شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [8]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[وفرض من قَرُبَ من القبلة إصابة عينها، ومن بَعُدَ جهتها، فإن أخبره ثقة بيقين، أو وجد محاريب إسلامية عمل بها، ويستدل عليها في السفر بالقطب، والشمس، والقمر، ومنازلهما، وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر، ويتبع المقلد أوثقهما عنده، ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده، ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة، ويصلي بالثاني ولا يقضي ما صلى بالأول، ومنها النية، فيجب أن ينوي عين صلاة معينة، ولا يشترط في الفرض والأداء، والقضاء، والنفل، والإعادة نيتهن، وينوي مع التحريمة، وله تقديمها عليها بزمن يسير في الوقت، فإن قطعها في أثناء الصلاة، أو تردد بطلت، وإن قلب منفردٌ فرضه نفلاً في وقته المتسع جاز، وإن انتقل بنية من فرض إلى فرض بطلا، ويجب نية الإمامة والائتمام، وإن نوى المنفرد الائتمام لم تصح كنية إمامته فرضاً].

كنا قد توقفنا على شرط استقبال القبلة، فذكرنا أن من شروط صحة الصلاة استقبال القبلة، وذكرنا دليل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن المسلمين مجمعون على ذلك، وتقدم لنا الحالات التي يعفى فيها عن استقبال القبلة، وذكرنا من هذه الحالات ما إذا كان هناك ضرر في استقبال القبلة، أو إذا كان عاجزاً عن استقبال القبلة، أو كان يلحقه حرج ومشقة في الاستقبال، ففي مثل هذه المسائل يسقط عنه الاستقبال.

وكذلك أيضاً: تقدم لنا من الحالات التي يسقط فيها الاستقبال: المتنفل في السفر إذا كان ماشياً، سواء كان راكباً أو راجلاً، وتقدم أن المؤلف رحمه الله تعالى يرى أن المتنفل إذا كان راكباً فإنه يلزمه أن يفتتح الصلاة إلى القبلة، وذكرنا الرأي الثاني في هذه المسألة: أنه لا يلزمه أن يفتتح الصلاة إلى القبلة.

والراكب هل يلزمه أن يركع وأن يسجد إلى القبلة، أو لا يلزمه؟ قلنا: بأن هذا لا يخلو من أمرين:

الأمر الأول: أن يكون المكان واسعاً، كما في حال السفينة الواسعة بحيث يتمكن من أن يقوم ويركع ويسجد تجاه القبلة، أو مثلاً في الطائرة إذا كان هناك مكان مخصص للصلاة، أما إذا كان لا يتمكن، كما لو كان في السيارة أو كان -مثلاً- في الطائرة وليس فيها مكان معدّ للصلاة فإنه يتنفل ويسجد ويركع إلى جهة سيره.

وكذلك أيضاً: الافتتاح -كما تقدم لنا- يكون إلى جهة سيره إن استطاع كما سلف، ولو صلى وهو جالس فإن هذا لا بأس به؛ لأن صلاة النفل تصح أن يكون جالساً ويومئ بالركوع والسجود، وإذا كان يتمكن من أن يسجد سجد، وإذا كان لا يتمكن أومأ بالسجود، هذا إذا كان راكباً، فإن كان ماشياً فالمؤلف يقول: يلزمه أن يفتتح الصلاة إلى القبلة، وأن يركع وأن يسجد إلى القبلة.

وقلنا: إن الصواب في هذه المسألة أنه لا يلزمه أن يركع وأن يسجد إلى القبلة؛ لأن النفل شرع في مثل هذه الحالات لتكثير النفل وللتوسعة، وليكون المسلم على صلة بربه عز وجل، وكوننا نشترط هذه الشروط ونضع هذه القيود التي لم تثبت في الكتاب والسنة فهذا فيه نظر، فالصحيح أنه يمشي ويركع ويسجد إلى جهة سيره، أما إن كان المسافر نازلاً فهذا يجب عليه أن يستقبل القبلة، ولا يسقط عنه استقبال القبلة.

