شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [3]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [القاعدة التاسعة: في العبادات الواقعة على وجه محرم، إن كان التحريم عائداً إلى ذات العبادة على وجه يختص بها لم يصح، وإن كان عائداً إلى شرطها فإن كان على وجه يختص بها فكذلك أيضاً، وإن كان لا يختص بها ففي الصحة روايتان: أشهرهما عدمها.

وإن عاد إلى ما ليس بشرط ففي الصحة وجهان، واختار أبو بكر عدم الصحة, وخالفه الأكثرون.

فللأول أمثلة كثيرة: منها: صوم يوم العيد، والصلاة في أوقات النهي، وفي مواضع النهي.

وللثاني أمثلة كثيرة: منها: الصلاة بالنجاسة وبغير سترة وأشباه ذلك.

وللثالث أمثلة: منها: الوضوء بالماء المغصوب.

ومنها: الصلاة في الثوب المغصوب والحرير.

ومنها: الصلاة في البقعة المغصوبة.

وللرابع أمثلة: منها: الوضوء من الإناء المحرم.

ومنها: صلاة من عليه عمامة حرير أو غصب أو في يده خاتم من ذهب].

هذه القاعدة قاعدة أصولية كبيرة، وهي ما يسمى بقاعدة النهي هل يقتضي الفساد أو لا يقتضي الفساد؟ والعلماء رحمهم الله لهم في هذه القاعدة مسلكان:

المسلك الأول: مسلك موسع، وهم أكثر أهل العلم.

والمسلك الثاني: مسلك مضيق، وهم الظاهرية وعندهم القاعدة مطردة، وأن كل نهي يقتضي الفساد.

وأما جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى فهم يوسعون هذه القاعدة، فلا يقولون بأن كل نهي يقتضي الفساد، وإنما يقولون: إذا وجدت الصوارف، ويذكرون هذه الصوارف، ولا يعنينا هنا بحث هذه القاعدة، ما يعنينا أن صاحب الأصل -ابن رجب-، وكذلك صاحب المختصر -السعدي- ذكروا لهذه القاعدة أربعة أقسام، وهذا التقسيم الذي ذكره ابن رجب رحمه الله جيد فقد ألم بجملة القاعدة.

فنقول: هذه قاعدة النهي هل يقتضي الفساد أو لا يقتضيه؟

ونقول: بأن النهي ينقسم إلى أربعة أقسام وسنذكر هذه الأقسام, ونذكر حكم كل قسم, ونضرب أمثلة كما ذكر المؤلف رحمه الله أو نضيف بعض الأمثلة.

النهي العائد إلى ذات المنهي عنه

القسم الأول: أن يعود النهي إلى ذات العبادة أو ذات المعاملة؛ لأن النهي إما أن يكون عائداً إلى عبادة أو إلى معاملة، فإذا عاد إلى ذات العبادة أو ذات المعاملة فإن النهي يقتضي الفساد، وهذا له أمثلة كثيرة:

فمن أمثلته في العبادات: حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تشرق الشمس). فالنهي هنا يعود إلى ذات المنهي عنه، فنقول: النهي يقتضي الفساد.

ومن أمثلة ذلك: حديث عمر رضي الله تعالى عنه في النهي عن صيام يومي العيدين. فنقول: النهي يقتضي الفساد.

ومن الأمثلة التي ذكر أيضاً: النهي عن صيام أيام التشريق، كما في حديث نبيشة الهذلي : (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل). وهذا في العبادات.

وأيضاً في المعاملات جاء في حديث جابر: (إن الله حرم عليكم بيع الميتة والخنزير والأصنام) فالنهي هنا يعود إلى ذات المنهي عنه، فنقول هنا: إن بيع الميتة فاسد، وبيع الأصنام فاسد، وبيع الخمر أيضاً فاسد.

كذلك قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ [النساء:23] فنكاح هؤلاء فاسد، وكذلك في قوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22] وهذا أيضاً فاسد.

