مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على إمام المرسلين، وسيد الخلق أجمعين، محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:

إخوتي الكرام! رابطة الإسلام هي الرابطة الحقة، وهي الجنسية العظيمة التي توحد بين البشر قاطبة، ولا يوجد رابطة على وجه الأرض توحد بين البشرية كما هو الحال في الرابطة الإسلامية، هناك روابط هزيلة رديئة جاهلية، كما ذكرت في الموعظة الماضية، وأكمل الكلام على ذلك في هذه الموعظة عليها وعلى ما بعدها من الروابط الخبيثة المنتنة.

الرابطة الوطنية

أولها: الرابطة الوطنية، ويراد بها -كما تقدم معنا إخوتي الكرام- استواء أناس في الحقوق لجريان قوانين مشتركة عليهم، يستوون في الحقوق وبعد ذلك قوانين مشتركة تجري عليهم أيضاً، يعيشون تحت قوانين مشتركة، تحت نظام، ويتساوون في الحقوق في ذلك المكان، بقعة لها نظام معين، كل من فيها يستوي في العيش والمصالح، هذه الرابطة -كما ذكرنا-، هي أعلى الروابط عند العالم المتمدن المتحضر، وهي من الروابط الجاهلية بين البشرية، يعيشون تحت قوانين مشتركة، ويدَّعون أنهم يتساوَون في حقوق متماثلة.

هذه الرابطة -إخوتي الكرام- رابطة رديئة ليس في وسعها أن توحد بين القلوب، لا سلطان لها على القلوب على الإطلاق، بل أيضاً ليس في وسعها أن تحقق العدل على سبيل التمام والكمال، فالعدل غير مضمون فيها، مهما وُجد فيها من نزاهة ومساواة، فالبرلمان الذي ينوب عن الأمة، ويسن القوانين، فيه ميمنة وميسرة، وقلة وكثرة، على حسب ما يحصل في المجالس، فهل الذين لهم اتجاه معين وكثرة في البرلمان يسنون ما يسنون من قوانين لصالحهم أو لصالح غيرهم؟! حتماً لصالحهم، أول ما ينظرون إلى مصالحهم، مصالح جماعتهم، ثم بعد ذلك فتات موائدهم يرسلونه إلى الرعية، وهذا في كافة الأنظمة الوطنية؛ لأن هناك مصارعات على الحياة في هذه الأوقات، والذين هم في البرلمان اتجاهات شتى، فالذين هم من هذا الاتجاه يحاولون أن يشرعوا من القوانين ما ينفع إخوانهم، وأولئك كذلك، وأولئك كذلك، فهذه الرابطة مهما كان فيها من نزاهة، فلا يزال فيها تحيز، والعدل فيها غير مضمون، والتأليف بين القلوب لا يمكن أن يحصل فيها بحال من الأحوال، ومع هاتين المفسدتين فهذه الرابطة رابطة ملعونة؛ لأنها هي التي فرقت بين عباد الله، فهي تجعل الارتباط بين أناس معينين ولا علاقة لهم بالآخرين.

إذاً: الرابطة الوطنية هي أعظم عدو للإنسانية؛ لأنها تفرق بين جنس الإنسان وبين عباد الرحمن، فالذين هم في مكان ما بينهم رباط، ولهم حقوق متساوية، ومن عداهم حتى ولو كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لا اعتبار له ولا وزن ولا شأن، هذه الحقوق لا يأخذها -على تعبيرهم- إلا من حمل التابعية والجنسية الوطنية، لمَ يا عباد الله؟ هذه بلاد الله، وهؤلاء عباد الله، وكل واحد يأخذ مكانه في كل مكان حسب كفاءته، لكن هذا لا يوجد في الأنظمة الوطنية، فمهما بُذل فيها من إنصاف لا تؤلف بين القلوب، ولا يزال الظلم فيها ظاهراً، هذا مهما بذل فيها من إنصاف، ثم بعد ذلك هي في نهاية الأمر تفرق بين عباد الله، وتجعل بعضهم لبعض عدواً، وهذا هو ما تعيشه البشرية في هذه الأيام.