كذلك أيضاً: لو كان الإنسان في البلد غير مسافر، فإنه ليس له أن يصلي على الراحلة ويترك الاستقبال... إلى آخره؛ لكن لو كان مسافراً ثم دخل البلد، مثلاً: سافر إلى مكة ودخل إلى البلد، وهو في طريقه إلى المسجد الحرام تنفل وهو على السيارة، نقول: بأن هذا جائز ولا بأس به؛ لأنه مسافر حتى ولو كان داخل البلد ما دام أنه مسافر؛ لكن إذا كان ليس مسافراً فإنه لا يسقط عنه استقبال القبلة كما لو كان في بلده.

استقبال القبلة حال القرب والبعد منها

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وفرض من قَرُبَ من القبلة إصابة عينها، ومن بَعُدَ جهتها).

يعني: إذا كنت قريباً من الكعبة فيجب عند استقبالك أن تصيب عين الكعبة، قالوا: ولا يخرج شيء من بدن المصلي عن الكعبة، وعلى هذا لو أصبت جهة الكعبة، فإن الصلاة لا تصلح، مثلاً: هذه هي الكعبة وأنت صليت ولم تصب عينها مع كونك تصلي إلى جهتها، نقول: هذه الصلاة لا تصح، وضابط القرب: أن تكون في المسجد الحرام، فإذا كنت فيه فلابد أن تكون مستقبلاً عين الكعبة، فلو خرجت يميناً أو يساراً بحيث لا توازي عين الكعبة لم تصح صلاتك.

وأيضاً -كما ذكرنا- لابد أن يكون بدنك كله إلى عين الكعبة، فلو خرج شيء من بدنك يميناً أو يساراً فلا يصح، وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله.

وفي قول للشافعية: أنه لو أصاب جهة الكعبة فإن هذا لا بأس به، مثلاً: هذه الكعبة والتفت يمنة والتفت يسرة وأصاب جهة الكعبة فقالوا بأن هذا جائز ولا بأس به.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه ما دام أن الإنسان متمكن من إصابة عين الكعبة فلابد من إصابة عينها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هذه القبلة، وأشار إليها )؛ لكن ما ذكره العلماء رحمهم الله: أنه لو خرج يمنة، أو يسرة يظهر -والله أعلم- أنه لا يضر لو خرج دون أن يستقبل عين الكعبة.

إذاً: هذا القسم الأول الذي يجب عليه أن يصيب عين الكعبة، وهو من كان بداخل المسجد الحرام.

القسم الثاني: من يجب عليه استقبال جهة الكعبة، وهو من كان خارج المسجد الحرام حتى ولو كان في المسجد النبوي على الصحيح، فإن الذي يجب عليه هو استقبال جهة الكعبة، ولا يجب عليه أن يصيب عينها، فإذا كان يصلي خارج المسجد الحرام، فالواجب عليه أن يصيب الجهة، ويدل لهذا: حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، فما بين المشرق والمغرب هذا بالنسبة للمدينة؛ لأن أهل المدينة قبلتهم الجنوب؛ لكن بالنسبة لبلدنا -مثلاً- القبلة إلى جهة الغرب، نقول: ما بين الشمال والجنوب قبلة، فالتيامن والتياسر اليسيران يقول العلماء: لا يضران، فلو التفتّ يميناً أو شمالاً فهذا كله جائز ما لم تجعل وجهك في الزاوية، -يعني: بين جهة المغرب وجهة الشمال- هنا نقول: ليس لك؛ لأنك ذلك خرجت عن جهة المغرب، فأنت ما دمت في الجهة ولم تجعل شيئاً من بدنك إلى الجهة الأخرى فهذا لا يضر؛ لأن الواجب عليك الجهة، ومثلها أيضاً اليسار ما لم تصل إلى الجهة الجنوبية، يعني: ما دمت في حدود هذه الجهة فهذا كله قبلة لك، ودليله -كما ذكرنا- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، بهذا نعرف أن التيامن والتياسر اليسيران لا يضران.

قال: ( ومن بَعُدَ جهتها ).

يعني: يجب عليه أن يستقبل جهة الكعبة، ويستثنون المسجد النبوي؛ لأن المسجد النبوي القبلة فيه جاءت عن طريق الوحي؛ لكن الصحيح في ذلك أنه لا فرق بين المسجد النبوي وغيره من المساجد، وأنه إذا كان خارج المسجد الحرام فالواجب عليه أن يستقبل جهة الكعبة، وأما الذي يجب عليه أن يصيب عين الكعبة فإنه من كان داخل المسجد الحرام.

كيفية معرفة القبلة

قال: ( فإن أخبره ثقة بيقين ).

