شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [33]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فلا زلنا نتدارس المبحث الثالث من مباحث الجن، ألا وهو: صلة الإنس بالجن، وصلة الجن بالإنس، وتقدم معنا أن هذا المبحث يقوم أيضاً على أربعة أمور:

أولها: حكم استعانة الإنس بالجن.

وثانيها: حكم التناكح بين الإنس والجن، وقد مر الكلام على هذين المبحثين.

وثالثها: صرع الجن للإنس، وهذا الذي كنا نتدارسه وبقي بقية منه.

ورابعها: تحصن الإنس من الجن.

لا زلنا في الأمر الثالث من هذه الأمور، ألا وهو: صرع الجن للإنس، وتقدم معنا أن الصرع قد يكون حسياً، وقد يكون معنوياً، وقد يجتمعان، وأشنع أنواع الصرع: الصرع المعنوي، بحيث يستحوذ الشيطان على الإنسان فينسيه ذكر الرحمن.

وتقدم معنا أن نسبة الصرعى بهذا الصرع كبيرة، بحيث وصلت إلى تسعمائة وتسعة وتسعين في الألف، وسلم واحد فقط، وأكثر الناس عن هذا الصرع في غفلة.

وتقدم معنا أنه يدخل في هذا النوع من الصرع الخطف، كما يدخل أيضاً الموت والقتل.

وينبغي أن نتذكر في أول هذه الموعظة أمراً، ألا وهو: أن أخبث الأعداء بالنسبة للإنسان من كان قريباً منه وخفياً عنه، والأمران مجتمعان في هذا العدو الجني الصرف العاصي الشيطان الذي يكون قريباً منا وخفياً عنا، يرانا ولا نراه، فلا نستطيع أن نتحصن ونتمكن منه وأن نقاتله مقاتلةً غامضة أو مكشوفة إلا إذا التجأنا إلى ربنا جل وعلا.

حفظ الله للإنسان من الجان

ولولا أن الله حفظ عباده وسخر الملائكة لحفظهم لتخطفتهم الشياطين، ولكن الله جل وعلا بعباده عليم, ولهم حفيظ سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا في سورة الرعد: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:8-10] أي: يمشي في طريقه في سربه ظاهر، أو مستخف بالليل.

(سَوَاءٌ مِنْكُمْ) يعلم الله حال الإنسان والوضع الإنساني على أي حال كان (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) (و) من هو معلن (سارب بالنهار) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11] .

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) الضمير في: (له) مردود وراجع إلى (من) في قوله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرعد:10] يعني: في أي حالةٍ كنتم، في حال إسرار وجهر، في حال ليلٍ أو نهار، في أي حالةٍ وفي أي ظرف يعلمكم، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرعد:10] هنا الضمير (لَهُ) لمن أسر القول, ولمن جهر به, ولمن استخفى في الليل, ولمن مشى وظهر في النهار، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد:10] .. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد:11].

وقيل: مرجع الضمير يعود إلى الله جل وعلا الذي تقدم ذكره: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى [الرعد:8] (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) تحفظ هذا الذي هو من خلقه سواء أسر أو جهر أو استخفى أو ظهر.

و(مُعَقِّبَاتٌ) تتعاقب على حفظ ابن آدم في جميع أحواله وأطواره، والأمران متلازمان، وهذه الملائكة التي تحفظ ابن آدم هي ملائكة الله جل وعلا، ووقع هذا بأمره وتقديره وتسخيره سبحانه وتعالى، كما أنها تعقب ما يصدر عنه بالكتابة والتقييد والتسجيل.

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].

قوله: (مِنْ) إما أن تكون بمعنى: عن، أي: (عن أمر الله)، أو بمعنى الباء، أي: (بأمر الله), أو بمعنى اللام، أي: (لأمر الله)، وكما قال أئمتنا: حروف الجر تتناوب وتتعاقب, وينوب بعضها عن بعض.

وقال الفراء: في الآية تقديم وتأخير، ولفظ حرف الجر على ظاهره، وعليه يصبح معنى الآية: له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه، (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أي: هذه المعقبات من أمر الله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] والملائكة من أمر الله جل وعلا.

عدد الملائكة الموكلين بحفظ ابن آدم

إذاً: هذه الملائكة تتعاقب على حفظنا، تتعقب ما يصدر منا بالتقييد والكتابة والتسجيل، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن للمؤمن من ذلك النصيب الأوفى من حفظ الله ورعايته بواسطة جنده وملائكته.

