شرح عمدة الأحكام [29]


الحلقة مفرغة

دليل مشروعيتها

قال المؤلف رحمنا الله تعالى وإياه:

[باب صدقة الفطر.

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (فرض النبي صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر -أو قال: رمضان- على الذكر والأنثى والحر والمملوك صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير. قال: فعدل الناس به نصف صاع من بر على الصغير والكبير) وفي لفظ: (أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة).

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (كنا نعطيها في زمن النبي صلى الله عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب، فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مداً من هذه يعدل مدين. قال أبو سعيد : أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم)].

من جملة الزكاة زكاة الفطر، وتسمى صدقة الفطر، أي: الفطر من رمضان، أي أنها تخرج في آخر رمضان عندما يقرب إفطار الناس من رمضان وإنهاؤهم لصيامه، وقد استدل عليها بعضهم بقوله تعالى في سورة الأعلى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، فحمل قوله: تزكى على زكاة الفطر، وذكر اسم ربه أي: كبر التكبيرات التي في العيد، وصلى أي: صلاة العيد، وهذا محتمل، وإن كان اللفظ على عمومه.

ولكن الأصل فيها الأحاديث الثابتة الصريحة الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرعها لأمته، ووردت الأدلة في تحديدها وفي وقتها وفي نوعها وفي أهلها وفي الحكمة منها.

الحكمة من مشروعيتها

فأما الحكمة فيها فقد ورد فيها حكمتان: أنها طعمة للمساكين، وأنها طهرة للصائم. فالصائم قد يعتريه في صيامه شيء من الخلل وشيء من النقص، ويرتكب شيئاً من المحظورات والأقوال السيئة، فيحتاج إلى ما يطهر صيامه، فجعلت هذه الصدقة طهرة للصائم من اللغو والرفث، أي: تطهر صيامه إذا كان قد لغى أو قد رفث أو قد تكلم بسوء، فتمحو ذلك كله.

وأما كونها طعمة للمساكين: فورد في حديث: (أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم)، وذلك أن يوم عيد الفطر يوم يفرح فيه الناس بإتمام صيامهم، ويجعلونه يوم عيد يظهر فيه سرورهم وانبساطهم، ويظهرون فيه الشكر والاعتراف لربهم بالفضل والامتنان، فكان ينبغي اشتراك الصغير والكبير والغني والفقير والمأمور والأمير، في هذا الفرح وهذا الاغتباط، ولما كان في الأمة من هم فقراء معوزون ذوو حاجة غالبة إذا لم يتصدق عليهم فإنهم يظهرون للناس التكفف والاستجداء، ويسألونهم طعاماً وقوتاً وكسوة ونفقة، ومعلوم أن السؤال فيه شيء من الذل ومن الإهانة لأنفسهم، وفيه شيء من الصغار والإذلال، فأمر بأن يعطوا في هذا اليوم ما يكفيهم ذلك اليوم أو أياماً بعده، فيتصدق هؤلاء على هؤلاء حتى يستغنوا، ويخرجها الجميع.

وقال في بعض الروايات: (أما غنيكم فيطهره الله، وأما فقيركم فيرد عليه أكثر مما أعطى)، ومعلوم أن الفقير أيضاً يخرج الصدقة، فيخرج هذه الزكاة، ولكن يأتيه أكثر مما أعطى؛ لأن الأغنياء لا يجدون مصرفاً إلا هذا الفقير، فإذا كان في البلد مائة بيت، منها -مثلاً- عشرة أبيات فقراء وتسعون أغنياء فإن هؤلاء الأغنياء يعطون هؤلاء الفقراء، والفقراء يعطي بعضهم بعضاً، فيكونون قد أعطوهم أكثر مما أخرجوه، فيجتمع عندهم نفقة زائدة، وإن كانوا كثيراً فكذلك، فلو كان النصف فقراء والنصف أغنياء فإن الفقراء يعطي بعضهم بعضاً، والأغنياء يعطون الفقراء، فيجتمع أنهم أغنوهم.

فهذه هي الحكمة فيها.

زمن إخراجها

أما زمانها فقد حدد بأنه قبل خروج الناس إلى الصلاة، فيخرجها قبل أن يخرج إلى صلاة العيد، وأجازوا أن يقدمها قبل ذلك بيوم أو بيومين، ولا يجوز بأكثر، وما ذاك إلا أنه لو أعطيها الفقير قبل العيد بأيام أمكن أن ينفقها، فيأتيه العيد وليس عنده شيء، فيحتاج إلى التسول وإلى الاستجداء، فأمر بأن تؤخر حتى يعطاها قبل العيد بيوم أو يومين، فيأتي العيد وعنده منها ما يكفيه، فهذه هي الحكمة.

فالأفضل أن تكون في ليلة العيد، أو في صباح العيد قبل الصلاة، أو في اليوم الأخير من رمضان وهو اليوم الثلاثون، أو في اليوم التاسع والعشرين، فالأفضل اليوم التاسع والعشرون، أو اليوم الثلاثون، أو ليلة الثلاثين، أو صباح الحادي والثلاثين الذي هو يوم العيد.