هنا شرع المؤلف -رحمه الله- في بيان ما يستدل به على القبلة، نقول: يستدل على القبلة بأمور:

الأمر الأول: خبر الثقة، قال المؤلف رحمه الله: (بيقين)، كأن يقول: الكعبة رأيتها هكذا، إذا كان هذا الخبر بيقين، فأنت تأخذ به، ومفهوم كلام المؤلف رحمه الله: أنه لو أخبره عن ظن فإنه لا يأخذ بقوله، والصحيح أنه يأخذ بقوله؛ لأن الظن يعتبر في العبادات، وسيأتينا -إن شاء الله- أن المقلد الذي ليس من أهل الاجتهاد يتبع المجتهد.

وعلى هذا؛ الصحيح أنه إذا أخبره عن ظن أنه يأخذ بقوله، والآن كثير من الآلات التي تستخدم ظنية وليست قطعية، فهي تشير إلى جهة القبلة وقد تخطئ، فهذه دلالة ظنية، فالصحيح في ذلك أنه سواء كان الخبر عن طريق اليقين كما لو قال: رأيت الكعبة، أو عن طريق الظن، فهذا كله متبع؛ لأن الظن معتبر في العبادات.

قال: ( أو وجد محاريب إسلامية عمل بها ).

إذا وجد المحاريب الإسلامية فإنه يعمل بها؛ لأن اتفاق المسلمين على وجود هذه المحاريب إجماع على أن القبلة إلى هذه الجهة، واتفاقهم على وضع هذا المحراب بمرور الزمن عليه هذا إجماع منهم على أن القبلة إلى هذه الجهة، فنستدل بالمحاريب الإسلامية.

وقوله: (إسلامية)، ظاهر كلام المؤلف رحمه الله تعالى: أننا لا نستدل بالمحاريب غير الإسلامية، لكن يستثني العلماء رحمهم الله من ذلك: محاريب الكفار الذين نعلم قبلتهم؛ لكونهم يتوجهون إلى معينة فمثلاً: النصارى يتوجهون إلى جهة المشرق، فنحدد جهة المشرق بمحاريب النصارى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: ( ويستدل عليها في السفر بالقطب ).

هذا الثالث: الاستدلال للقبلة بالنجوم، وقال المؤلف رحمه الله تعالى: (في السفر)، وهذا نأخذ منه مسألة: وهي أن الحضر ليس محل اجتهاد، لو كان هناك رجل يعرف القطب، ويعرف النجوم، ويعرف منازل الشمس والقمر، ويتمكن من الاستدلال بهذه النجوم، يتمكن من الاستدلال بالعلامات الأفقية على القبلة، يقول المؤلف رحمه الله: الحضر ليس محل الاجتهاد، الذي يكون محل اجتهاد هو السفر؛ لأنه بإمكانك في الحضر بأن تنظر للمحاريب أو تسأل.

والرأي الثاني في هذه المسألة: أن الحضر أيضاً محل اجتهاد، وعلى هذا لو أن الإنسان نزل بيتاً وحل ضيفاً وهو لا يعرف القبلة، ثم صعد إلى السطح وهو يعرف النجوم وكيف يستدل بها، واستدل بهذه النجوم على القبلة، نقول: بأن هذا الاستدلال صحيح، وهذا القول هو الصواب، وأنه شامل للسفر والحضر.

قال: (بالقطب).

القطب: يقولون: هو نجم شمالي خفي، وحوله أنجم دائرة كفراشة الرحى في أحد طرفي الجدي والآخر الفرقدان، وهذا القطب يستدل به، ويقولون: هو أثبتها؛ لأنه لا يزول عن مكانه، فإذا جعله على عاتقه الأيسر في مصر استقبل القبلة، وإذا جعله في الشام خلف ظهره استقبل القبلة... إلى آخره.

قال: (والشمس والقمر ومنازلهما).

أي: منازل الشمس والقمر؛ لأن هذه تطلع من المشرق وتغرب من المغرب فيستدل بها.

فذكر المؤلف رحمه الله: أنه استدل بالخبر، وثانياً: بالمحاريب الإسلامية، وثالثاً: بالقطب، ورابعاً: بمنازل الشمس والقمر، وخامساً: ما يوجد اليوم من الآلات مثل البوصلة، ونحو ذلك، التي تضبط لك بالدرجات مكان الكعبة، فهذه أيضاً يستدل بها؛ لأنه كما تقدم لنا أن الظن معتبر في دخول الوقت، كذلك أيضاً معتبر في استقبال القبلة.

