سلسلة السيرة النبوية المشركون والدولة الإسلامية


الحلقة مفرغة

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فمع الدرس الثالث من دروس السيرة النبوية في العهد المدني.

تكلمنا في الدرسين الماضيين عن قواعد في غاية الأهمية لبناء الأمة الإسلامية، استخلصناها من مضمون العمل في خلال ثلاث عشرة سنة في مكة، واستخلصناها كذلك من الخطوات الأولى التي قام بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، هذه الخطوات في مجموعها تمثل حجر الأساس لصرح الأمة الإسلامية العظيم.

وسنقوم بتلخيص هذه الخطوات، بحيث تكون مجموعة في نقاط محددة معروفة، ثم نبدأ بعد ذلك إن شاء الله استكمال خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة.

أهم هذه الخطوات التي ذكرناها:

الأولى: الإيمان الكامل بالله عز وجل وبأحقيته الكاملة في التشريع للمسلمين، والإيمان الجازم بأنه سبحانه وتعالى له الخلق والأمر.

الثانية: الإيمان اليقيني بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغ عن رب العزة سبحانه وتعالى، ومن ثم فالتشريعات التي شرعها صلى الله عليه وسلم ليست من نتاج فكره أو اجتهاده، إنما هي وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى، وجبت علينا فيها الطاعة، كما وجب علينا الطاعة للقرآن الكريم تماماً بتمام.

وسنخرج من هاتين الخطوتين بشيء مهم جداً، وهو أن القرآن والسنة هما المصدران الرئيسان للتشريع في الأمة الإسلامية، وأن هذا ليس لنا فيه خيار، هو فرض من ربنا علينا سبحانه وتعالى، وبدون هذا المعنى لن تقوم أبداً أمة إسلامية ناجحة.

ولما نقول: القرآن والسنة المصدران الرئيسان للتشريع، فإننا نعني بذلك أن هناك مصادر أخرى للتشريع، مثل الاجتهاد، والقياس، والعرف، والمصالح المرسلة، وأقوال الصحابة .. وغيرهما، لكن بشرط ألا يتعارض كل هذا مع المصدرين الرئيسين للتشريع: القرآن، والسنة.

وهذا الكلام سيعطينا بعدًا ثانيًا للسيرة، سيجعلنا ندرس المصدر الرئيس الثاني للتشريع، وهو حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكيفية بنائه صلى الله عليه وسلم للأمة، وكلامنا عن خطواته ومعاملاته وغزواته ومعاهداته ما هو إلا كلام عن صلب الدين، ومن ثم لابد من التحليل الدقيق والدراسة المتأنية لكل موقف من مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مانع من تفريغ الأوقات، بل والأعمار لهذه الدراسة؛ لأنها سبب نجاتنا في الدنيا والآخرة.

إذًا: هاتان قاعدتان في منتهى الأهمية في بناء الأمة الإسلامية، تربية الشعب على الإيمان الكامل بالله رب العالمين، وتربية الشعب على الإيمان الكامل برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.

ومن قواعد بناء الأمة كذلك: التربية المتأنية للأمة على معنى مراقبة رب العالمين لكل أعمالنا، وأن هناك يوماً حتماً سيأتي، سيحاسب الله عز وجل فيه البشر أجمعين: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8].

ومن قواعد بناء الأمة كذلك: تفعيل دور المسجد في كل صغيرة وكبيرة في حياتنا.

ومن قواعد بناء الأمة كذلك: الوحدة بين المسلمين، ورأينا ذلك في توحيد الأوس والخزرج، ورأيناه كذلك في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وإزالة الفوارق القبلية بين المسلمين؛ ليصبح رباط العقيدة هو الرباط الرئيس الذي يربط بين المسلمين وليس الرباط الوحيد؛ لأن الإسلام لا ينكر العلاقات الإنسانية الطبيعية بين الإنسان ورحمه، والإنسان وعشيرته، ولكن يحددها في أطر شرعية محددة تفيد في بناء الأمة الإسلامية.

ومن قواعد بناء الأمة كذلك والتي فصلنا فيها أكثر من مرة: فقه ودراسة المتغيرات الموجودة في الواقع، وتحديد طرق التعامل مع كل أزمة بحسب حجمها، وحسب الظروف التي تصاحب كل أزمة، ومن ثم يضع المسلم الحل المناسب في ضوء الأطر الشرعية.

ونحن رأينا تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف كان مختلفاً مع كل أزمة بحسب طبيعتها، فنجد أنه انتهج نهجاً حكيماً جداً في التعامل مع النوعيات المختلفة من الأفراد والقبائل التي استلزمت المرحلة أن يتعامل معها، فمع الأوس والخزرج قام بالصلح بينهما على أساس العقيدة والدين، ومع المهاجرين قام بخطوات مرتبة منظمة لاستيعابهم في المجتمع المدني، بل وتفعيلهم في بناء الأمة، فتحول المهاجرون من عبء اقتصادي وسياسي واجتماعي على المدينة المنورة إلى قوة فاعلة تضيف إلى خير المدينة وقوتها.

كذلك تعامله مع المسلمين في الحبشة حيث استقدم صلى الله عليه وسلم بعضهم وأبقى بعضهم لحين استقرار الأوضاع.

وتعامله صلى الله عليه وسلم مع المسلمين في القبائل البعيدة عن المدينة وليسوا من أهل مكة؛ أبقاهم في قبائلهم لينشروا الإسلام فيها، ولكي يوسعوا نطاق الحركة الدعوية في الجزيرة العربية، ومع المستضعفين من المسلمين في مكة الذين لا يستطيعون الهجرة، أمرهم بكتمان الإسلام قدر المستطاع، وتجنب الصراع مع المشركين؛ لكي لا يستأصل هذا الدين، إلى أن يأتي الله عز وجل بأمره.