النهي العائد إلى شرط المنهي عنه على وجه يختص

القسم الثاني: أن يعود النهي إلى شرط العبادة أو شرط المعاملة على وجه يختص، وانتبه لهذا القيد كما ذكر ابن رجب رحمه الله وكما ذكر الشيخ السعدي رحمه الله، يعني: يختص بالعبادة أو بالمعاملة، فإذا كان يختص فالنهي ليس عاماً، وإنما النهي مختص بالعبادة والمعاملة، فنقول: بأنه يقتضي الفساد، لأنه كالنهي المتوجه إلى ذات العبادة أو المعاملة.

مثال ذلك: لبس الثوب النجس، هل هو خاص بالصلاة أو عام؟

يعني: الآن أنا صليت وانتهيت، وخرجت ولبست ثوباً، لكن عليه شيء من بول أو عليه -مثلاً- دم مسفوح، فإني لست منهياً عن ذلك؛ فلبس الثوب النجس في الصلاة يعود إلى شرط الصلاة على وجه يختص بالصلاة، فالنهي ليس عاماً، يعني: أن الشارع ما نهى أن نلبس ثوباً نجساً خارج الصلاة، لكن نهى أن تلبس ثوباً نجساً داخل الصلاة فقط.

وعلى هذا نقول: إذا صلى المسلم بثوب نجس وهو يعلم النجاسة، فنقول: إن صلاته فاسدة؛ لأن النهي يعود إلى الشرط على وجه يختص، وليس النهي عن لبس الثوب النجس عاماً في الصلاة وفي غيرها، بل هو على وجه خاص بالصلاة.

ومن الأمثلة على ذلك: الصلاة إلى غير القبلة، فهذه الصلاة منهي عنها؛ لأن التوجه إلى القبلة خاص بالصلاة، أما في غير الصلاة فلك أن تتوجه إلى القبلة ولك أن تتوجه إلى غير القبلة، وعلى هذا إذا صليت صلاة إلى غير القبلة، فنقول: إن صلاتك غير صحيحة؛ لأن النهي يعود إلى الشرط على وجه يختص، وهذا في العبادات.

أما مثاله في المعاملات: البيع بثمن مجهول، فإن الله تعالى نهى عن ذلك، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حديث ابن عباس : (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم). يعني: لا بد من العلم. والسلم: نوع من البيع، فهنا: إذا باع بالثمن المجهول، فالنهي يعود إلى شرط المعاملة على وجه يختص، وإذا كان رأس مال السلم مجهولاً، فالنهي يعود إلى الشرط على وجه يختص، وكذلك إذا كان المسلم فيه مجهولاً يعود النهي إلى الشرط على وجه يختص، إذاً: إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً، فيعود النهي إلى الشرط على وجه يختص.

ولهذا توسع العلماء رحمهم الله في باب التبرعات، ومن أحسن من توسع في ذلك الإمام مالك رحمه الله وشيخ الإسلام, فيقولون: يجوز الغرر في باب التبرعات، يعني: يصح أن تهب هبة مجهولة.

كما أنهم يجمعون على جواز الجهالة في الوصية، يعني: يصح أن تكون الوصية مجهولة بالإجماع، أما في باب الوقف، وفي باب الهبة، وفي بقية التبرعات غير الوصية فإن الجمهور يلحقونه بالبيع، وخالفهم في ذلك الإمام مالك فلا يلحق الهبة بالبيع.

يتبين مما سبق أن الجهالة هنا أو اشتراط العلم خاص بالبيع، وبعقود المعاوضات، أما في عقود التبرعات فلا يشترط العلم، فيجوز فيها الغرر كما قال الإمام مالك رحمه الله.

كذلك الصداق، فلا يشترطون فيه العلم، فيقولون: تصح به الجهالة اليسيرة، حتى الحنابلة يجوزون ذلك؛ لأن عقد النكاح ما شرع للكسب والمعاوضة، ولأن المصالح المترتبة عليه أعظم من كسب المال ونحو ذلك.