اختلاف المجتهدين في جهة القبلة

قال رحمه الله: (وإن اجتهد مجتهدان فاختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر).

إذا اجتهد مجتهدان، المجتهد: هو الذي يعرف أدلة القبلة، وكيفية الاستدلال بها، وليس المجتهد الذي يتحرى القبلة هنا أو هنا، إنما المجتهد من يعرف النجوم، ويعرف منازل الشمس والقمر، والعلامات الأفقية، حتى العلماء رحمهم الله ذكروا وجوه الجبال، وذكروا مصاب الأنهار، وذكروا الرياح.. إلى آخره، هذه كلها مما يستدل بها، أما الذي يتحرى القبلة يميناً أو يساراً وليس عنده علم ومعرفة فهذا ليس مجتهداً.

عندنا مجتهدان اختلفا في الجهة، قال أحدهما: الجهة هنا، وقال الثاني: الجهة هنا، وعندنا مسألتان:

المسألة الأولى: الاتباع.

والمسألة الثانية: التقليد، أو الاقتداء.

يقول المؤلف: (إذا اختلفا جهةً لم يتبع أحدهما الآخر)، فكلٌّ يأخذ باجتهاده، أنت ترى أن هذه هي جهة القبلة، وهذا يرى أن هذه هي جهة القبلة، ماذا يترتب على هذا؟ قال: (لم يتبع أحدهما الآخر)، أنا اجتهدت أن هذه جهة القبلة، إذاً: هذه هي جهة القبلة، إذاً: عند قضاء الحاجة لا يتوجه إلى هذه الجهة؛ لكن يجوز لي أن أتوجه إلى غيرها، ويتوجه إلى هذه الجهة -أي: القبلة- عند الدعاء مثلاً... إلى آخره، أشياء كثيرة، فقال: (لم يتبع أحدهما الآخر)، كلٌّ يأخذ باجتهاده ويطبق أحكام القبلة، هذه مسألة.

المسألة الثانية: الاقتداء، مثلاً: جاءت الصلاة، أنا أصلي إلى هذه الجهة، وفلان سيصلي إلى جهة أخرى، فهل يقتدي أحدهما بالآخر؟ هل له أن يصلي معي مع أنه يخالفني في القبلة، أو أنه لا يصلي معي؟

يقول المؤلف رحمه الله: حتى في الاقتداء لا يتبع أحدهما الآخر، هذا يصلي إلى هذه الجهة، وهذا يصلي إلى هذه الجهة، هذا المشهور من المذهب، ومذهب الشافعي كمذهب الحنابلة.

الرأي الثاني: قال به أبو ثور رحمه الله تعالى: أنه يقتدي به؛ لأنه مجتهد، فهو يعتقد أنه على حق، كما لو أكل شافعيٌ لحم جزور، فإنه يجوز للحنبلي أن يصلي خلفه، مع أن الحنبلي يعتقد أن صلاته غير صحيحة، يعني: على مذهبه أن صلاته غير صحيحة؛ لكن على مذهب الشافعية يرون أن الصلاة صحيحة؛ لأنهم يرون أن أكل اللحم الجزور ليس ناقضاً للوضوء، فعندنا مسألة: الاتباع تختلف عن مسألة: الاقتداء، والصحيح في الاقتداء: أن أحدهما له أن يقتدي بالآخر.

وعليه؛ نقول أيضاً بوجوب صلاة الجماعة، وإن كان هذا إلى جهة وهذا إلى جهة أخرى.

قال رحمه الله تعالى: ( ويتبع المقلد أوثقهما عنده ).

المقلد الذي لا يعرف أدلة القبلة، وكيفية الاستدلال بها، هذا يتبع أوثقهما بمعرفة أدلة القبلة، يعني: في الخبرة في أدلة القبلة، وكيفية الاستدلال بها، وكذلك أيضاً: في العلم والأمانة، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، القوة هنا: الخبرة في معرفة الأدلة، وكيفية الاستدلال بها، وأيضاً كونه مؤتمناً على ذلك، فهذا هو الثقة.