ومع المشركين من الأوس والخزرج كانت إستراتيجيته صلى الله عليه وسلم في التعامل مع هؤلاء هي الدعوة بالتي هي أحسن، ومحاولة ضم العناصر الطيبة منهم إلى الأمة الإسلامية، وحاول قدر المستطاع أيضاً أن يتجنب الصدام أو الصراع معهم؛ حتى لا يدخل في صراعات داخلية تضعف من بنيان الأمة الإسلامية الناشئة، ومع المشركين من الأعراب حول المدينة حاول أن يصل بالدعوة إليهم قدر ما يستطيع، ثم أظهر لهم القوة حتى لا يفكروا في الإغارة على المدينة المنورة، أو على قوافل المسلمين حول المدينة المنورة، خاصة أن قبائل العرب هذه اشتهرت بالسلب والنهب.

ومع القبائل المشركة الكبرى حول المدينة عقد معاهدات ومحالفات تقوم أساساً على حسن الجوار وعدم الاعتداء، ومن هذه القبائل كما ذكرنا في الدرس الماضي قبيلة جهينة في غرب المدينة المنورة.

فهذه طوائف مختلفة تعامل معها صلى الله عليه وسلم، بقيت لنا طائفتان في غاية الأهمية:

الطائفة الأولى: هي طائفة المشركين في قريش.

والطائفة الثانية: طائفة اليهود.

فالتعامل مع هاتين الطائفتين لا بد أن يوضع في خلفية الآية الكريمة المعجزة، التي لخص الله عز وجل فيها قصة هاتين الطائفتين مع أمة الإسلام، قال الله عز وجل في إيجاز معجز يفسر لنا إستراتيجية هؤلاء المشركين واليهود في تعاملهم مع المسلمين، قال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] في ضوء هذه الآية سنفهم أفعال مشركي مكة ويهود المدينة، وسنفسر المواقف التي حدثت معهما.

قريش أكبر قبيلة وأعز قبيلة عربية، لها تاريخ مجيد، وليس من المعتاد في الجزيرة العربية أن تقف قبيلة في مواجهتها، بل كل القبائل تحرص على إقامة علاقات دبلوماسية قوية مع قريش؛ لأن قريشاً ترعى البيت الحرام، وتهتم بأمور الحجاج في مكة، ولها مكانة في قلوب العرب.

فإذا وضعت هذه الخلفية في تحليلك فلا شك أن قريشاً لن تسكت أبداً عن الطعن الخطير الذي وجهه الأوس والخزرج لكبريائها، عندما استضافوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين.

فالمسألة أصبحت مسألة كرامة وعناد وكبرياء عند قريش؛ حاول أكابر قريش وزعماؤها بشتى الطرق أن يقتلوا هذه الدعوة في مهدها، لكنهم لم يستطيعوا، وليس من السهل لهؤلاء الأسياد أن يسلِّموا بالهزيمة.

وقريش لها علاقة قوية بالأوس والخزرج، فقد كان بينهم تعاون وتحالف وتجارة وإجارة، بل كان بينهم مصاهرة وزواج، فأخوال الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه كانوا من بني النجار من الخزرج، ولا شك أن هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ستؤثر سلباً على علاقة قريش بالأوس والخزرج، وقد يتلو ذلك آثار اقتصادية واجتماعية وسياسية، وستكون هناك آثار كبيرة ووخيمة على أهل مكة، فقريش تعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذهب إلى المدينة المنورة حيث يسكن اليهود، ولو أسلم اليهود فإن هذا سيضيف قوة كبيرة جداً إلى قوة المسلمين.

فاليهود لديهم سلاح وحصون وعتاد وأفراد وأموال، وقد توقع القرشيون أن يسلم اليهود؛ وذلك لأنهم أهل كتاب، يتحدثون عن الإله الواحد، ويتحدثون عن الرسل والكتب السماوية، بل إنهم يتحدثون عن ظهور نبي في هذه الفترة من الزمان، فلا يستبعد أبداً إسلامهم كما في تحليل قريش.

وبالإضافة إلى كل هذه العوامل فإن المدينة المنورة تقع على طريق التجارة من مكة المكرمة إلى الشام، وأن وفود المسلمين في هذه المنطقة كقوة ودولة سيهدد مصالح قريش التجارية بقوة، وسيضرب اقتصاد مكة بضربات موجعة، فمن المستحيل أن تترك قريش دولة الإسلام هكذا دون مقاومة.

من أجل ذلك كله كان من المتوقع أن قريشاً لن تنسى قصة الرسول عليه الصلاة والسلام وهجرته للمدينة، مع أنه صار بعيداً عنها حوالي (500) كيلو متر، وهكذا تبقى السنة الإلهية الواضحة في كتاب الله العزيز سبحانه وتعالى، قال تعالى: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

المراسلات والمفاوضات مع مشركي المدينة وكيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم معهم

اختارت قريش طريق العلاقات الدبلوماسية والمراسلات والمفاوضات مع أهل المدينة، لكنها كانت مفاوضات تحمل تهديداً خطيراً للمدينة المنورة، لم تكن في صورة عهود ومواثيق؛ بل كانت في صورة تهديد مباشر من القوة الأولى في الجزيرة العربية لقوة الأوس والخزرج.