وكذلك مما تصح فيه الجهالة الخلع، فتبين لنا هنا أن النهي يعود إلى الشرط على وجه يختص؛ لأن العلم ليس شاملاً في كل شيء.

ولهذا بشكل عام: التبرعات يصح أن تكون مجهولة، والصداق يجوزون فيه الجهالة، والخلع يجوزون فيه الجهالة، والإبراء من الديون يجوزون فيها الجهالة.. إلخ.

النهي العائد إلى شرط المنهي عنه على وجه لا يختص به

القسم الثالث: أن يعود النهي إلى شرط العبادة أو شرط المعاملة على وجه لا يختص به.

ومَثَّل المؤلف رحمه الله فقال: (وللثالث أمثلة:

الوضوء بالماء المغصوب)، فالنهي هنا يعود إلى الشرط؛ لأن الطهارة من شروط العبادة، لكن الغصب هل هو خاص بالصلاة أو عام؟ فنقول: النهي عن الغصب نهي عام، فمن الماء المغصوب أنت منهي عن الوضوء منه، ومنهي أنك تغسل به ثوبك، ومنهي أنك تشرب منه، ومنهي أنك تغتسل جميع أنواع الغسل به، فهذا النهي ليس خاصاً بالوضوء، وإنما يعود إلى شرط العبادة، لكن ليس على وجه يختص، فالشارع نهاك عن الغصب نهياً عاماً، وليس نهياً خاصاً بالعبادة.

ومثله أيضاً: الصلاة بالثوب المغصوب، فهناك فرق بين الصلاة بالثوب النجس والصلاة بالثوب المغصوب، فالنهي عن لبس الثوب النجس خاص بالصلاة، لكن يجوز أن يُلبس الثوب النجس خارج الصلاة، أما الثوب المغصوب فلا يجوز لك أن تلبسه في الصلاة وكذلك أيضاً خارج الصلاة.

ومن الأمثلة: لبس ثوب الحرير، فالنهي هنا يعود إلى شرط العبادة على وجه لا يختص، فالشارع نهاك عن لبس الحرير، سواء كان داخل الصلاة أو كان خارجها.

ومثاله في المعاملات: النهي عن التدليس، فهذا النهي راجع إلى الشرط لكنه ليس على وجه يختص، فأنت منهي عن التدليس في النكاح، ومنهي عن التدليس في الهبة.. إلخ.

ومثاله أيضاً: العيب، فإن النهي هنا لا يقتضي الفساد، والنبي صلى الله عليه وسلم في التدليس أثبت الخيار، مما يدل على صحة البيع، لأن الخيار فرض على البيع، وفي المصّراة أيضاً أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار، فنقول: الصواب في هذه المسألة أن النهي هنا لا يقتضي الفساد، لأنه ما دام أن النهي عام، فإنه لا يقتضي الفساد.

النهي العائد إلى أمر خارج عن المنهي عنه

القسم الرابع: أن يعود النهي إلى أمر خارج عن العبادة، ومعنى خارج: يعني لا يتعلق بذات العبادة ولا يتعلق بشرطها، وما دام أنه يعود إلى أمر خارج فنقول: بأنه لا يقتضي الفساد، حتى على المذهب لا يقتضي الفساد.

فمثلاً: لو صلى وفي يده خاتم ذهب، فإنه يحرم عليه ذلك، لكن هذا لا يتعلق بذات العبادة؛ لأن النهي عام ولا يرجع إلى شرطها، ومثله: عمامة الحرير لو لبسها في الصلاة، ومثله أيضاً كما قال المؤلف رحمه الله: (الوضوء من الإناء المحرم، أو صلاة من عليه عمامة مغصوبة). فهنا النهي لا يعود إلى ذات العبادة ولا إلى شرطها، وإنما يعود إلى أمر خارج فلا يقتضي الفساد.