روى الطبراني في معجمه الكبير كما في مجمع الزوائد في الجزء (7/209) في كتاب القدر: باب دفع ما لم يقدر على العبد، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب: مصائد الشيطان، كما عزا الحديث إليه العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء (3/38)، ورواه ابن قانع أيضاً كما في جمع الجوامع للسيوطي في الجزء (1/871)، من رواية أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( وكل بالمؤمن ستون ومائة ملك يذبون عنه ما لم يقدر عليه ) .

فإذا أُردت بسوء من قبل شياطين الإنس والجن فإن الملائكة تذب هذا عنك وتدفعه فلا يصلون إليك، وهكذا من قبل الهوام والحشرات المؤذيات إذا لم يقدر عليك، ( يذبون عنه ما لم يقدر عليه, للبصر من ذلك تسعة أملاك ) أي: تسعة ملائكة موكلة بحفظ البصر فقط، لئلا يصاب بضر وأذى, ولا تدخل في هذا البصر نملة أو بعوضة لا في النوم ولا في اليقظة، ولا يقترب منه ثعبان أو عقرب، إذاً: لا يتسلط عليه خبيث من الجان, أو مؤذٍ من بني الإنسان.

( للبصر من ذلك تسعة أملاك يذبون عنه كما تذبون عن قصعة العسل الذباب في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم ) يعني: هؤلاء الجن الذين يريدون الأذى بكم، ( وما لو بدا لكم لرأيتموه ) أي: العاتي من الجن ومن الشياطين، ( على كل جبلٍ وسهلٍ باسط يديه ) يمد يديه لاستقبالكم وتلقيكم وإيصال الضر إليكم (على كل سهل وجبل باسط يديه، فاغر فاه - فاتح فمه - وما لو وكل العبد فيه إلى نفسه طرفة عين لخطفته الشياطين ).

أي: أنتم لو اطلعتم على حقيقة الأمر لرأيتم أن عتاة الجن يتربصون بكم لإلحاق الأذى بكم، وتقدم معنا: ( لا يولد لابن آدم مولود إلا ولد له تسعة ) ولذلك فالجن أضعاف بني آدم.

ومع ما يحصل لهم من تعمير يجوز على أعمارنا، لو كشف لنا عن حقيقة أمرهم ورأيناهم على كل سهل وجبل لوجدناهم يبسطون أيديهم ويفتحون أفواههم لينالونا بضر، بحيث لو وكل الإنسان إلى نفسه ولم يكن له حفظة لتخطفته الشياطين.

قال الهيثمي : فيه عفير بن معدان وهو ضعيف، من رجال الترمذي وابن ماجه ، وقد حكم عليه الحافظ العراقي وابن حجر بما حكم عليه الهيثمي في المجمع.

وهذا المعنى ثابت في كتاب الله عز وجل: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ [الانفطار:10-11] أي: يحفظونكم ويحفظون ما يصدر عنكم.

وقد ورد ما يؤيد هذا المعنى أيضاً في مسند أحمد , في الجزء (3/353 ، 363) وتكلم عليه الإمام الهيثمي في المجمع وذكره في موضعين في الجزء (1/66)، وفي الجزء (4/117)، ونسبه إلى أحمد في المسند العراقي في تخريج أحاديث الإحياء (1/239), وما عزوه إلى غيره.

قال الإمام الهيثمي : في إسناده أبو الصلت , وتقدم معنا ذكر أبي الصلت عند قول الله جل وعلا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] وذكرت حديثاً هناك عن أبي هريرة رضي الله عنه من طريق أبي الصلت ، وقلت: فيه أبو الصلت قال عنه الإمام الهيثمي : لا يعرف.

والجهالة فيه أنه لم يرو عنه إلا علي بن زيد بن جدعان ، وتقدم معنا أنه من رجال البخاري في الأدب المفرد، وأخرج له مسلم في صحيحه, وهو في السنن الأربعة، وتوفي سنة 131 وفيه ضعف, وقد وثق.

وعلى كل حال فـأبو الصلت تابعي يروي عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ولفظ الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: ( لما انتهيت إلى السماء السابعة ليلة أسري بي، فنظرت فوقي فإذا أنا برعدٍ وبرقٍ وصواعق، فأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم ) وهذا القسم وما يتعلق به تقدم معنا، ورواه ابن ماجه أيضاً في سننه.