الأصناف التي تخرج منها

أما نوعها فإنها تخرج من هذه الخمسة، والصحيح -أيضاً- أنها تخرج من غيرها، فهذه الخمسة هي البر المعروف، والشعير وهو معروف أيضاً، والتمر وهو معروف، والأقط الذي يعمل من اللبن، والزبيب الذي هو حمل العنب، فهذه الخمسة يصلح أن تكون قوتاً.

فهناك من قوتهم الأقط يأكلونه أو يحرثونه، وهناك من لا يأكلون إلا التمر، وهناك من يأكلون البر، وهناك من لا يجدون إلا الشعير فيأكلونه.

فهذه الخمسة الأقوات كانت هي الغالب على أهل المدينة ومن حولهم لا يخرج قوتهم عن هذه الخمسة، ولكن إذا وجد آخرون يقتاتون غيره فإنهم -على الصحيح- يخرجون من قوت بلدهم، فإذا غلب على أهل البلاد أن قوتهم من الأرز -كما في هذه البلاد- فإنه يخرج من الأرز؛ لأنه قد يكون أنفع للمساكين وأقل تكلفة، وإذا كان أهل البلد لا يقتاتون إلا السلق فإنه يخرج منه، وإذا كانوا لا يقتاتون إلا الذرة فإنها يخرج منها، وإذا اقتاتوا الدخن فإنه يخرج منه، وهكذا أنواع المأكولات، يخرجون مما هو غالب في بلادهم، ومما أكل أهل بلدهم منه.

والحكمة فيه أنه قوت للمساكين، وإذا أخرج من غير القوت لم ينتفعوا به؛ لأنهم لم يعتادوه، فإذا أخرجوا -مثلاً- من الشعير والناس لا يعرفونه ولا يأكلونه علفوه الدواب كما في هذه الأزمنة، أو باعوه بثمن بخس لمن يعلفه الدواب، وإذا أخرجوا من التمر والناس لا يأكلونه كما في هذه الأزمنة فكذلك لن يأكلوه، ولن يجعلوه قوتاً، فنحن نقول: الأولى أن تنظر إلى الشيء الذي يأكلونه، فتعطيهم حتى يأكلوه ولا يبيعوه.

ويقول بعض العلماء: إنه يجوز إخراج القيمة. وهو مروي عن الحنفية، ولكن الصحيح أنه لا يجوز، بل إنه لابد من إخراج طعام، والقيمة كانت موجودة في العهد النبوي، ولم ينقل أنه أمرهم بأن يخرجوا القيمة، وبأن يعطوهم الثمن، ولو كان الثمن أنفع أحياناً؛ لأنه يصلح أن ينتفعوا به في جميع الأشياء، ولكن ما ورد إلا القوت، فتخرج الصدقة من القوت الذي يؤكل، ولا تخرج من اللباس، ولا تخرج من الأحذية -مثلاً-، ولا تخرج من الدراهم قيمة، بل لابد أن تكون من الأقوات والأطعمة المعتادة، هذا هو الصحيح الذي عليه العمل.

مقدار ما يخرج

لابد أن يخرج هذا المقدار، وهو الصاع، والصاع أربعة أمداد كما هو معروف، والمد يقدر بأنه ملء الكفين المتوسطتين من البر المعتاد أو من الشعير ونحوه.

ولكن صاعنا المعتاد الذي يجعل عليه علاوة كاف في ذلك، وإن كان أكثر من أربع حفنات، فهذا هو المقدار المجزئ، وقد عرفنا أن معاوية رضي الله عنه أباح لهم أن يخرجوا مدين من البر، وذلك لأنه قدم إلى المدينة ورآهم يخرجون صاعاً من الشعير، ومعلوم أن الشعير قليل القيمة وأن أكثرهم لا يأكله، وأن البر ولو كان قليلاً أنفع لهم، وهو الذي يأكلونه ويقتاتونه، فأرشدهم إلى أن يخرجوا صاعاً من الشعير أو نصف صاع من البر، فقال لهم: إذا أخرجتم نصف صاع من البر فقيمته قيمة الصاع من الشعير، وربما يكون خيراً وأنفع للفقير؛ لأنه يؤكل، وأما الشعير فإنهم لا يأكلونه، فأفتى بأنهم يعدلون إلى نصف الصاع من البر حتى ينفع الفقراء، وهذا اجتهاد منه.

ونحن نقول: إذا عرفت أنك لا تخرج إلا من الشعير والشعير إنما يعطونه الدواب، أو من التمر الرديء ويعطى الدواب فالأفضل أن تعطيهم شيئاً يأكلونه ولو أقل من صاع، ولكن الاختيار لك ألا تنقص من الصاع كما عمل بذلك أبو سعيد -راوي الحديث-، فإنه يقول: أما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. التزم أبو سعيد ألا ينقص من الصاع، سواء من البر أو من الشعير أو من التمر أو من البر أو من الزبيب أو من الأقط، وهذا هو الأولى.