راسلت قريش زعيم المشركين في المدينة عبد الله بن أبي ابن سلول ، واستغلت رغبة عبد الله بن أبي ابن سلول في الملك والسيادة، وكراهيته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغلت طبيعته الخائنة التي لا تقدر على المواجهة، فأرسلت إليه وإلى مشركي المدينة بصفة عامة رسالة، ذكرها أبو داود في سننه، تقول قريش لـعبد الله وأصحابه في هذه الرسالة: إنكم آويتم صاحبنا، وإنا نقسم باللات والعزى لتقتلنه أو لتخرجنه، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم، ونستبيح ذراريكم. تهديد مباشر لمشركي الأوس والخزرج بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم أو بقتله، وجاء التهديد موافقاً لهوى عبد الله بن أبي ابن سلول ؛ ولذلك فقد أخذ قراراً في منتهى الخطورة، إذ جمع المشركين من الأوس والخزرج وقرر أن يقاتل المسلمين من الأوس والخزرج، وهكذا تناسى عبد الله بن أبي ابن سلول تماماً عداءه القديم مع الأوس، تناسى الثارات العميقة والدماء التي سالت بين القبيلتين قبل ذلك، لم يعد يذكر إلا الحرب العقائدية الآن، سيقاتل المسلمين من أبناء الخزرج، وسيضع يده في يد المشركين من أبناء الأوس، فقد يظن البعض أن هذا غريب، لكنها حقيقة متكررة وسنة ثابتة، دائماً يجتمع أهل الباطل على اختلاف تصوراتهم وعقائدهم وطرقهم في التفكير لحرب المسلمين.

ستجدون ذلك متكرراً في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي الفتوح الإسلامية فتوح فارس والروم والأندلس، وفي الحروب الصليبية وحروب التتار، وفي احتلال أوروبا للعالم الإسلامي في القرن التاسع عشر والعشرين، وستجدونه الآن في أكثر من بقعة من بقاع العالم، وفي أكثر من نقطة من نقاط الصراع بين المسلمين وغيرهم، اتفاق اليهود مع النصارى، واتفاق اليهود مع الهندوس، واتفاق أمريكا مع روسيا، واتفاق إنجلترا مع فرنسا، واتفاق الشيوعيين مع الرأسماليين، ومع الاختلاف البين لهذه المدارس، إلا أنهم يتفقون ويتجمعون إذا كان عدوهم الإسلام، فالحرب عقائدية في المقام الأول، قال تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً [النساء:89].

فجمع عبد الله بن أبي ابن سلول المشركين من الأوس والخزرج لحرب المؤمنين من الأوس والخزرج، وتجمع كذلك المسلمون لحرب المشركين، بوادر حرب أهلية خطيرة، وفتنة طائفية داخلية ستنشب بين المسلمين وطائفة أخرى على غير دينهم، تعيش معهم في داخل البلد الواحد.

حينها جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وحاول قدر المستطاع أن يوقف الصراع قبل أن يبدأ، وصل إليهم بالفعل قبل القتال، لكنه لا يستطيع هنا أن يذكر بالجنة والنار والعقيدة والمبادئ الإسلامية؛ لأن هناك مشركين، فلا يستطيع أن يقول لهم: قال الله وقال الرسول، فأخذ الرسول عليه الصلاة والسلام يضرب على وترين في منتهى الأهمية، وهما وتران يمثلان عاملاً مشتركاً بين الفريقين.

الوتر الأول: وتر التحدي وإثارة النخوة والعزة والإباء، وكل هذه معانٍ يفتخر بها العرب كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مشركين، قال لهم: (لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ، ما كانت قريش تكيدكم بأكثر مما تريدون أن تكيدوا به أنفسكم). وهكذا حرك فيهم عنصر التحدي لقريش، وأخذ يلفت الأنظار إلى مكيدة قريش، ويقول لهم: لستم أنتم الذين تخدعكم قريش بمكيدة مكشوفة كهذه.

الوتر الثاني كان في منتهى الأهمية أيضاً: وتر الرحم والقبيلة. قال لهم: (تريدون أن تقاتلوا أبناءكم وإخوانكم؟) هل سيقتل الأوسي أوسياً؟ هل سيقتل الخزرجي خزرجياً؟ هل سيقتل اليثربي يثربياً من نفس الوطن، ويعيش نفس الظروف ويتعرض لنفس المخاطر؟ وهكذا ذكرهم جميعاً بالمواطنة ليثرب.

فلما سمع القوم هذا الكلام تفرقوا جميعاً مسلمهم ومشركهم، فهذه حكمة نبوية بالغة أنهت الفتنة الطائفية في داخل البلد الواحد تماماً، وأشد الناس فرحاً بهذه الفتنة الطائفية هم أعداء الأمة، فطرف ينهي طرفاً آخر، وطرف يقضي على طرف آخر، وهكذا كسرت شوكة الدولة دون عناء من الأعداء، وهذا الذي كانت تريده قريش، فالقائد الحكيم صلى الله عليه وسلم منع ذلك باقتدار، وعلى كل المخلصين لهذا الدين أن يستوعبوا هذا الدرس تماماً، فما أكثر ما تثار الفتن الطائفية في البلاد الإسلامية، ولا تجر على البلد إلا الويلات والدمار، بل ما أكثر ما تثار الفتن بين المسلمين والمسلمين، جماعة تحارب جماعة، أو سلطة تحارب جماعة، والجميع في مرتبة واحدة، وقد رأينا ذلك في فلسطين والعراق والأردن ومصر وليبيا والجزائر .. وفي غيرها وغيرها.

فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلمنا كيف نتجنب الصراع الداخلي بكل وسيلة، وبما يناسب الأفراد الواقعين في الفتنة، يعلمنا كيف نعرف الأرضية المشتركة بيننا وبين من يعيش معنا في البلاد، يعلمنا كيف نوحد لغة الحوار، وكيف يمكن أن نزرع فكرة المواطنة في نفوس كل من يسكن على أرض الوطن، بغض النظر عن دينه وعن عرقه وأصله، فهو منهج في غاية الحكمة؛ لذلك فشل المخطط الأول لقريش.