القسم الأول: أن يعود النهي إلى ذات العبادة أو ذات المعاملة؛ لأن النهي إما أن يكون عائداً إلى عبادة أو إلى معاملة، فإذا عاد إلى ذات العبادة أو ذات المعاملة فإن النهي يقتضي الفساد، وهذا له أمثلة كثيرة:

فمن أمثلته في العبادات: حديث أبي سعيد : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تشرق الشمس). فالنهي هنا يعود إلى ذات المنهي عنه، فنقول: النهي يقتضي الفساد.

ومن أمثلة ذلك: حديث عمر رضي الله تعالى عنه في النهي عن صيام يومي العيدين. فنقول: النهي يقتضي الفساد.

ومن الأمثلة التي ذكر أيضاً: النهي عن صيام أيام التشريق، كما في حديث نبيشة الهذلي : (أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل). وهذا في العبادات.

وأيضاً في المعاملات جاء في حديث جابر: (إن الله حرم عليكم بيع الميتة والخنزير والأصنام) فالنهي هنا يعود إلى ذات المنهي عنه، فنقول هنا: إن بيع الميتة فاسد، وبيع الأصنام فاسد، وبيع الخمر أيضاً فاسد.

كذلك قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ [النساء:23] فنكاح هؤلاء فاسد، وكذلك في قوله: وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ [النساء:22] وهذا أيضاً فاسد.

القسم الثاني: أن يعود النهي إلى شرط العبادة أو شرط المعاملة على وجه يختص، وانتبه لهذا القيد كما ذكر ابن رجب رحمه الله وكما ذكر الشيخ السعدي رحمه الله، يعني: يختص بالعبادة أو بالمعاملة، فإذا كان يختص فالنهي ليس عاماً، وإنما النهي مختص بالعبادة والمعاملة، فنقول: بأنه يقتضي الفساد، لأنه كالنهي المتوجه إلى ذات العبادة أو المعاملة.

مثال ذلك: لبس الثوب النجس، هل هو خاص بالصلاة أو عام؟

يعني: الآن أنا صليت وانتهيت، وخرجت ولبست ثوباً، لكن عليه شيء من بول أو عليه -مثلاً- دم مسفوح، فإني لست منهياً عن ذلك؛ فلبس الثوب النجس في الصلاة يعود إلى شرط الصلاة على وجه يختص بالصلاة، فالنهي ليس عاماً، يعني: أن الشارع ما نهى أن نلبس ثوباً نجساً خارج الصلاة، لكن نهى أن تلبس ثوباً نجساً داخل الصلاة فقط.

وعلى هذا نقول: إذا صلى المسلم بثوب نجس وهو يعلم النجاسة، فنقول: إن صلاته فاسدة؛ لأن النهي يعود إلى الشرط على وجه يختص، وليس النهي عن لبس الثوب النجس عاماً في الصلاة وفي غيرها، بل هو على وجه خاص بالصلاة.

ومن الأمثلة على ذلك: الصلاة إلى غير القبلة، فهذه الصلاة منهي عنها؛ لأن التوجه إلى القبلة خاص بالصلاة، أما في غير الصلاة فلك أن تتوجه إلى القبلة ولك أن تتوجه إلى غير القبلة، وعلى هذا إذا صليت صلاة إلى غير القبلة، فنقول: إن صلاتك غير صحيحة؛ لأن النهي يعود إلى الشرط على وجه يختص، وهذا في العبادات.

أما مثاله في المعاملات: البيع بثمن مجهول، فإن الله تعالى نهى عن ذلك، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حديث ابن عباس : (من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم). يعني: لا بد من العلم. والسلم: نوع من البيع، فهنا: إذا باع بالثمن المجهول، فالنهي يعود إلى شرط المعاملة على وجه يختص، وإذا كان رأس مال السلم مجهولاً، فالنهي يعود إلى الشرط على وجه يختص، وكذلك إذا كان المسلم فيه مجهولاً يعود النهي إلى الشرط على وجه يختص، إذاً: إذا كان المبيع أو الثمن مجهولاً، فيعود النهي إلى الشرط على وجه يختص.

