شرح عمدة الفقه - كتاب الصيام [5]


الحلقة مفرغة

الاشتراط في الاعتكاف

تقدم لنا قول المؤلف رحمه الله تعالى: (ولا يخرج من المسجد إلا لما لابد له منه)، وذكرنا أن اللبث في المسجد هو ركن الاعتكاف، ويدل لهذا حديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفاً)، تعني النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث في الصحيحين.

وذكرنا أن الخروج من المسجد للمعتكف ينقسم إلى أقسام:

القسم الأول: أن يُخرج بعض جسده، فهذا لا يُبطل الاعتكاف، ويدل له حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا اعتكف كان يُدني رأسه إلى عائشة رضي الله تعالى عنها فترجله).

القسم الثاني: أن يخرج لأمر لابد له منه شرعاً، كما لو خرج لصلاة الجمعة أو خرج للوضوء أو خرج للغُسل الواجب ونحو ذلك، فهذا جائز ولا بأس به.

القسم الثالث: أن يخرج لأمر لابد له منه طبعاً، كما لو خرج لقضاء حاجة الإنسان، أو خرج لأكل أو شرب لا يتمكن منه في المسجد ونحو ذلك، فهذا جائز ولا بأس به، ويدل له ما سلف من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها.

القسم الرابع: أن يخرج لضرورة، فإذا اضطر للخروج كما لو حصل خوف في المسجد، أو حصل حريق ونحو ذلك فخرج، فهذا أيضا لا يُبطل عليه اعتكافه.

القسم الخامس: أن يخرج لقربة من القرب، يعني عبادة من العبادات، كما لو خرج لعيادة مريض، أو لتشييع جنازة، أو لحضور درس علم ونحو ذلك، فهل له أن يخرج لهذه القربة بالشرط أو نقول: ليس له أن يخرج ولو بالشرط؟

يقول المؤلف رحمه الله: (إلا أن يشترط).

فإذا اشترط فإن هذا جائز، يعني اشترط في بداية اعتكافه أن يخرج لهذه القربة، في بداية اعتكافه اشترط أن يخرج لتشييع جنازة فلان إن مات، أو لعيادة هذا المريض، أو لصلة رحمه، أو لبر والده، أو لحضور درس ونحو ذلك، فيقول المؤلف رحمه الله: إذا كان هناك شرط فإن هذا جائز ولا بأس به.

ويدل لهذا حديث عائشة في قصة ضباعه بنت الزبير ، فإنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إني أريد الحج وأجدني شاكية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حُجي واشترطي)، فرخص لها النبي صلى الله عليه وسلم بالاشتراط في الحج، والحج عبادة.

ويُلحق الاعتكاف بالحج فله أن يشترط، فيقول: لي أنا أعتكف لكن لي أن أخرج لمثلاً لحضور الدرس الفلاني ونحو ذلك، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الاشتراط في الاعتكاف ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: اشتراط عام، فيشترط شرطاً عاماً، يقول: إن بدا لي قربة من القرب فلي أن أخرج.

والقسم الثاني: اشتراط خاص، يقول: أخرج للقربة الفلانية للعبادة الفلانية.

الرأي الثاني في المسألة: أنه ليس له أن يخرج لفعل قربة من القرب، حتى ولو اشترط، وأن الاشتراط في الاعتكاف غير مشروع، ويستدلون على هذا بأن العبادات توقيفية، ولم يرد الشرط في الاعتكاف، فليس هناك دليل يدل عليه، ومادام أنه ليس هناك دليل يدل عليه فإن الشرط في الاعتكاف غير جائز.

والذي يظهر -والله أعلم- أن القول بالاشتراط جائز، مادام أن له أصلاً في العبادة، يعني الاشتراط ورد في الحج كما سبق، وكذلك أيضاً ورد في الدعاء، مادام أن له أصلاً في العبادة، وهذا القياس لا يترتب عليه إثبات عبادة مستقلة، فيظهر -والله أعلم- أن هذا الاشتراط جائز، ولأن الشخص إنما تطوع بهذه العبادة على هذا الوجه، فما دام أن له أصلا في الشريعة فيظهر أن هذا جائز ولا بأس به.

مفسدات الاعتكاف

قال المؤلف رحمه الله: [ولا يباشر امرأته].

هنا شرع المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر شيء من مبطلات الاعتكاف، قال: (لا يباشر امرأته)، ويدل لهذا قول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وإذا باشر امرأته فإن هذه المباشرة لا تخلو من ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن يباشر امرأته دون أن يكون هناك شهوة، بمعنى أن تمس بشرته بشرة امرأته دون أن يكون هناك شهوة كما لو صافحها ونحو ذلك، فهذا لا يبطل الاعتكاف ولا بأس به.

ويدل لذلك ما تقدم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُدني إليها رأسه فترجله وهو معتكف)، وهنا نوع من المباشرة بين الزوجين.

النوع الثاني: الجماع، لو أنه خرج إلى بيته لحاجة ثم بعد ذلك وطئ زوجته، فإن اعتكافه يبطل باتفاق الأئمة، لما تقدم من قول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].

النوع الثالث: أن يباشرها لشهوة دون أن يكون هناك جماع، كما لو مس زوجته لشهوة، فهل يبطل عليه اعتكافه أو لا يبطل عليه اعتكافه؟

للعلماء رحمهم الله تعالى في ذلك رأيين: جمهور العلماء لا يبطل عليه اعتكافه إلا إن أنزل، إذا حصل معه إنزال فإن اعتكافه يبطل عليه.