استخدام قريش للحرب النفسية على المسلمين

قامت قريش بالحرب النفسية على المسلمين بعد فشلها في إثارة الفتنة في المدينة بين المسلمين والمشركين أرسلت قريش رسالة إلى المسلمين، قالت: لا يغرنكم أنكم أفلتمونا إلى يثرب، سنأتيكم فنستأصلكم ونبيد خضراءكم في عقر داركم. هذا أسلوب قديم وحديث، وما زلت قريش تستخدم التهديد والوعيد.

وهذا وإن كان يحتمل أنه من قبيل الحرب النفسية الوهمية على المسلمين، إلا أن المسلمين أخذوه مأخذ الجد والاعتبار، فالعقل لا يمنع أن تغزو قريش المدينة المنورة، أو أن تخطط لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد حاولوا أن يقتلوه أكثر من مرة، وآخرها كانت المحاولة التي تمت قبل الهجرة بقليل، وأرادوا أن يضربوا عنقه صلى الله عليه وسلم بأربعين سيفاً في وقت واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل كما كانوا يقولون، ورصدوا لمن يقتله أو يأسره مائة من الإبل وهو مبلغ ضخم جداً، فلا يستبعد أبداً أن ترصد قريش مائة من الإبل لمن يتسلل إلى داخل المدينة؛ ليقتل الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لذلك فإن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يبيت ساهراً حذراً من غدر قريش، وفي يوم من الأيام تعب صلى الله عليه وسلم من كثرة السهر، روى البخاري ومسلم : أن السيدة عائشة قالت: قال صلى الله عليه وسلم: (ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، قالت: فبينما نحن كذلك سمعنا خشخشة سلاح، فقال: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما جاء بك؟ قال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه، فدعا له صلى الله عليه وسلم بخير ثم نام).

هذا كان حال المسلمين في المدينة المنورة، الموقف فعلاً كان متأزمًا، وهذا الأمر لم يكن عارضاً، بل كان أمراً مستمراً، لم تقف حراسة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن عصمه الله عز وجل من الناس، وذلك لما نزل قول ربنا سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:67].

لما نزلت هذه الآية أخرج صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة وقال: (يا أيها الناس! انصرفوا عني فقد عصمني الله عز وجل) وأوقف صلى الله عليه وسلم الحراسة بذلك، وهذه خاصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد لعموم القيادات الإسلامية أن تحمي نفسها من أعدائها.

كما أن هذا التهديد لم يكن خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل كان لكل المؤمنين في المدينة المنورة، وخاصة القيادات الإسلامية، ونحن لا ننسى أن قريشاً رصدت مائة من الإبل لمن يأتي بـأبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه حياً أو ميتاً. يقول أبي بن كعب رضي الله عنه: (لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المدينة وآوتهم الأنصار رمتهم العرب عن قوس واحدة، وكانوا لا يبيتون إلا بالسلاح، ولا يصبحون إلا فيه) فاغتيال الزعامات الإسلامية هدف لأعداء الأمة، لكن هذا التهديد لم يجد مع المسلمين.

قطع قريش للعلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة

لم ينجح تهديد قريش ولا وعيدها، فقامت بقطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة المنورة، وهددت بمنع أهل المدينة من زيارة البيت الحرام، مع أن البيت الحرام ليس ملكاً لقريش، وأعراف الجزيرة العربية وقوانينها بل وقوانين قريش نفسها تقضي بأن الذي يريد البيت الحرام لا بد أن يعطى الأمان، بل ويكرم ويخدم ويرعى، وكانت قريش تفتخر على غيرها من القبائل بأنها تسقي الحجيج وتعمر المسجد الحرام، ومع كل هذا تنكرت لكل ذلك، وقررت أن تنسى قوانينها أو تتناساها، وتتعربد في الأرض كما يحلو لها.

روى البخاري رحمه الله قصة ذكر فيها: أن سعد بن معاذ رضي الله عنه سيد الأوس انطلق إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف -كان صاحبه في الجاهلية- فقال لـأمية : انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت، فخرج به أمية بن خلف وذهب سعد ليطوف، فلما طاف سعد بن معاذ بالبيت الحرام قابله أبو جهل ، فقال أبو جهل يخاطب أمية بن خلف ويتجاهل تماماً سعد بن معاذ مع أنه يعرفه: يا أبا صفوان ! من هذا معك؟ فقال: هذا سعد .

وكان أبو جهل يعرف سعداً ؛ لأن أمية بن خلف يقول: هذا سعد . دون تعريف كامل، فلم يقل له: هذا سعد بن معاذ سيد الأوس. فقال أبو جهل مخاطباً سعداً : ألا أراك تطوف بمكة آمناً، وقد آويتم الصباة، وزعمتم أنكم تنصرونهم وتعينونهم؟ أما والله لولا أنك مع أبي صفوان ما رجعت إلى أهلك سالماً.

فهذا تهديد خطير، وكأن أبا جهل قد فقد صوابه وحنكته، وفقد كل حكمته في التعامل مع قبيلة قوية كقبيلة الأوس أو الخزرج، فقال سعد بن معاذ رافعاً صوته كما في رواية البخاري ، يرد عليه بقوة: أما والله لئن منعتني هذا -أي: لئن منعتني من الطواف بالبيت الحرام- لأمنعك مما هو أشد عليك منه، طريقك على أهل المدينة.

فهذا موقف جليل من الصحابي الجليل سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه يحتاج منا إلى وقفة، فالتذلل والخضوع والخنوع لزعماء الكفر وقادة الضلال وجبابرة الأرض لا يزيدهم إلا كبراً وغطرسة وظلماً وجوراً، أما الوقوف هذه الوقفة الجادة الحاسمة فلا شك أنه يزلزل كيانهم ويهز أعصابهم، ونحن نلاحظ أن سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه كان واقعياً جداً في تهديده، يعني: لم يهدده بقتل أو بغزو مكة أو بالقدوم إلى مكة للعمرة رغماً عن أنفه، ولكن هدده بما يملك.

