائة درهم ثواباً من عند الله عز وجل، والله فضله أكثر من عدله وأوسع، ورحمته سبقت غضبه، إذاً.. يضاعفه له إلى سبعمائة بل إلى أكثر، كما جاء في الحديث إلى أضعاف كثيرة وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ [الحديد:11] أي: حسن واسع وذلك فيما يجده في الجنة، ففيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.

تفسير قوله تعالى: (يوم ترى المؤمنين والمؤمنات.... )

ثم قال الله عز وجل: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [الحديد:12] أي: اذكر للأمة يوم ترى أيها الإنسان المؤمنين والمؤمنات يوم القيامة يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يكون من الأمام ومن اليمين، أما من الأمام فلأجل أن يقتدي الإنسان به، لأن النور إذا كان أمام الإنسان تبعه، وأما عن اليمين فتكريماً لليمين، يكون بين أيديهم وبأيمانهم.

وقوله: يَسْعَى نُورُهُمْ يفيد أن هذا النور على حسب الإيمان؛ لأن الحكم إذا علق بوصف كان قوياً بقوة ذلك الوصف وضعيفاً بضعفه.

إذاً.. نورهم على حسب إيمانهم.

قال تعالى: بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تقوله الملائكة لهم: (بشراكم) أي: ما تبشرون به (اليوم) يعني يوم القيامة جَنَّاتٌ وهذه الجنات فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ [الزخرف:71] فيها ما يشاءون كما قال الله عز وجل: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] وجمعها بأنها جنات متعددة متنوعة درجات مختلفة حسب قوة الإيمان والعمل.

وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أي: تسير والأنهار جمع نهر، وقد بين الله تبارك وتعالى في سورة القتال أنها أربعة أنواع أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً [محمد:15] وهذه الأنهار لا تحتاج إلى حفر ساقية ولا إلى جدولة، تسير على سطح الأرض حيث شاء أهلها، قال ابن القيم رحمه الله:

أنهارها من غير أخدود جرت      سبحان ممسكها عن الفيضانِ

لا تذهب يميناً ولا شمالاً إلا حيث أراد أهلها، وقوله: مِنْ تَحْتِهَا إشارة إلى علو قصورها وأشجارها، يعني: تكون هذه الأنهار من تحت هذه القصور العالية والأشجار الرفيعة خَالِدِينَ فِيهَا أي: ماكثين فيها، وقد جاءت آيات متعددة بأن هذا المكث دائم، ليس فيه زوال ولا انقطاع ولا تغير ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (ذلك) المشار إليه ما وعدهم الله به، الجنات التي تجري من تحتها الأنهار (هو الفوز العظيم) (هو) ما يسميه العلماء ضمير فصل، وهو مفيد للتوكيد والاختصاص، أي: هذا الذي ذُكر هو الفوز العظيم، لأنه لا فوز مثله كما أنه لا فوز أعظم منه، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهله إنه على كل شيء قدير.

انتهينا إلى قول الله تعالى: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:10] يعني أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله عز وجل، والمال ليس بباق لكم فإنكم سوف تخلّفونه، ولهذا قال: وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:10] وقد قال بعض أهل العلم: إن الشح بإنفاق المال سفه في العقل، لأن هذا المال إما أن يفنى في حياتك فتعدمه، وإما أن يبقى بعد موتك فيرثه أهل الخير فينفقونه ويكون أجر الإنفاق لهم، أو يرثه أهل شر فيستعينون به على معصية الله، فأنت خاسر على كل حال، وهنا يقول الله عز وجل: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [الحديد:10] فإنه لن يبقى هذا المال لكم بل سيورث وترجع الأمور كلها إلى الله تبارك وتعالى.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن صالح العثيمين - عنوان الحلقة اسٌتمع
لقاء الباب المفتوح [63] 3389 استماع
لقاء الباب المفتوح [146] 3345 استماع
لقاء الباب المفتوح [85] 3310 استماع
لقاء الباب المفتوح [132] 3288 استماع
لقاء الباب المفتوح [8] 3270 استماع
لقاء الباب المفتوح [13] 3255 استماع
لقاء الباب المفتوح [127] 3114 استماع
لقاء الباب المفتوح [172] 3086 استماع
لقاء الباب المفتوح [150] 3032 استماع
لقاء الباب المفتوح [47] 3028 استماع