ولهذا توسع العلماء رحمهم الله في باب التبرعات، ومن أحسن من توسع في ذلك الإمام مالك رحمه الله وشيخ الإسلام, فيقولون: يجوز الغرر في باب التبرعات، يعني: يصح أن تهب هبة مجهولة.

كما أنهم يجمعون على جواز الجهالة في الوصية، يعني: يصح أن تكون الوصية مجهولة بالإجماع، أما في باب الوقف، وفي باب الهبة، وفي بقية التبرعات غير الوصية فإن الجمهور يلحقونه بالبيع، وخالفهم في ذلك الإمام مالك فلا يلحق الهبة بالبيع.

يتبين مما سبق أن الجهالة هنا أو اشتراط العلم خاص بالبيع، وبعقود المعاوضات، أما في عقود التبرعات فلا يشترط العلم، فيجوز فيها الغرر كما قال الإمام مالك رحمه الله.

كذلك الصداق، فلا يشترطون فيه العلم، فيقولون: تصح به الجهالة اليسيرة، حتى الحنابلة يجوزون ذلك؛ لأن عقد النكاح ما شرع للكسب والمعاوضة، ولأن المصالح المترتبة عليه أعظم من كسب المال ونحو ذلك.

وكذلك مما تصح فيه الجهالة الخلع، فتبين لنا هنا أن النهي يعود إلى الشرط على وجه يختص؛ لأن العلم ليس شاملاً في كل شيء.

ولهذا بشكل عام: التبرعات يصح أن تكون مجهولة، والصداق يجوزون فيه الجهالة، والخلع يجوزون فيه الجهالة، والإبراء من الديون يجوزون فيها الجهالة.. إلخ.

القسم الثالث: أن يعود النهي إلى شرط العبادة أو شرط المعاملة على وجه لا يختص به.

ومَثَّل المؤلف رحمه الله فقال: (وللثالث أمثلة:

الوضوء بالماء المغصوب)، فالنهي هنا يعود إلى الشرط؛ لأن الطهارة من شروط العبادة، لكن الغصب هل هو خاص بالصلاة أو عام؟ فنقول: النهي عن الغصب نهي عام، فمن الماء المغصوب أنت منهي عن الوضوء منه، ومنهي أنك تغسل به ثوبك، ومنهي أنك تشرب منه، ومنهي أنك تغتسل جميع أنواع الغسل به، فهذا النهي ليس خاصاً بالوضوء، وإنما يعود إلى شرط العبادة، لكن ليس على وجه يختص، فالشارع نهاك عن الغصب نهياً عاماً، وليس نهياً خاصاً بالعبادة.

ومثله أيضاً: الصلاة بالثوب المغصوب، فهناك فرق بين الصلاة بالثوب النجس والصلاة بالثوب المغصوب، فالنهي عن لبس الثوب النجس خاص بالصلاة، لكن يجوز أن يُلبس الثوب النجس خارج الصلاة، أما الثوب المغصوب فلا يجوز لك أن تلبسه في الصلاة وكذلك أيضاً خارج الصلاة.

ومن الأمثلة: لبس ثوب الحرير، فالنهي هنا يعود إلى شرط العبادة على وجه لا يختص، فالشارع نهاك عن لبس الحرير، سواء كان داخل الصلاة أو كان خارجها.

ومثاله في المعاملات: النهي عن التدليس، فهذا النهي راجع إلى الشرط لكنه ليس على وجه يختص، فأنت منهي عن التدليس في النكاح، ومنهي عن التدليس في الهبة.. إلخ.

ومثاله أيضاً: العيب، فإن النهي هنا لا يقتضي الفساد، والنبي صلى الله عليه وسلم في التدليس أثبت الخيار، مما يدل على صحة البيع، لأن الخيار فرض على البيع، وفي المصّراة أيضاً أثبت النبي صلى الله عليه وسلم الخيار، فنقول: الصواب في هذه المسألة أن النهي هنا لا يقتضي الفساد، لأنه ما دام أن النهي عام، فإنه لا يقتضي الفساد.