إخوتي الكرام! عندما كانت الجنسية الإسلامية هي الجنسية الحقيقية كان المسلم يجوب الدنيا بلا جواز وبلا تابعية وبلا بطاقة وبلا صورة وبلا إقامة، يمشي أينما يريد، جوازه (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولو أراد الإنسان في هذه الأيام أن يذهب إلى أي مكان فلا يستطيع على الإطلاق إلا بإجراءات، وليس له بعد ذلك اعتبارات كمن يسكنون في تلك الجهات، فنفوض أمرنا إلى رب الأرض والسموات، وبعد ذلك نسمع من يتشدق قائلاً: دول شقيقة ودول صديقة، هذا كله من باب المتاجرة والمصالح فقط، فإنه لا تعد الآن العدد إلا للكيد للدول التي يقال لها: شقيقة قبل الصديقة، وكل دولة تحترس من التي يقال عنها: شقيقة قبل الصديقة! هذا للمتاجرة بالكلام، لكن واقع الأمر أن هذه الجنسيات والوطنيات فرقت بين عباد الله جل وعلا، بعد أن كانت الجنسية الإسلامية (لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام)، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، هذه الأخوة الآن ما بقيت عندنا إلا للكلام الفارغ: شقيقة وصديقة، وبعد ذلك تطرد شقيقك، سبحان ربي العظيم! شقيقك وتطارده! هذا أمر عجيب حقيقة إخوتي الكرام! وهذا ما نعيشه في هذه الأيام.

الرابطة العرقية القومية

الرابطة الثانية الخبيثة الرديئة: الرابطة العرقية، وهي الرابطة القومية، وهذه دون الوطنية، فإن الوطنية أعلى منها، وأما هذه ففيها ضيق وتحجيم أكثر، هذه الرابطة العرقية على حسب القبيلة الجاهلية، أسرة صغيرة تمتد على حسب المفاهيم التي يحددونها، قبيلة كذا هؤلاء بينهم موالاة مع القبائل الأخرى أو معاداة، وأحياناً يوسعون، فيقولون: جنس العرب، وهؤلاء يقولون: أكراد، وهؤلاء يقولون: أتراك، وما شاكل هذا، وذلك على حسب ما يوسعون أو يضيقون من الرابطة العرقية، فقد تكون أحياناً قبيلة واحدة، وقد تكون قبائل تجعل لها رباطاً معيناً، وقد يكون بعد ذلك عرق بكامله، كاللغة العربية، فمن نطق بها فهو عربي، قومية عربية.. طيب والجنسية الإسلامية؟! يقولون: هذه دعونا منها! عندنا قومية عربية، فمن كان عربياً، أو من كان دمه عربياً، فهذا له هذه الجنسية الممتازة، وهو أخ لنا وبيننا وبينه -على تعبيرهم- صلة ومناصرة، وإن كان شيطاناً مريداً، وإذا لم يكن عربياً فليس بيننا وبينه صلة وإن كان صديقاً مقرباً.

لا يا عباد الله! هذا ضلال، كما أن الرابطة الوطنية خبيثة فالرابطة القومية كذلك أيضاً عدوة الإنسانية، وتفرق بين البشرية، وقد انتشرت هذه وتلك، والجاهليون يدعون إلى هذه وإلى هذه، وما قُضي على الدولة الإسلامية إلا بإثارة هذه الروابط الجاهلية، وقد وصل الأمر في البلاد العربية إلى أن يكتب حتى في المدارس:

لو مثلوا لي موطني وثناً لعبدت ذلك الوثنا

لو أنه وثن لعبدوه! ويقوم بعد ذلك الزنادقة الذين يحسبون أحياناً على أنهم من الدعاة، يقومون ويفترون على نبينا خير البريات عليه الصلاة والسلام لتقرير مفاهيمهم الوطنية، ويقولون: (حب الوطن من الإيمان!)، هذا من كلام الشيطان وليس من كلام نبينا عليه الصلاة والسلام، والمؤمن -إخوتي الكرام- يضحي بوطنه ويضحي بماله، بل يضحي بدمه في سبيل دينه، وأما أن نجعل بعد ذلك كل شيء من أجل الوطن، ويعشق الوطن، ويموت في سبيل الوطن، ومن هذه العبارات، والدين بعد ذلك لا وزن له ولا اعتبار فهذا لا يجوز، وواقع الأمر كذلك، فدين الله يمتهن في أرجاء الأرض ولا ناصر له، وإذا اعتُدي على الوطن على شبر منه تقوم قيامة الناس، سبحان ربي العظيم! يعتدى على حفنة تراب فتقاتلون، وأنتم تهينون بعد ذلك دين الحي القيوم! كيف يصير هذا؟! وكما قلت مراراً: نحن ندافع عن ديننا وليس معنى ذلك أننا نعطي بلادنا لغيرنا.

افهموا القضية إخوتي الكرام! نحن ندافع عن بلادنا وعن أرضنا، وهي بلاد الإسلام؛ لأنها هي مركز نور الرحمن، هذا لا بد منه، ليس معنى هذا أننا نتنازل عن بلادنا، لكن شتان بين أن نجعل الرابطة الوطنية هي محور الربط بيننا، وبين أن نجعل الجنسية الإسلامية هي محور الربط بيننا، فنحن لا نحب مكاناً ما إلا لوجود الإسلام فيه فقط، وما عدا هذا فلا قيمة لأي مكان عندنا، وأما إذا امتهن دين الله فلا نسأل، فإذا اعتدي على الوطن نثور! يا إخوتي! هذا هو الضلال، هذا هو الثبور، فالأصل أننا نحن ندافع عن الوطن من أجل أنه مكان لانتشار دين الإسلام، أما أن نمتهن الإسلام ثم ندافع عن حفنة تراب، فهذا ضلال في ضلال.

رابطة المصلحة

وهناك رابطة أيضاً خبيثة، وهي: رابطة المصلحة أو المصلحية، وعلى تعبير بعض الشيوخ: مصلحجية، فيرتبط الناس على أساس الريال، فإذا وجد الريال فبيننا وبينك اتفاق ووفاق وحب وسلام، وإذا ذهب الريال فلا أعرفك ولا تعرفني، وأكثر صلات الناس الآن ببعضهم على حسب المنفعة، وعلى حسب المصلحة، إذا أمَّل منك منفعة بشَّ في وجهك وسلم عليك، وأظهر لك ما أظهر، وإذا انتهت المصلحة، إن سلمت لا يرد، وإن تكلمت لا يجيب. المصلحة زالت.

أخبرني مرة بعض الناس -انظروا للهمة الدنيئة عند بعض الناس، وظاهرهم من أهل الخير- أنه كان يوجد رجل كل من يراه في طريقه يحمله في سيارته، ويوصله إلى بيته أو إلى مكان عمله، فقال له بعض الناس: أنت أحياناً تتأخر عن عملك، وما أوجب الله عليك، ويوجد سيارات أجرة، يعني: أراك تهتم كثيراً بما يطلب منك الناس، لا مانع أحياناً إذا كنت في مكان وعرفت إنساناً، أو رأيت عليه سيماء الخير، أو كنت في مكان لا يتوقع وجود مواصلات فيه، فحملته، أما كل ما ترى أحداً تحمله، يعني هل أنت سيارة أجرة؟ فقال له: أنت تظن أنني أحملهم لله، قال: إذن لِمَ تحملهم؟ قال: يا عبد الله! الحياة فيها عسر ويسر، فأحملهم لأنه قد يأتي يوم من الأيام أحتاج إلى عمل في دائرة ونحوها، وهذا الذي حملته يعمل في ذلك المكان فيقضي حاجتي!