فإذا كان هناك شخص لا يعرف الأدلة على القبلة ولا كيفية الاستدلال بها، واختلف في ذلك، فإنه إذا كان يرى أن زيداً أوثق يأخذ بقول زيد، ويعتبر أن هذه هي جهة القبلة، ويطبق عليها أحكام القبلة.

الصلاة إلى القبلة بغير اجتهاد ولا تقليد

قال: (ومن صلى بغير اجتهاد ولا تقليد قضى إن وجد من يقلده).

يعني: هذا إنسان لا يتمكن من الاجتهاد؛ لكونه لا يعرف أدلة القبلة أو كيفية الاستدلال بها، وليس هناك مجتهد يقلده، فماذا يعمل؟ نقول: اسأل أهل البلد، اسأل المارة، انظر إلى المساجد، اذهب إلى المساجد.. إلى آخره، هذا إذا كانت قريبة عرفاً منه، أما إن كانت بعيدة عرفاً.

فإنه يتحرى ويصلي، فإذا كان في الصحراء في السفر، فنقول: إن كان من أهل الاجتهاد يجتهد، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد يقلد إن وجد أحداً يقلده، وإن لم يجد فيجب عليه أنه يقصد الناس والمساجد وينظر إلى المحاريب، إذا كان قريباً عرفاً، أما إن كان بعيداً عرفاً فإنه يصلي بعد أن يتحرى؛ لأن الله تعالى يقول: وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:144].

وهذه المسألة: رجل صلى بغير اجتهاد ولا تقليد وهو يجد من يقلده، فيقول لك المؤلف رحمه الله تعالى: (يقضي صلاته)؛ لأنه ترك الواجب الذي عليه، وهو التقليد، فما دام أنه ترك الواجب الذي عليه وهو التقليد فيجب أن يقضي الصلاة، ولو تبين بعد أن انتهت الصلاة أنه أصاب جهة القبلة.

وعلى هذا نقول: الأقسام ثلاثة:

القسم الأول: أن يعلم أنه أخطأ، فنقول: يجب عليه أن يعيد لو ترك الواجب، وهو تقليد المجتهد.

الحالة الثانية: أن يعلم أنه أصاب، فهذا على المذهب يجب عليه أن يقضي؛ لأنه ترك ما يجب عليه من التقليد.

الحالة الثالثة: ألا يتبين له الأمر، فالمذهب أنه يجب عليه أن يقضي من باب أولى، وهو الصواب، وعلى هذا نقول: لا يجب عليه القضاء إلا إذا أصاب، أما إن أخطأ أو لم يتبين له الأمر فنقول: يجب عليه أن يعيد؛ لأنه ترك الواجب.

تكرار العارف لاجتهاده في القبلة عند كل صلاة

قال: (ويجتهد العارف بأدلة القبلة لكل صلاة).

هذا المجتهد هل يجب عليه أن يجتهد لكل صلاة، أو يكفي الاجتهاد الأول؟ مثلاً: في الصحراء يعرف الأدلة واجتهد عند صلاة المغرب فتبين له أن هذه هي جهة القبلة، ثم جاء وقت العشاء، هل يجتهد مرة أخرى؟

يقول المؤلف رحمه الله: نعم يجتهد مرة أخرى؛ لأن الصلاة الثانية واقعة متجددة فتستدعي طلباً جديداً.

والرأي الثاني: أنه لا يجب عليه أن يجتهد مرة أخرى ما لم يوجد سبب يقتضي ذلك، فإذا وجد سبب يقتضي ذلك، كما لو حصل عنده شك، أو جاءه شخص يقول: ليست هذه جهة القبلة، ونحو ذلك.. إلى آخره، وأحدث في قلبه شيئاً، فنقول: هنا يجب عليه في هذه الحالة أن يعيد الاجتهاد مرة أخرى، أما إذا لم يحصل شيء من ذلك فإنه لا يجب عليه.

قال: (ولا يقضي ما صلى بالأول).

لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، فإذا اجتهد أن هذه هي جهة القبلة وصلى، ثم بعد ذلك شك واجتهد فتبين أن غيرها هي القبلة، نقول: الصلاة الأولى التي صلاها إلى الجهة الأولى صحيحة؛ لأنه خرج من العهدة بامتثال الأمر، وما ترتب على المأذون غير مضمون، والاجتهاد لا ينقض بمثله.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (وفرض من قَرُبَ من القبلة إصابة عينها، ومن بَعُدَ جهتها).