هنا سعد بن معاذ لم يفقد مصداقية كلامه، بل كان كلامه في غاية التأثير، فهو رضي الله عنه وأرضاه يعرف مواطن القوة عنده وما بيده ويعرف ما يضعف عدوه ويعرف مصالح مكة، فهذا موقف رجولي يليق بمؤمن.

قد يقول قائل: لماذا رد سعد بن معاذ رضي الله عنه بغلظة هكذا على أبي جهل ؟ بينما رد الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بلطف ولين على عبد الله بن أبي ابن سلول المشرك الخزرجي، مع أنه أيضاً أساء له القول قبل ذلك؟

الجواب: لاختلاف الظرف واختلاف المكان واختلاف الشخص المشرك الذي تم الحوار معه، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يتحاور مع عبد الله بن أبي ابن سلول زعيم المشركين في يثرب وقبيلته الخزرج، والخزرج لم تقف سداً منيعاً أمام الإسلام كما فعلت قريش، بل على العكس، فإن عدداً كبيراً جداً من الأنصار هم من قبيلة الخزرج، كما أن المشركين من قبيلة الخزرج بما فيهم عبد الله بن أبي بن سلول لم يسمعوا عن الإسلام إلا منذ فترة وجيزة، ولم يختلطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين اختلاطاً كافياً؛ فلذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يؤمل كثيراً في إسلامهم، ويعتقد أنهم بطبيعتهم الرقيقة المشهورة عن أهل المدينة سيميلون إلى الإسلام عاجلاً أو آجلاً؛ لذلك هو لا يريد تصعيد الموقف مع قبيلة الخزرج، بل يريد امتلاك القلوب وإقناع العقول، وهذا كله يتطلب رفقاً في التعامل وليناً في الكلام.

أما موقف سعد بن معاذ رضي الله عنه وأرضاه مختلف تماماً، فهو موقف مع واحد من أكابر مجرمي قريش، بل مع أعتى عتاتها وأفجر فجارها، موقف مع فرعون هذه الأمة، وبث الرعب في قلبه أمر مطلوب، وإشعاره بالقلق والاضطراب واجب شرعي، وإثارة خوفه على ماله وسلطانه عمل إستراتيجي للمسلمين.

وتاريخ أبي جهل يشير إلى أنه لن يؤمن، خاصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليه قبل ذلك وقال: (اللهم عليك بـأبي جهل)؛ لذلك فإن سعد بن معاذ لا يؤمل في إسلام أبي جهل لا من قريب ولا من بعيد، فكان قراره حاسماً في ذلك، وهو الوقوف بصلابة في وجه أبي جهل لتسجيل نقطة لصالح المسلمين.

وهذه الوقفة لن تخيف أبا جهل على ماله فقط، بل تخيفه أيضاً من الأنصار رضي الله عنهم، فإنه سيعلم أن الأنصار الذين وعدوا بحماية الرسول صلى الله عليه وسلم وافون بوعدهم، وحريصون على عهودهم ومواثيقهم، وجاهزون تماماً للتضحية بعلاقاتهم وأموالهم، بل وأرواحهم في سبيل الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فلا شك أن رد سعد بن معاذ أثر في نفسية جبار قريش أبي جهل ، ومن هنا كان الاختلاف بين الموقفين: موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع عبد الله بن أبي ابن سلول ، وموقف سعد بن معاذ مع أبي جهل ، وكلاهما صحيح، وكلاهما حكيم، لكن اعرف الظرف تدرك الحكمة، وانظر في خلفيات وملابسات الحدث تخرج بدروس وعظات لا تقدر بثمن.

التضييق الاقتصادي من قريش على المدينة المنورة وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك

رأينا التعامل مع بعض الرموز المشركة في داخل المدينة المنورة، ورأينا الحرب النفسية على المسلمين والتهديد والوعيد، ورأينا قطع العلاقات الدبلوماسية مع المدينة، وذلك لما قطع أبو جهل علاقاته مع سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، رأينا تغيير القوانين والتنكر للأعراف ونكث العهود، ومنع المسلمين من الوصول إلى مكة ظلماً وقهراً، هل اكتفت قريش بهذا كله؟ لا، لم تكتف بذلك، بل بدأت في تنفيذ خطوة أخرى، وهي عملية التضييق الاقتصادي على المدينة المنورة، وذلك بالتأثير على القبائل التي حول المدينة والمنورة، وبالاتصال أيضاً باليهود الذين يعيشون في داخل المدينة المنورة؛ لمنعهم من التعامل مع المسلمين.

استغلت قريش ما لها من نفوذ وعلاقات بالقبائل المختلفة؛ لتحاصر المسلمين وتضيق عليهم، لكن هذه الوسيلة مع خطورتها لم يكن لها التأثير الكافي على الدولة الإسلامية؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم نزل فيه المدينة المنورة قد عمل في حسابه أنه سيقابل مثل هذه المعضلة، وهي معضلة الحصار الاقتصادي من قريش للمدينة المنورة؛ لذلك خطط النبي صلى الله عليه وسلم تخطيطاً في غاية الإبهار للخروج من الأزمة الاقتصادية، أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم من اللحظة الأولى التي بدأ يخطط فيها لبناء الأمة الإسلامية أن الأمة الإسلامية لا يمكن أن تبنى إلا على أكتاف أبنائها، والاقتصاد المسلم إذا كان معتمداً على الآخرين فإنه سيصبح اقتصاداً هشاً ضعيفاً لا قيمة له، فما بالكم لو كان يعتمد على عدو أو يعتمد على يهود؟

والموقف عند هجرة المسلمين للمدينة المنورة كان صعباً جداً، والمدينة لم تكن فقيرة فقط، بل إن اقتصادها إلى درجة كبيرة جداً كان في يد اليهود، فسوق المدينة الرئيس هو سوق بني قينقاع، ولعله السوق الوحيد في المدينة، والتجارة في معظمها تتم في داخل هذا السوق، حتى إن كبار التجار من الأنصار كانوا لا يتعاملون إلا في داخل هذا السوق، والأخطر من التجارة والسوق والمال هو الماء، والماء كان أيضاً في يد اليهود، وكان أهل المدينة يشترون الماء من الأبيار التي يمتلكها اليهود، وأشهر هذه الأبيار بئر رومة المشهور.