ونقول: الأفضل أن تخرج من الشيء الذي يأكلونه وينتفعون به كالبر والأرز ونحوه، وإذا كنت ولابد مخرجاً من الشعير الذي لا يؤكل فكونك تخرج نصف صاع من البر الذي يؤكل أفضل من كونك تخرج صاعاً من الشعير الذي هو علف للدواب، فهذا هو الأفضل.

حكم نقلها إلى غير محلها

ثم هل يجوز نقلها إلى بلاد بعيدة؟

ذهب الأكثرون إلى أنها لا تخرج من البلاد إذا كان فيها فقراء، وهذا هو القول الصحيح، فإذا كان في البلد فقراء واستعطت أن توصلها إليهم، وأنت تعرفهم وتتحقق بأنهم محتاجون وذوو فاقة، فأعطهم صدقتك، أما إذا كنت لا تعرف فقراء، أو ليس في البلد فقراء فإنه يجوز نقلها ولو إلى بلاد بعيدة، فيجوز نقلها -مثلاً- إلى مجاهدي الأفغان أو غيرهم من الذين يأكلونها وينتفعون بها وتقع عندهم موقعاً، ولكن لابد أن يذكر أنها زكاة فطر، ولابد أن يقدم إرسالها حتى تصل إليهم قبل خروج وقتها، فترسل قبل خروج الشهر في آخر الشهر ونحو ذلك، وأن يتحقق من الذي قبضها أنه سوف يشتري بها من الأطعمة المعتادة عندهم التي يأكلونها ويأكلون أمثالها، فإذا كان كذلك جاز إرسالها، وإلا فلا.

وعلى كل حال: فصدقة الفطر هي صدقة من الصدقات، يجب أن يخرجها الإنسان في هذا الزمان، فلو قدر أنه لم يتمكن جاز إخراجها في يوم العيد، وإذا فاتته ليلة العيد ولم يتمكن إلا بعدما صلى العيد أجزأت في ذلك اليوم، وأما إذا فات ولم يتمكن من إخراجها إلا بعد يوم العيد، فهل تسقط؟ الجواب: لا تسقط. ولكن مع ذلك يخرجها ولو بعد يوم أو بعد أيام، ويعتبرها ديناً، فيعتبرها شيئاً وجب عليه فيخرجها، ولكنه مع ذلك آثم في تأخيره لها.

فهذه من الصدقات التي شرعها النبي صلى الله عليه وسلم وحث أمته عليها ورغبهم فيها وأمر بأن تخرج.

من يلزم المكلف إخراجها عنه

أما من تخرج عنه: فإنها تخرج عن أهل البيت كلهم، عن الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، تخرج عمن ينفق عليه، فإذا كان في بيتك جماعة أنت تقوم بالنفقة عليهم فأخرج عنهم، فإخراجها عن الصغير والكبير وكذلك الذكر والأنثى والحر والعبد هو الواجب.

وقد تقول: كيف تخرج عن الذين لم يصوموا إذا كانت طهرة للصائم؟

نقول: شرعت حتى يكثر إخراجها، وحتى يكثر حظ المساكين، فإذا أخرج الغني عن عشرة يقوتهم أو عن عشرين من أهل بيته كثر الذي يأتي إلى الفقراء من هذا الطعام، حيث إنه لو لم يخرج إلا عن نفسه وعن زوجته إذا كان أطفاله لا يصومون لصغرهم لم تكثر الصدقة التي تأتي إلى المساكين، فشرع إخراجها عن الكل، كما أن الفقير -أيضاً- يخرجها عن الكل، أي: عن جميع أهل بيته.

ثم يخرجها -أيضاً- عمن يقوت من المسلمين، وكلمة (من المسلمين) وردت في رواية الإمام مالك، فأخذوا منها أنها لا تجب عن الكافر ولو كان ممن يقيته المسلم، فقد يكون في البيت خادمة أو خادمات لسن بمسلمات، وكذلك خدام وسواقون ونحوهم ليسوا بمسلمين، فهؤلاء لا يخرج عنهم، وذلك لأنهم ليسوا من المسلمين، وليسوا من الذين يحتاجون إلى تطهير، وليسوا ممن يصومون، فلا حاجة إلى أن يخرج عنهم؛ لأنها خاصة بالمسلمين ولا تعطى إلا للمسلمين.




استمع المزيد من الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن جبرين - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الأحكام [4] 2576 استماع
شرح عمدة الأحكام [47] 2508 استماع
شرح عمدة الأحكام [36] 2492 استماع
شرح عمدة الأحكام 6 2432 استماع
شرح عمدة الأحكام 9 2365 استماع
شرح عمدة الأحكام 53 2350 استماع
شرح عمدة الأحكام 7 2324 استماع
شرح عمدة الأحكام [31] 2324 استماع
شرح عمدة الأحكام 56 2321 استماع
شرح عمدة الأحكام [43] 2286 استماع