القسم الرابع: أن يعود النهي إلى أمر خارج عن العبادة، ومعنى خارج: يعني لا يتعلق بذات العبادة ولا يتعلق بشرطها، وما دام أنه يعود إلى أمر خارج فنقول: بأنه لا يقتضي الفساد، حتى على المذهب لا يقتضي الفساد.

فمثلاً: لو صلى وفي يده خاتم ذهب، فإنه يحرم عليه ذلك، لكن هذا لا يتعلق بذات العبادة؛ لأن النهي عام ولا يرجع إلى شرطها، ومثله: عمامة الحرير لو لبسها في الصلاة، ومثله أيضاً كما قال المؤلف رحمه الله: (الوضوء من الإناء المحرم، أو صلاة من عليه عمامة مغصوبة). فهنا النهي لا يعود إلى ذات العبادة ولا إلى شرطها، وإنما يعود إلى أمر خارج فلا يقتضي الفساد.

قال المؤلف رحمه الله: [القاعدة العاشرة: الألفاظ المعتبرة في العبادات والمعاملات:

منها: ما يعتبر لفظه ومعناه وهو القرآن؛ لإعجازه بلفظه ومعناه، فلا تجوز الترجمة عنه بلغة أخرى.

ومنها: ما يعتبر معناه دون لفظه، كألفاظ عقد البيع وغيره من العقود وألفاظ الطلاق.

ومنها: ما يعتبر لفظه مع القدرة عليه دون العجز، ويدخل تحت ذلك صور كأقوال الصلاة الواجبة، وخطبة الجمعة، ولفظ النكاح فيه وجهان].

هذه القاعدة في الترجمة، والترجمة هي التعبير من لغة إلى لغة أخرى. فمضمون القاعدة يقول: ما الذي يصح ويجوز أن نترجمه، وما الذي لا يجوز ولا يصح أن نترجمه؟ يعني: أن نعبر عنه من لغة إلى لغة أخرى، والمراد هنا: التعبير من اللغة العربية إلى لغة أخرى.

وقد ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أن القاعدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: ‏

ما يعتبر لفظه ومعناه

القسم الأول: ما يعتبر لفظه ومعناه، يعني: يشترط لفظه ومعناه وهو القرآن؛ لإعجازه بلفظه ومعناه، فلا تجوز الترجمة عنه بلغة أخرى.

وأهل أصول التفسير يقولون بأن ترجمة القرآن تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: ترجمة حرفية، وهذا لا يجوز؛ لأن القرآن معجز بلفظه ومعناه، فلا يتحقق الإعجاز باللفظ دون المعنى، حتى أن العلماء ذكروا شروطاً في المترجم؛ لأنه قد لا يتقن مراد الله سبحانه وتعالى مهما كان.

القسم الثاني: أن تكون الترجمة معنوية، يعني: لمعاني القرآن، فهذا جائز ولا بأس به.

ما يعتبر معناه دون لفظه

القسم الثاني: قال: (ما يعتبر معناه دون لفظه، كألفاظ عقد البيع وغيره من العقود، وألفاظ الطلاق) ومثله الخلع والظهار.. إلخ.

هذا القسم يجوز الترجمة عنه مطلقاً، سواء قُدر على اللفظ العربي أو لم يُقدَر على اللفظ العربي، لأن المراد هنا المعنى دون اللفظ.

ومثاله: يصح أن تبيع باللغة العربية، ويصح أن تبيع باللغة الأردية ولو كنت قادراً باللغة العربية.

ومثله أيضاً: يصح أن تؤجر أو تعقد عقد شراكة، كذلك المساقاة، والمزارعة، والوقف، والوصية.. إلخ.

ومثله أيضاً ألفاظ الطلاق، فلو طلق زوجته باللغة الأردية أو باللغة الفارسية أو باللغة الإنجليزية وغير ذلك وقع الطلاق، يعني: مادام أنه يعرف المعنى وقع الطلاق. وليس شرطاً أن يكون باللغة العربية، حتى لو كان قادراً باللغة العربية.