فماذا لو حدث اتفاق بين قريش واليهود؟ وماذا لو منع اليهود تجارتهم عن المسلمين ومنعوا ماءهم عن المسلمين؟ لا شك أن هذا موقف لا يحسد عليه أحد؛ لذلك خطط الرسول عليه الصلاة والسلام من أول يوم للخروج من هذه الأزمة بمنتهى المهارة والدقة، سطر لنا أصولاً أصبحت من الثوابت في التشريع الإسلامي.

والتفصيل لهذه الوسائل يحتاج إلى وقت طويل إن شاء الله في محاضرتين خاصتين:

الأولى: الرسول صلى الله عليه وسلم والخروج من الأزمة الاقتصادية، والثانية: الرسول صلى الله عليه وسلم وعلاج مشكلة الفقر. لكن الآن سنوجز بعض العناوين المهمة في الخروج من الأزمة الاقتصادية.

أولاً: حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على توفير الماء المملوك للدولة الإسلامية، فالماء سلعة إستراتيجية، ولن تقوم دولة بلا ماء؛ لذلك روى أحمد والنسائي عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، كان بئر رومة ملكاً ليهود، فابتاعها عثمان بن عفان رضي الله عنه، ثم ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: (يا رسول الله! ابتعتها بكذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجعلها سقاية للمسلمين وأجرها لك، فقال: اللهم نعم).

إن عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه اقتصادي إسلامي كبير، وجه جهده كله لشراء ما ينفع الأمة ويفيدها بدلاً من التجارة في شيء من الرفاهيات أو الكماليات، وهذا كان بتوجيه من الرسول عليه الصلاة والسلام، يوجهه لشراء السلع الإستراتيجية، ومن هذه السلع الإستراتيجية الماء، وقد تكون هذه السلعة شيئاً آخر، قد تكون بترولاً أو قمحاً أو قطناً أو طاقةً نووية حسب الظروف.

هناك أمر في غاية الأهمية وهو أهمية التربية الإيمانية في بناء الأمة الإسلامية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك شيئاً دنيوياً يعوض به عثمان بن عفان عن الماء الذي اشتراه، ولا يتوقع أن يشتري المسلمون منه ذلك الماء لأنهم فقراء؛ لذلك فإنه حفزه بما في الآخرة، قال له: (من يبتاع بئر رومة ويغفر الله له)، وفي رواية: (وله الجنة) ولو لم يكن إيمان عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه يقينياً في الله عز وجل وفي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وفي الجنة والنار لما هان عليه أن يدفع آلاف الدراهم دون عائد دنيوي، ولم يكن لهذه المشكلة أبداً أن تحل دون تطوع من اقتصادي مسلم غني يرغب في ثواب الآخرة؛ لأن بيت مال المسلمين لم يكن فيه مال.

لذلك كخطوة أولى قبل بناء الدولة لا بد من الاطمئنان على إيمان وعقيدة الجنود، الذين ستبنى على أكتافهم هذه الدولة، وبهذه الخطوة الجبارة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء لأمته.

ثانياً: الاستقلالية عن سوق اليهود، وإنشاء السوق الإسلامي الحر المعتمد على نفسه.

فالرسول عليه الصلاة والسلام علم أن الدولة الإسلامية لا يمكن لها أن تقوم في المدينة ما دامت تعتمد على سوق بني قينقاع اليهودي؛ لذلك أمر الصحابة من أول يوم أن يبحثوا عن مكان مناسب في المدينة المنورة؛ ليصبح سوقاً للمسلمين يتحكم في تجارته المسلمون، ويدار على شرع المسلمين وقانونهم.

واجتهد الصحابة رضي الله عنهم في البحث عن مكان مناسب، ذهبوا هنا وهناك وذهب الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه إلى أكثر من موضع، ولم يعجبه في البداية المواضع المختارة، إلى أن رأى موضعاً يصلح من حيث المساحة والموقع. قال: (هذا سوقكم).

روى الطبراني وابن ماجه رحمهما الله عن أبي أسيد رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بأبي أنت وأمي! إني قد رأيت موضعاً للسوق أفلا تنظر إليه؟ قال: بلى. فقام صلى الله عليه وسلم معه حتى جاء موضع السوق، فلما رآه أعجبه وركضه برجله، وقال: نعم، هذا سوقكم فلا ينتقصن) أي: لا ينتقصن من قيمة هذا السوق ولا من أرضه.

قال: (ولا يضربن عليه بخراج) أي: لا يصح للحاكم أن يضع قيوداً أو ضرائب على من يريد أن يتاجر في هذا السوق من المسلمين؛ حتى يشجع التجارة الإسلامية في هذا السوق، وسبحان الله! نجد عكس الكلام هذا الفعل في كثير من البلدان الإسلامية، تجد قيوداً على رءوس المال الوطني، وتجد تسهيلات لرءوس المال الأجنبي، فتنتشر رءوس المال الأجنبية وأحياناً المعادية في بلاد المسلمين، وتنعش التجارة نسبياً فترة من الزمن لكن بصفة مؤقتة، ثم يصبح السوق بعد ذلك معتمداً عليها، وبالتالي تصبح القرارات الإستراتيجية الخطيرة في الاقتصاد والسياسة بيد هذه الشركات الأجنبية.