والرأي الثاني: رأي المالكية، وأن اعتكافه يبطل عليه مطلقاً، إذا باشر زوجته لشهوة فإن اعتكافه يبطل عليه مطلقاً، سواء كان هناك إنزال أو لم يكن هناك إنزال، وهم أخذوا بظاهر قول الله عز وجل: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187].

وأما جمهور العلماء فيقولون: بأن المباشرة -كما ورد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- المراد بها هو الجماع، وعلى هذا إن حصل له إنزال فإنه يبطل عليه اعتكافه، كما يبطل عليه صيامه إذا باشر زوجته وهو صائم، صيامه يبطل عليه إذا حصل إنزال، أما إذا لم يحصل إنزال فإن صيامه صحيح، وفي حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقبل وهو صائم، ويباشر وهو صائم).

فيتلخص لنا من مفسدات الاعتكاف:

أولاً: الجماع.

وثانياً: مما يفسد الاعتكاف إذا باشر زوجته وحصل إنزال.

ثالثاً: من مفسدات الاعتكاف إنزال المني.

وإنزال المني أنواع:

النوع الأول: أن يُنزل المني بالاستمناء، وكما تقدم أيضاً بالمباشرة، فإذا حصل إنزال بالاستمناء فإن اعتكافه يبطل عليه؛ لما تقدم من أن الصيام يبطل بهذه الأشياء، فكذلك أيضاً يبطل بالاعتكاف، ولأن مثل هذه الأشياء تُنافي الاعتكاف.

النوع الثاني: إنزال المني بالاحتلام في النوم، لو أنه نام ثم بعد ذلك احتلم فإن اعتكافه لا يبطل عليه؛ لحديث عائشة : ( رُفع القلم عن ثلاثة، ومنهم النائم حتى يستيقظ).

النوع الثالث: إنزاله بالتفكر، لو تفكر في أمر الجماع حتى أنزل المني، فأيضاً لا يبطل عليه اعتكافه؛ لما ثبت في الصحيحين: (إن الله تجاوز عن هذه الأمة ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل).

النوع الرابع: إنزال المني بالنظر إذا نظر ثم بعد ذلك حصل نزول للمني، فهل يبطل الاعتكاف أو لا يبطل الاعتكاف؟

المشهور من مذهب الإمام أحمد أنه إذا كرر النظر حتى أنزل فإنه يبطل عليه اعتكافه.

وعند الإمام مالك رحمه الله أنه يبطل الاعتكاف ولو بنظرة واحدة، ولو لم يحصل هناك تكرار للنظر.

وعند أبي حنيفة والشافعي أن الاعتكاف لا يبطل إذا حصل إنزال للمني بالنظر.

والأقرب في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمام أحمد رحمه الله المشهور من مذهب الحنابلة، وأنه إذا كرر النظر حتى أنزل فإنه يبطل عليه اعتكافه، لأن له الأولى وليست له الآخرة، ولأنه إذا كرر النظر فقد عمل ما يقتضي إنزال المني منه.

أيضاً من المفسدات: طروء الحيض: إذا كانت المرأة معتكفة فحاضت أو نفست وهي في المعتكف، هل يبطل اعتكافها أو لا يبطل؟

جمهور العلماء أن طروء الحيض والنفاس ليس مبطلاً للاعتكاف؛ لأن الطهارة ليست شرطاً للاعتكاف، وعلى هذا إذا طرأ معها حيض أو نفاس فإنها تخرج، فإذا طهرت فإنها تعود للمسجد، خلافاً لما ذهب إليه الحنفية.

كذلك أيضاً: الجنون والإغماء.

إذا طرأ جنون على المعتكف، أو حصل له إغماء، هل يبطل اعتكافه أو لا يبطل؟

جماهير العلماء أن اعتكافه لا يبطل؛ لأن الجنون بغير اختياره، والمغمى عليه ملحق بالنائم، وعلى هذا إذا فاق من جنونه فإنه يواصل اعتكافه، وإذا فاق من إغمائه فإنه يواصل اعتكافه.

كذلك أيضاً إذا فعل كبيرة من الكبائر:

كما لو حصل منه غيبة أو نميمة أثناء الاعتكاف، أيضاً جمهور العلماء أن اعتكافه لا يبطل عليه خلافاً للمالكية؛ لأن النهي هنا يعود إلى أمر خارج عن العبادة، فلم يقتض إفساد هذه العبادة.

ومن المفسدات: السكر:

فلو أن المعتكف شرب ما يسكره، نقول: يبطل عليه اعتكافه؛ لأن السكران ممنوع من المسجد.

ومن المبطلات: الرِدة.

فإذا ارتد عن الإسلام بقول أو فعل أو اعتقاد أو استهزاء ونحو ذلك فإن اعتكافه يبطل عليه، وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65]، وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23].

كذلك أيضاً من المبطلات: قطع نية الاعتكاف، فإذا قطع نية الاعتكاف فإن اعتكافه يبطل عليه.

لما تكلم المؤلف رحمه الله عن أحكام الصيام ذكر أحكام الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف يُشرع في رمضان في العشر الأواخر من رمضان كما هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان مستحباً في كل وقت كما هو قول جمهور أهل العلم، إلا أنه يُستحب ويتأكد أن يكون رمضان، ويتأكد أن يكون في العشر الأواخر، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله أحكام الاعتكاف بعد أحكام الصيام.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [22] 2512 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [1] 2459 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [4] 2427 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [12] 2419 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [2] 2391 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [14] 2347 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الطهارة [2] 2347 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب النكاح [1] 2304 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الصلاة [23] 2301 استماع
شرح عمدة الفقه - كتاب الزكاة [6] 2294 استماع