كذلك لو ظاهر من زوجته فقال: أنت علي كظهر أمي بأي لغة. نقول: وقع الظهار.

ما يعتبر لفظه مع القدرة دون العجز

القسم الثالث: ما يعتبر لفظه مع القدرة دون العجز، يعني: يشترط اللفظ العربي إذا كان قادراً باللفظ باللغة العربية، أما إذا كان عاجزاً فإنه يصير إلى اللغة التي يقدر عليها ولا يشترط اللفظ العربي عندئذٍ.

وضرب المؤلف رحمه الله أمثلة فقال: (كأقوال الصلاة)، يعني: التسبيح في الصلاة، إذا كان يقدر على اللغة العربية يجب أن يسبح باللغة العربية، كذلك التكبير فيجب أن يكبر باللغة العربية، كذلك أيضاً الدعاء.

قال: (وخطبة الجمعة). أي: يجب أن تكون باللغة العربية إذا كان قادراً، وإذا كان غير قادر فبلغته.

والصواب في خطبة الجمعة: أنها تكون بلسان المخاطبين؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ [إبراهيم:4]. فالرسل -وهم الأصل- يبلغون رسالة الله عز وجل بلغات أقوامهم, وأتباعهم من أهل العلم أيضاً يبلغون لغة المخاطبين، ولأنه لا يحصل البلاغ ولا تقوم الحجة إلا إذا كان بلغة المخاطبين.

ومن الأمثلة: لفظ النكاح واللعان أيضاً، أي: لفظ النكاح الحقيقي، أما اللعان فيقول: لا يصح إلا باللغة العربية؛ لأن اللعان يتضمن ألفاظاً جاءت في القرآن، وعلى قول المؤلف: لا بد أن يكون باللغة العربية ما دام أنه قادر عليه.

أما النكاح فالعلماء رحمهم الله يشددون في عقد النكاح، وهم الشافعية والحنابلة حتى الحنفية والمالكية.

فيقولون بأن عقد النكاح لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح أو التزويج فقط، فلو قال: ملكتك ابنتي فلا ينعقد، أو قال: وهبتك ابنتي فلا ينعقد، والشافعية أشد من الحنابلة في هذا الباب، والمالكية والحنفية في عقد النكاح يوسعون بعض الأشياء, فيذكرون بعض الألفاظ لكن مع ذلك فإنهم يضيقون، يعني: يجعلون المسألة معدودة، وليست محدودة.

وأما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فإنه يجعل المسألة محدودة، ومضبوطة بضابط وهو: ما دل عليه العرف، فقال شيخ الإسلام في عقد النكاح: ينعقد بكل ما دل عليه العرف. فظاهر كلام شيخ الإسلام أنه ينعقد بالفعل، يعني بالفعل دون اللفظ.

والشاهد من هذا: أن المؤلف رحمه الله ذكر لفظ النكاح هنا، لأنهم يشددون في لفظ النكاح.

والصواب في هذه المسألة: أن لفظ النكاح يصح حتى بأي لغة، أي أنه كسائر العقود.

وعلى هذا نلحق عقد النكاح ببقية العقود، ولا يخرج عن بقية العقود، يعني: نفترض فيه مثلا: العقود تنعقد بالمعاطاة، لكن عقد النكاح لعظم خطره نقول: بأنه لا ينعقد إلا باللفظ.

ولو ترجم عقد النكاح بأي لغة ولو مع القدرة على العربية فنقول: إنه كسائر العقود التي قال فيها الحنابلة بأنها تنعقد بأي لغة ولو مع القدرة على العربية؛ لأن المراد المعنى دون اللفظ.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن علي المشيقح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [13] 2630 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [1] 2267 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [15] 2089 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [7] 2080 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [19] 2048 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [12] 2007 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [8] 1999 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [14] 1930 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [11] 1906 استماع
شرح تحفة أهل الطلب في تجريد قواعد ابن رجب [17] 1871 استماع