( فيها الحيات ترى من خارج بطونهم، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: أكلة الربا ).

وتكملة الحديث كما في المسند: قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني، فإذا أنا برهج ودخان وأصوات ) والرهج: هو شرر النار، أي: نار تلمع وتقدح ويتطاير منها الشرر قال: ( فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هؤلاء الشياطين يحومون على أعين بني آدم ألا يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، ولولا ذلك لرأوا العجائب ) لولا أن الشياطين تحوم حول أعيننا، وتشوش علينا لرأينا عجباً في ملكوت السماوات والأرض، فالشياطين تحول بيننا وبين التفكر, والمعصوم من عصمه الله.

إن هذا الحديث والذي قبله يقرران كيد الشيطان للإنسان، كما يحدثان عن حفظ الرحمن لبني الإنسان.

نعم؛ إن الشيطان حريص مؤذ، وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نحترس منه غاية الاحتراس، وسيأتينا هذا في المبحث الرابع عند طرق التحصن من الجن إن شاء الله.

الحكمة من كف الصبيان وقت العشاء

وهنا من باب التعجب أذكر أمراً من الأمور ينبغي أن يعتني به من أجل ألا يمس أولادنا بأذى، وألا يخطفوا، وتقدم معنا أن من الصرع: صرع وخطف وموت، أي: قتل من قبل الجن.

تقدم معنا في مباحث من سنن الترمذي أن للشيطان تمكناً من الإنسان في وقت الظلمة أكثر من تمكنه منه في وقت الضياء، كما أنه يتمكن منه في وقت الخلوة أكثر من تمكنه منه في وقت اجتماعه بالناس ووجود من يعاشره ويصاحبه.

ونحن في كل ليلةٍ نستقبل ظلمة عند غروب الشمس، وقد أمرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الساعة التي هي بداية الليل حيث تشتد فيها الظلمة، والشياطين آن وقت انتشارها وتصرفها للفساد والإفساد, أمرنا أن نضبط أولادنا وألا نسمح لهم بالخروج ولا بالجلبة ولا باللعب ولا بالصياح عند إقبال الليل حتى تذهب فحمة العشاء، أي: شدة الظلمة، ويخلي سبيلهم ويطلقهم بعد العشاء.

والحديث في المسند والصحيحين، ورواه أبو داود والترمذي , وهو من أصح الأحاديث درجة من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كان جنح الليل ) أي بدايته ومقدمته، ( فكفوا صبيانكم ) وفي روايةٍ: ( فاكفتوا صبيانكم ).

والكفت: هو الضم والجمع، أي: اجمعوهم وضموهم إليكم؛ كما قال الله جل وعلا: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً [المرسلات:25-26] وسميت الأرض كفاتاً لأننا نكفت فيها، أي: تجمعنا وتضمنا على ظهرها وفي بطنها، إذا كنا أحياء على ظهرها، وإذا متنا ففي بطنها.

وهنا: (اكفتوا صبيانكم) بمعنى: كفوا صبيانكم عن الانتشار والتحرك واللعب خشية أن يمسوا أو يخطفوا، ( فاكفتوا صبيانكم, فإن الشياطين تنتشر في الليل ).

إن هذا وقت تسلطها ووقت سلطانها حيث يصبح لها تمكن في الظلمة أكثر من تمكنها في الضياء.

وفي بعض روايات المسند وصحيح البخاري وسنن أبي داود : ( فإن للجن انتشاراً وخطفةً ) أي: سرعة خطف، فتنتشر ولها خطف لبني آدم في هذا الوقت ( فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم ) وضبط: ( فحلوهم ) بالحاء المهملة، كأنهم كانوا مقيدين فاسمحوا لهم بالانطلاق والتحرك.

آداب البيوت ليلاً

قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح باباً مغلقاً )، وهذا من السنة والأدب: أن تغلق الباب الخارجي وباب الحجرة إذا نمت، فالشيطان لا يدخل عليك إذا أغلقت الباب وسميت الله، ( أغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، وأوكوا قربكم ) والقرب جمع: قربة -بكسر القاف في الجمع والإفراد- وهي وعاء يوضع فيه الماء فأغلقه بإحكام واضبطه ولا تتركه مفتوحاً ( واذكروا اسم الله، وخمروا آنيتكم ) وهي: المواعين والصحون والقدور والسطول وما يجتمع فيه الماء أو الطعام، فينبغي أن تغطيه ( واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا ) بضم الراء، أي: أن تجعلوا في عرض الإناء والوعاء شيئاً فوقه كالعود -مثلاً- وهذا إذا لم يكن ثم غطاء للإناء، ( ولو أن تعرضوا عليه شيئاً، وأطفئوا مصابيحكم ).