إذاً: هو يحمل ويتعب لاحتمال أنه في المستقبل تطرأ له حاجة عند من حمله، ويقدره ويقضي حاجته، إلى هذا الحد وصلت المصلحة عندنا! ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الرابطة الكهنوتية وهي الشعور بالدين مع عزله عن أعمال المكلفين

الرابطة الرابعة الخبيثة الملعونة أيضاً: الرابطة الكهنوتية، وهي رابطة الشعور بالدين مع عزل الدين عن أعمال المكلفين، يعني: تدين فقط بيننا وبين ربنا، إذا دخلنا للمسجد كل واحد يبش في وجه الآخر ويسلم عليه، وما شاكل، هذا في داخل المسجد، وإذا خرجنا من المسجد كل واحد يسب الآخر، لمَ؟ قال: كنا في بيت الله، في عبادة.

يا عبد الله! ما عندنا كنهوت كما عند النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، عندنا دين ينظم حياتنا في جميع شئوننا، ويربط بيننا في جميع أحوالنا، وأما إذا دخلنا المسجد تعارفنا، وإذا خرجنا تخاصمنا، فلا ثم لا، هذه أيضاً رابطة كهنوتية، تجعل الدين ما له أثر إلا في ذلك المكان، شعور ديني يتعاطفون فيما بينهم، أما بعد ذلك فلا أثر لهذه الرابطة في الحياة، فليس لها نظام يربط بين عباد الرحمن، وهذا بخلاف الإسلام الذي وحد المشاعر والأفكار، وحد العقائد والأعمال، فجعل الناس صورة واحدة، وإن تعددت الذوات، واختلفت الأشكال.

هذا -إخوتي الكرام- لا بد من وعيه، فهناك توحيد، ولذلك عندما تنظر إلى هذا المسلم كأنك نظرت إلى ذاك المسلم؛ عمل، فكر، شعور، اعتقاد، هذا شيء واحد، ولذلك حصل بينهم تآلف وتحاب لتوحد أفكارهم ومشاعرهم.

الرابطة الفكرية كالشيوعية ونحوها

إخوتي الكرام! الرابطة الفكرية التي لها نظام ينظم الحياة، هذه هي الرابطة الحقة، وهذه الرابطة الفكرية على قسمين:

إما أن تكون ربانية، وهي الرابطة الإسلامية، والجنسية الإسلامية، وإما أن تكون بشرية، وهذا موجود، فالرابطة الشيوعية رابطة فكرية، وهي أخطر الروابط والجنسيات على شريعة رب الأرض والسماوات، لكنها مع ذلك هزيلة خبيثة؛ لأنها من صنع بشر، فلا تربط بين قلوبهم رباطاً حقيقياً بحيث يؤثر الإنسان الشيوعي على نفسه، لا يمكن هذا؛ لأن منتهى آمالهم هي هذه الحياة، وأما نحن فلا ثم لا، نحن هذه الحياة ما تسوى عندنا جناح بعوضة ولا قشرة بصلة، ولذلك أقل ما يجب للمؤمن علينا أن نحب له ما نحب لأنفسنا، هذا أقل ما يجب، وإذا اكتمل الإيمان نؤثره على أنفسنا، ولو كنا محتاجين إلى ما نؤثره به علينا، وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، أولئك ليس عندهم هذا، نعم، الأفكار تتوحد عند الشيوعية، فكرهم واحد، والأعمال تتوحد؛ لأنه عندهم نظام ينظم الحياة، ثم هي رابطة عامة، الرابطة الشيوعية كالرابطة الإسلامية، ليس لها عرق معين، ولا وطن محدد، ولا صنف معين، إنما هي رابطة مبدأ، وقد أذن الله بزوالها وهو على شيء قدير.