يعني: إذا كنت قريباً من الكعبة فيجب عند استقبالك أن تصيب عين الكعبة، قالوا: ولا يخرج شيء من بدن المصلي عن الكعبة، وعلى هذا لو أصبت جهة الكعبة، فإن الصلاة لا تصلح، مثلاً: هذه هي الكعبة وأنت صليت ولم تصب عينها مع كونك تصلي إلى جهتها، نقول: هذه الصلاة لا تصح، وضابط القرب: أن تكون في المسجد الحرام، فإذا كنت فيه فلابد أن تكون مستقبلاً عين الكعبة، فلو خرجت يميناً أو يساراً بحيث لا توازي عين الكعبة لم تصح صلاتك.

وأيضاً -كما ذكرنا- لابد أن يكون بدنك كله إلى عين الكعبة، فلو خرج شيء من بدنك يميناً أو يساراً فلا يصح، وهذا ما عليه جماهير العلماء رحمهم الله.

وفي قول للشافعية: أنه لو أصاب جهة الكعبة فإن هذا لا بأس به، مثلاً: هذه الكعبة والتفت يمنة والتفت يسرة وأصاب جهة الكعبة فقالوا بأن هذا جائز ولا بأس به.

والذي يظهر -والله أعلم- أنه ما دام أن الإنسان متمكن من إصابة عين الكعبة فلابد من إصابة عينها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هذه القبلة، وأشار إليها )؛ لكن ما ذكره العلماء رحمهم الله: أنه لو خرج يمنة، أو يسرة يظهر -والله أعلم- أنه لا يضر لو خرج دون أن يستقبل عين الكعبة.

إذاً: هذا القسم الأول الذي يجب عليه أن يصيب عين الكعبة، وهو من كان بداخل المسجد الحرام.

القسم الثاني: من يجب عليه استقبال جهة الكعبة، وهو من كان خارج المسجد الحرام حتى ولو كان في المسجد النبوي على الصحيح، فإن الذي يجب عليه هو استقبال جهة الكعبة، ولا يجب عليه أن يصيب عينها، فإذا كان يصلي خارج المسجد الحرام، فالواجب عليه أن يصيب الجهة، ويدل لهذا: حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، فما بين المشرق والمغرب هذا بالنسبة للمدينة؛ لأن أهل المدينة قبلتهم الجنوب؛ لكن بالنسبة لبلدنا -مثلاً- القبلة إلى جهة الغرب، نقول: ما بين الشمال والجنوب قبلة، فالتيامن والتياسر اليسيران يقول العلماء: لا يضران، فلو التفتّ يميناً أو شمالاً فهذا كله جائز ما لم تجعل وجهك في الزاوية، -يعني: بين جهة المغرب وجهة الشمال- هنا نقول: ليس لك؛ لأنك ذلك خرجت عن جهة المغرب، فأنت ما دمت في الجهة ولم تجعل شيئاً من بدنك إلى الجهة الأخرى فهذا لا يضر؛ لأن الواجب عليك الجهة، ومثلها أيضاً اليسار ما لم تصل إلى الجهة الجنوبية، يعني: ما دمت في حدود هذه الجهة فهذا كله قبلة لك، ودليله -كما ذكرنا- قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما بين المشرق والمغرب قبلة )، بهذا نعرف أن التيامن والتياسر اليسيران لا يضران.

قال: ( ومن بَعُدَ جهتها ).

يعني: يجب عليه أن يستقبل جهة الكعبة، ويستثنون المسجد النبوي؛ لأن المسجد النبوي القبلة فيه جاءت عن طريق الوحي؛ لكن الصحيح في ذلك أنه لا فرق بين المسجد النبوي وغيره من المساجد، وأنه إذا كان خارج المسجد الحرام فالواجب عليه أن يستقبل جهة الكعبة، وأما الذي يجب عليه أن يصيب عين الكعبة فإنه من كان داخل المسجد الحرام.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع - كتاب الطهارة [17] 2811 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب النكاح [13] 2719 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب المناسك [5] 2672 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب البيع [26] 2635 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [19] 2631 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [32] 2551 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الأيمان [2] 2544 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الحدود [7] 2522 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الإيلاء [1] 2513 استماع
شرح زاد المستقنع - كتاب الصلاة [6] 2424 استماع