وفعل مرة بعض الصالحين هذا على وعاء له ليس عنده ما يخمره، فوضع عوداً وسمى عليه رب العالمين، فاستيقظ فرأى الثعبان قد لف نفسه على هذا العود، وما استطاع أن يقع في داخله، لأن أمامه حصن حصين.

وكذلك المصابيح ينبغي أن تطفأ من أجل ألا يحصل شيء من الحريق والفساد، وهذا فيما يمكن أن يحصل بسببه حريق كالمصابيح القديمة التي كانت توقد بالوقود، فقد تأتي حشرة كفأرة -مثلاً- وتضرم النار في البيت وأنت نائم، فهي خبيثة تسعى للفساد، وإذا أمن المضرة من ذلك كما هو الحاصل في مصابيح الكهرباء المحكمة فلا حرج، ومع ذلك لو أطفأ المصابيح كلها لكان أهدأ له في نومه، وألذ لجسده.

كذلك من الآداب الشرعية غلق الأبواب، وما قاله بعض المخرفين من الصوفية كما نقل عنه الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء (1/423) قال: نحن نفتح الأبواب ولا نغلقها، فهذا سوء أدب في مقابلة هذا الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وليس في إغلاق الباب ليلاً إشارة إلى بخل ولا امتناع عن ضيافة، وإنما أدب نبوي فالتزم به، ولا داعي بعد ذلك للشغب ولا للفلسفة على كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

ولولا أن الله حفظ عباده وسخر الملائكة لحفظهم لتخطفتهم الشياطين، ولكن الله جل وعلا بعباده عليم, ولهم حفيظ سبحانه وتعالى، كما قال جل وعلا في سورة الرعد: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ * سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ [الرعد:8-10] أي: يمشي في طريقه في سربه ظاهر، أو مستخف بالليل.

(سَوَاءٌ مِنْكُمْ) يعلم الله حال الإنسان والوضع الإنساني على أي حال كان (سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) (و) من هو معلن (سارب بالنهار) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ [الرعد:11] .

(لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) الضمير في: (له) مردود وراجع إلى (من) في قوله: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرعد:10] يعني: في أي حالةٍ كنتم، في حال إسرار وجهر، في حال ليلٍ أو نهار، في أي حالةٍ وفي أي ظرف يعلمكم، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ [الرعد:10] هنا الضمير (لَهُ) لمن أسر القول, ولمن جهر به, ولمن استخفى في الليل, ولمن مشى وظهر في النهار، سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ [الرعد:10] .. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ [الرعد:11].

وقيل: مرجع الضمير يعود إلى الله جل وعلا الذي تقدم ذكره: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى [الرعد:8] (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) تحفظ هذا الذي هو من خلقه سواء أسر أو جهر أو استخفى أو ظهر.

و(مُعَقِّبَاتٌ) تتعاقب على حفظ ابن آدم في جميع أحواله وأطواره، والأمران متلازمان، وهذه الملائكة التي تحفظ ابن آدم هي ملائكة الله جل وعلا، ووقع هذا بأمره وتقديره وتسخيره سبحانه وتعالى، كما أنها تعقب ما يصدر عنه بالكتابة والتقييد والتسجيل.

لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [الرعد:11].

قوله: (مِنْ) إما أن تكون بمعنى: عن، أي: (عن أمر الله)، أو بمعنى الباء، أي: (بأمر الله), أو بمعنى اللام، أي: (لأمر الله)، وكما قال أئمتنا: حروف الجر تتناوب وتتعاقب, وينوب بعضها عن بعض.

وقال الفراء: في الآية تقديم وتأخير، ولفظ حرف الجر على ظاهره، وعليه يصبح معنى الآية: له معقبات من أمر الله من بين يديه ومن خلفه يحفظونه، (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أي: هذه المعقبات من أمر الله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً [الإسراء:85] والملائكة من أمر الله جل وعلا.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3973 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3903 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3782 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3479 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3411 استماع