وهي كما قلت: أخبث الروابط الموجودة، والتي يمكن أن يصبح لها انتشار، وينتمي إليها من ينتمي من الأشرار، ويوجد سبب للربط بين من ينتمي إليها، وهو أن الفكر واحد، والعمل واحد، والمصير واحد في النظر إلى هذا الكون والإنسان والحياة، هذا له عند الشيوعيين فكر واحد، فيصبح بينهم قوة عندما ينتمون إلى هذا المبدأ. ثم هي ليس لها صنف معين، ولا جنس معين، ولا لون معين، عامة لمن ينتمي إليها، وقد أذِن الله بزوالها، وهي أخطر المبادئ على الإسلام، وزوالها إيذان بزوال ما هو أقل ضرراً منها، وهو النظام الرأسمالي النظام الغربي، وإذا زالت تلك من غير حيلة منا، إنما أزالها رب العالمين، وهي تتهاوى الآن، وجمهورياتها الواحدة تلو الأخرى تخرج، وبعضها يعود إلى حظيرة ودائرة ونور الإسلام، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32]، فمن عداها نسأل الله أن يزيلها، وأيضاً من غير جهد منا ولا حيلة، فنحن في زمن فيه قحط الرجال، وفي زمن انتشرت فيه العمالة بمختلف الأشكال.

وحقيقة لا قِبل لنا بها، إنما الله جل وعلا لا يعجزه أمر، فنسأله جل وعلا أن يهلكهم بالأعاصير الكبار، وبالأمطار، وأن يحرقهم بالنار، وهو على كل شيء قدير، نيران تشب في بلادهم، أمطار تغرقهم، أعاصير تدمرهم وهو على شيء قدير، أما نحن فحالنا كما ترون، قحط الرجال، وعمالة بمختلف الأشكال، ونشكو أمرنا إلى ذي العزة والجلال.

إخوتي الكرام! هذه هي المبادئ، رابطة فكرية لها نظام في الحياة، إما أن تكون بشرية أو ربانية، وشتان شتان بين الرابطتين، فهناك وإن ربطت بين بعض البشر، لكن في الحقيقة أُلِّه صنف من البشر وعُبدوا من دون الله عز وجل، وهنا تساوينا وصرنا عباداً لله إخوة متحابين في دين الله، وما عدا هذا من الروابط فكلها سخيف وهزيل، سواء كانت وطنية أو عرقية قومية أو مصلحية أو رابطة كهنوتية.

أولها: الرابطة الوطنية، ويراد بها -كما تقدم معنا إخوتي الكرام- استواء أناس في الحقوق لجريان قوانين مشتركة عليهم، يستوون في الحقوق وبعد ذلك قوانين مشتركة تجري عليهم أيضاً، يعيشون تحت قوانين مشتركة، تحت نظام، ويتساوون في الحقوق في ذلك المكان، بقعة لها نظام معين، كل من فيها يستوي في العيش والمصالح، هذه الرابطة -كما ذكرنا-، هي أعلى الروابط عند العالم المتمدن المتحضر، وهي من الروابط الجاهلية بين البشرية، يعيشون تحت قوانين مشتركة، ويدَّعون أنهم يتساوَون في حقوق متماثلة.

هذه الرابطة -إخوتي الكرام- رابطة رديئة ليس في وسعها أن توحد بين القلوب، لا سلطان لها على القلوب على الإطلاق، بل أيضاً ليس في وسعها أن تحقق العدل على سبيل التمام والكمال، فالعدل غير مضمون فيها، مهما وُجد فيها من نزاهة ومساواة، فالبرلمان الذي ينوب عن الأمة، ويسن القوانين، فيه ميمنة وميسرة، وقلة وكثرة، على حسب ما يحصل في المجالس، فهل الذين لهم اتجاه معين وكثرة في البرلمان يسنون ما يسنون من قوانين لصالحهم أو لصالح غيرهم؟! حتماً لصالحهم، أول ما ينظرون إلى مصالحهم، مصالح جماعتهم، ثم بعد ذلك فتات موائدهم يرسلونه إلى الرعية، وهذا في كافة الأنظمة الوطنية؛ لأن هناك مصارعات على الحياة في هذه الأوقات، والذين هم في البرلمان اتجاهات شتى، فالذين هم من هذا الاتجاه يحاولون أن يشرعوا من القوانين ما ينفع إخوانهم، وأولئك كذلك، وأولئك كذلك، فهذه الرابطة مهما كان فيها من نزاهة، فلا يزال فيها تحيز، والعدل فيها غير مضمون، والتأليف بين القلوب لا يمكن أن يحصل فيها بحال من الأحوال، ومع هاتين المفسدتين فهذه الرابطة رابطة ملعونة؛ لأنها هي التي فرقت بين عباد الله، فهي تجعل الارتباط بين أناس معينين ولا علاقة لهم بالآخرين.