فالرسول صلى الله عليه وسلم كان كيساً فطناً، فمن أول يوم أنشأ سوقاً إسلامياً خالصاً، وبدأ المسلمون يهجرون سوق بني قينقاع، ويتعاملون مع السوق الإسلامي، فكانت مقاطعة محمودة، وهذه المقاطعة لم تكن سلبية، بل كانت إيجابية، إيجابية بإنشاء السوق البديل، إيجابية بإنشاء البضائع الموازية لبضائع اليهود وغيرهم، ولا شك أن السوق الإسلامية في أولها كانت ضعيفة عن السوق اليهودي، لكن مع مرور الوقت قويت شوكة الاقتصاد الإسلامي، ووقف على أقدامه معتمداً على نفسه.

هذا الاهتمام من الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن فقط في أول الدعوة، ولم يكن أمراً لحظياً عابراً في حياته صلى الله عليه وسلم، بل ظل طيلة عمره صلى الله عليه وسلم يحفز الناس على إقامة اقتصاد إسلامي قوي، سواء لهم كأفراد أو للأمة الإسلامية كأمة، حفز على التجارة والزراعة والصناعة، وعلى أي عمل مهما كان بسيطاً، وربط كل هذا بالأجر والثواب عند الله عز وجل، وربطه أيضاً بعزة المسلم والأمة في الدنيا، وأتبع كل ذلك بالتشريعات والقوانين التي تكفل سهولة ودقة التعامل الاقتصادي، وتحفظ للجميع حقوقهم، وتعرفهم بما لهم وما عليهم، وهذا أيضاً عرف المسلمين أن الفساد بكل صوره حرام، وحرم الرشوة والسرقة والاختلاس والإسراف والتهرب من الزكاة، وبهذا حفظ للدولة مالها وحقوقها، وحفظ كذلك للشعب ماله وحقه، وظهرت البركة في المال القليل.

ومع أن المسلمين كانوا فقراء جداً في أول عهد المدينة المنورة، لكن المال زاد وتحسن الاقتصاد، وخرج المسلمون من أزمتهم بنجاح، بفضل الله عز وجل وبفضل التشريع الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

قال تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الأعراف:96] هذه البركات رأيناها في المدينة المنورة.

إذاً: هذه النظرة الاقتصادية الثاقبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ضيعت على قريش فرصة محاربة المسلمين اقتصادياً، وضيعت عليهم التحالفات التي كانوا يعقدونها مع اليهود وغيرهم، وخرج المسلمون فعلاً من عنق الزجاجة، وباتوا يعتمدون على أنفسهم في حياتهم، ومن لا يملك قوته لا يملك رأيه.

استخدام قريش الغارات على المدينة المنورة

كل هذه المحاولات الفاشلة من قريش لاستئصال خضراء المسلمين لم تمنع قريشاً من استمرار المحاولة والكيد والتدبير.

لما لاقت قريش هذه الصلابة في المقاومة؛ وهذه العبقرية في الأداء الإسلامي، وهذه الاحتراسية الدقيقة في بناء الأمم، لم تجد أمامها إلا أن تستخدم سلاح البطش والقوة التي اعتادت عليه قبل ذلك، والذي اعتاد عليه عموم الجبابرة والمجرمين والمتكبرين في الأرض، قررت القيام بغارة ليلية مباغتة على المدينة المنورة، ضربةً خاطفةً لعلهم يقتلون رجلاً أو ينهبون مالاً، أو يروعون امرأة أو طفلاً أو شيخاً.

هذه الغارة كانت بعد حوالي سنة تقريباً من هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانت بقيادة أحد المشركين، كان اسمه كرز بن جابر الفهري ، والذي أسلم بعد ذلك رضي الله عنه وأرضاه وصار من الصحابة، أغار على المدينة ليلاً، وسرق بعضاً من ماشيتها إبل وغنم وبقر، وخرج الرسول عليه الصلاة والسلام في إثره حتى يرجع الماشية، لكن أفلت كرز بما نهب، وهنا تبين لنا محاولات قريش.

كانت هذه هي محاولات قريش للصد عن سبيل الله، وكانت هذه محاولات قبيلة كبرى لاستئصال جذور حركة إسلامية ما زالت ناشئة في طور البناء، ولأن قريشاً القبيلة الكبرى تعلم أن هذه الحركة الإسلامية البسيطة تمتلك مقومات بناء دولة عظمى، فإنها سارعت لهدم البناء في أول مراحله، حتى لا تغامر بترك هذا البناء ينمو ثم يبتلعها بعد ذلك.

فعلت ذلك قريش، وكذلك تفعل الدول الكبرى الآن، وما زال المسلمون يتعجبون: لماذا دولة عملاقة ضخمة تهتم بأمر مجموعة من المسلمين البسطاء الفقراء الذين يعيشون على بقعة قد لا ترى على خريطة العالم؟ والسر أنهم يقرءون التاريخ، أعداؤنا يقرءون التاريخ ونحن نغفل عن قراءته كثيراً، قرأ أعداؤنا كثيراً في التاريخ منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا، وعلموا أن المجموعة القليلة من المسلمين إذا عاشت بشرع الله عز وجل، وطبقت قوانين الإسلام في كل صغيرة وكبيرة من حياتها، فإنها ما تلبث أن تنمو وتقوى، ثم تمكن في الأرض، ويصبح تمكينها في الأرض خارجاً عن حدود الاستئصال، بل وتصبح قوتها غير قابلة للهزيمة ما دامت مستمسكة بقانونها دون تحريف أو تبديل أو تكاسل أو إهمال.

وهذا الأمر تكرر في التاريخ، ولا زال يتكرر إلى الآن.