إذاً: الرابطة الوطنية هي أعظم عدو للإنسانية؛ لأنها تفرق بين جنس الإنسان وبين عباد الرحمن، فالذين هم في مكان ما بينهم رباط، ولهم حقوق متساوية، ومن عداهم حتى ولو كان سيدنا أبو بكر رضي الله عنه لا اعتبار له ولا وزن ولا شأن، هذه الحقوق لا يأخذها -على تعبيرهم- إلا من حمل التابعية والجنسية الوطنية، لمَ يا عباد الله؟ هذه بلاد الله، وهؤلاء عباد الله، وكل واحد يأخذ مكانه في كل مكان حسب كفاءته، لكن هذا لا يوجد في الأنظمة الوطنية، فمهما بُذل فيها من إنصاف لا تؤلف بين القلوب، ولا يزال الظلم فيها ظاهراً، هذا مهما بذل فيها من إنصاف، ثم بعد ذلك هي في نهاية الأمر تفرق بين عباد الله، وتجعل بعضهم لبعض عدواً، وهذا هو ما تعيشه البشرية في هذه الأيام.

إخوتي الكرام! عندما كانت الجنسية الإسلامية هي الجنسية الحقيقية كان المسلم يجوب الدنيا بلا جواز وبلا تابعية وبلا بطاقة وبلا صورة وبلا إقامة، يمشي أينما يريد، جوازه (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، ولو أراد الإنسان في هذه الأيام أن يذهب إلى أي مكان فلا يستطيع على الإطلاق إلا بإجراءات، وليس له بعد ذلك اعتبارات كمن يسكنون في تلك الجهات، فنفوض أمرنا إلى رب الأرض والسموات، وبعد ذلك نسمع من يتشدق قائلاً: دول شقيقة ودول صديقة، هذا كله من باب المتاجرة والمصالح فقط، فإنه لا تعد الآن العدد إلا للكيد للدول التي يقال لها: شقيقة قبل الصديقة، وكل دولة تحترس من التي يقال عنها: شقيقة قبل الصديقة! هذا للمتاجرة بالكلام، لكن واقع الأمر أن هذه الجنسيات والوطنيات فرقت بين عباد الله جل وعلا، بعد أن كانت الجنسية الإسلامية (لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام)، إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، هذه الأخوة الآن ما بقيت عندنا إلا للكلام الفارغ: شقيقة وصديقة، وبعد ذلك تطرد شقيقك، سبحان ربي العظيم! شقيقك وتطارده! هذا أمر عجيب حقيقة إخوتي الكرام! وهذا ما نعيشه في هذه الأيام.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في الفقه - المكفرات من المخالفات [1] 4364 استماع
مقدمة في الفقه - تقوية اليقين بأخبار الصالحين [2] 3670 استماع
مقدمة في الفقه - فضل العلم [2] 3656 استماع
مقدمة في الفقه - الجنسية الإسلامية [1] 3302 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [1] 3288 استماع
مقدمة في الفقه - لم يتبدل موضوع الفقه 3252 استماع
مقدمة في الفقه - عبادة سيدنا أبي حنيفة [2] 3251 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام الشافعي [2] 3181 استماع
مقدمة في الفقه - فقه الإمام أبي حنيفة [3] 3158 استماع
مقدمة في الفقه - عذر المخلوقات في المخالفات [1] 3133 استماع