أذكر لكم مشكلة تؤرقني كثيراً، هذه المشكلة مشكلة السودان، فالسودان أعلنت أنها ستطبق شرع الله عز وجل على بعض الولايات السودانية، ليس تطبيقاً كاملاً في كل السودان، ومع أن هذا التطبيق تطبيق جزئي وليس كلياً، إلا أن الدنيا قامت ولم تقعد، لقد ظهرت كلمة الإسلام في السودان، وهذا في عرف الكافرين أمر خطير، وتحركت قوى عظمى ودول كبرى لمنع هذا البلد من تطبيق شرع ربه سبحانه وتعالى.

يتعجب المراقبون لماذا دولة عملاقة مثل: أمريكا، أو دول متقدمة مثل: دول أوروبا الغربية أو الإسكندنافية أو دولة قوية كإسرائيل تهتم بشأن هذا البلد الفقير البسيط الذي يصارع بضراوة من أجل الحياة؟! فالمجاعات في السودان تقتل الآلاف المؤلفة، فلماذا هذا الزخم الإعلامي الكبير، وهذا التفخيم والتضخيم لأمر قضية السودان؟ ظهرت كلمة الإسلام في السودان، ولو قدر لهذا البلد أن ينمو فقد يغير من خريطة العالم، لا يغير فقط الإمكانات الاقتصادية المتوقعة ولا البترول ولا المزارع، لكن يرفع من شأن البشر الذين يحملون الإسلام في قلوبهم؛ لذلك فإن عموم أعداء الأمة أدركوا هذا الأمر جيداً وللأسف لم يدركه الكثير من المسلمين.

أولاً: ماذا فعلوا مع السودان الفقير؟ فعلوا نفس السيناريو الذي فعلته قريش القبيلة العظمى مع دولة المدينة المنورة الناشئة، فقد قاموا بمراسلات لبعض الانفصاليين خاصة من أصحاب الديانات الأخرى؛ للقضاء على الحركة الإسلامية في مهدها، ويا حبذا لو أثيرت فتن طائفية في أرجاء البلاد، وهذا كفعل قريش في مراسلتها مع عبد الله بن أبي ابن سلول ، وكلكم ترون هذا الأمر على الشاشات الفضائية.

ثانياً: قاموا بالحرب النفسية على المسلمين في السودان، عن طريق التهديد والوعيد المستمر في وسائل الإعلام وعبر السفارات والأعوان والوسطاء.

ثالثاً: قطع الدول الكبرى لعلاقاتها الدبلوماسية مع السودان، وبذلك انفصلت السودان عن الواقع الذي تعيش فيه، وهذا شيء خطير.

رابعاً: تغيير القوانين والتنكر للأعراف الدولية، وتكوين الأحلاف التي ينكرها القانون الدولي، هذه الأحلاف تقوم بالتأثير على الدول الضعيفة؛ لأجل أخذ قرار يضر بمصلحة دولة أخرى، وهذا يكون عن طريق مال أو عن طريق ضغط عسكري أو عن طريق ضغط سياسي، وأمريكا فعلت ذلك فعلاً ضد السودان، فقد ضغطت على دول كثيرة جداً حتى تمنع السودان من الحصول على مقعد إفريقيا في مجلس الأمن، وأعطوا هذا المقعد لدولة أخرى، مع أن التصويت على المستوى الإفريقي كان لصالح السودان.

خامساً: الحصار الاقتصادي والضغط على الشعب إلى الموت، وما أحداث دارفور منا ببعيد.

سادساً: الغارات المفاجئة الغادرة لا على جيش ولا على كتيبة، ولكن على الآمنين، مثل ما فعل كرز بن جابر الفهري في حربه ضد المؤمنين في المدينة المنورة، فعلت أمريكا كذلك عندما ضربت مصنع الأدوية في السوادن بحجة أنه ينتج أسلحة كيمائية.

هذه صورة من صور حرب الباطل مع أهل الحق دائماً، ولن يخرج المسلمون في السودان وفي عموم الأمة الإسلامية من أزمتهم إلا بدراسة متأنية للسيرة النبوية، والاتباع الدقيق لكل فعل وقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (لقد تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله، وسنتي).

ورأينا كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخذ خطوات عملية محكمة للخروج من هذه الأزمة وهذا الحصار، وهذا المكر والكيد المستمر من أعداء الأمة، هذا كان رد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع الطائفة الخطيرة، طائفة المشركين من أهل مكة.

هناك طائفة أخرى خطيرة جداً لعلها أخطر من طائفة المشركين وهي طائفة اليهود، والموضوع مع الحياة متشعب جداً، ولها خلفيات كثيرة، ولها أبعاد كثيرة وعميقة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، سواء لما كان في فترة مكة أو بعد الهجرة أو في أواسط وأواخر الفترة المدنية.

إن شاء الله في الدرس القادم سنتكلم عن تفصيلات تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام في أول قدومه إلى المدينة المنورة مع اليهود، كيف تعاهد معهم صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا تعاهد؟ وما هي شروط التعاهد؟ وما هي ظروف العلاقة بين المسلمين وبين أهل الكتاب الذين يعيشون في بلادهم؟

هذا ما سنعرفه وغيره إن شاء الله في اللقاء القادم.

وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.




استمع المزيد من د. راغب السرجاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة السيرة النبوية من الظلمات إلى النور 4054 استماع
سلسلة السيرة النبوية الدعوة سراً 3963 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الأولى 3932 استماع
سلسلة السيرة النبوية غزوة تبوك 3776 استماع
سلسلة السيرة النبوية مجتمع المدينة 3711 استماع
سلسلة السيرة النبوية اليهود والدولة الإسلامية 3640 استماع
سلسلة السيرة النبوية عام الحزن 3631 استماع
سلسلة السيرة النبوية فتح مكة 3565 استماع
سلسلة السيرة النبوية عالمية الإسلام 3446 استماع
سلسلة السيرة النبوية هجرة الحبشة الثانية 3390 استماع