فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الحج [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، أما بعد:

أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وألا يجعل منا ولا فينا شقياً ولا مطروداً، وأشكر المشايخ والإخوة القائمين على هذا الجامع المبارك على إتاحة هذه الفرصة لي ولإخواني طلاب العلم.

ومن المعلوم أن اليوم خصص لشرح كتاب الحج من الكتاب الذي اعتمد في هذه الدورة نيل دليل الطالب، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لإنهاء ما وجب علينا إنهاؤه.

وكتاب الحج أيها الإخوة! كما يقول كثير من أهل العلم: من أدق مسائل العبادات؛ وذلك لأن الأحاديث الواردة في هذا الباب مع طوله أقل مما ورد في أبواب العبادات الأخرى، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر لفظاً عاماً، فقال كما في صحيح مسلم من حديث جابر : ( لتأخذوا عني مناسككم )، وفي لفظ البيهقي : ( خذوا عني مناسككم )، فهذا الذي جعل كثيراً من أهل العلم يختلفون في مسائل من الحج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعل، ولا يعلم هل فعله يدل على أن المفعول ركن أم هو واجب، أم هو مستحب، أم هو جائز؟ وإذا كان واجباً فهل يجبره بدم أم لا؟ ونهيه صلى الله عليه وسلم عن فعل بعض المحظورات أو الممنوعات هل هذا من باب المنع الذي يدل على التحريم، أم هو الذي يدل على الكراهة؟ فكل هذه الأشياء جعلت بعض أهل العلم يختلفون في هذه المسألة، ولعل سعيد بن جبير كما عند الترمذي قد استشكل اختلاف الصحابة والتابعين في إهلال النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه حج حجة واحدة، فقال ابن عباس أنا أقول لك: ( حينما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر أهل، فسمع الناس تهليله، فحدثوا بمثل ما سمعوا، فلما ركب دابته أهل حينما كان على البيداء، فسمع الناس تهليله أو إهلاله، فحدثوا عن ذلك ) الحديث، والحديث وإن كان في سنده ضعف، بسبب وجود رجل فيه يقال له: خصيف بن عبد الرحمن ، لكن هذا هو الذي يظهر والله أعلم، وهو يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعيد إهلاله مرة بعد مرة، فيقول: لبيك عمرة ويرددها مرة بعد مرة، وليس مرة واحدة كما يفهمه كثير من أهل العلم. نبدأ إن شاء الله مستعينين بالله، ونسأله التوفيق والتسديد.

الحج والعمرة بين الفورية والتأخير

قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الحج].

الحج فرض في أواخر السنة التاسعة على الأرجح، وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية والحنابلة وبعض المالكية خلافاً لبعض المالكية والشافعية، فإن الشافعي نص على أن الحج فرض في السنة السادسة استدلالاً بقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والراجح أن هذه في السنة السادسة في صلح الحديبية؛ وذلك لأن الله أمر المؤمنين إذا أهلوا بالحج أو العمرة أن يتموها، والإتمام شيء، وابتداء الحكم شيء آخر، فهذا هو الراجح والله أعلم؛ ولهذا حينما فرض الحج في السنة التاسعة لم يستطع النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج بسبب أن الكفار كانوا يحجون، والنساء كن يحججن عاريات، وكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عارية، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

( فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر حاجاً في السنة التاسعة يقول: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان )، فكان تأخيره صلى الله عليه وسلم لأجل مصلحة شرعية، وعلى هذا فتأخير النبي صلى الله عليه وسلم عن السنة التاسعة إلى أواخرها أو بداية السنة العاشرة، هل ذلك يدل على أن الحج على الفور، وكان تأخيره لأجل مصلحة وعذر، أم يدل على أن الحج ليس على الفور؟

قولان عند أهل العلم، والراجح هو مذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية أن الحج على الفور، فمن كان مستطيعاً قادراً فإنه يجب عليه الحج على الفور، خلافاً لـمالك في أحد قوليه و الشافعي واختيار أبي عمر بن عبد البر .

حكم الحج

قال المؤلف رحمه الله: [وهو واجب مع العمرة في العمر مرة].

الحج لا إشكال في وجوبه، فقد ثبت وجوبه في الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأما السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان )، وفي رواية: ( وصيام رمضان والحج )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر .

وأما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على وجوب الحج، فقد صح عن الحسن أنه روى عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار ينظرون إلى من وجد جدة فلم يحج أن يضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، والحديث من مسند عمر ، وهو صحيح إلى الحسن ، ولكن الحسن البصري لم يسمع من عمر ، ولكن العلماء أجمعوا على ذلك، وهذا لا إشكال فيه.

إنما الخلاف في مسألة هل من ترك الحج تهاوناً وكسلاً يكفر بذلك أم لا؟ وعامة أهل العلم على أنه لا يكفر، خلافاً للرواية الأخرى عند الإمام أحمد ، ورواية عن ابن مسعود .

والصحيح أن من ترك الحج تهاوناً أو كسلاً فلا يكفر، كما هو قول عامة أهل العلم.

حكم العمرة

قال المؤلف رحمه الله: [مع العمرة].

اختلف العلماء في وجوب العمرة هل تجب أم لا؟ وهل إذا قلنا بوجوبها هل تجب على أهل مكة أم لا؟ والراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن العمرة واجبة، وإن كان وجوبها ليس كفرضية الحج، وهذا هو مذهب الحنابلة والمالكية وهو الراجح خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، ومما يدل على وجوبها ما جاء من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: ( يا رسول الله! إن أبي لا يستطيع الحج أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك واعتمر ) قال الإمام أحمد : هذا أصح شيء جاء في وجوب العمرة، ونرى أن شعبة أثبته؛ وذلك لأن الحديث يرويه شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي ، و شعبة أثبت هذا الحديث.

وأقول: هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الابن أن يحج عن أبيه وأن يعتمر، فإذا وجب على الابن أن يحج عن الأب الذي هو غير مستطيع دل ذلك على أن المكلف من باب أولى.

ومما يدل على وجوب العمرة ما جاء عند البيهقي و الطحاوي بسند جيد عن الصبي بن معبد ( أنه أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبان عليّ، فأهللت بهما، فقال: هديت السنة )، وهذا يدل على أن الحج والعمرة مكتوبان عليه، وقد صح عن ابن عباس و ابن عمر و جابر كما روى ذلك البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر : الحج والعمرة فريضتان، وكذلك صح عن ابن عباس ، ورواه البيهقي عن جابر .

فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون بوجوب العمرة، وإذا قلنا بوجوب العمرة فلا فرق بين المكي وغير المكي، هذا هو الظاهر والله أعلم، وأما ما نقل عن عطاء و طاوس ما أدري أيؤجرون أم يؤزرون؟ ما إن يذهب أحدهم إلى الحل إلا وقد طاف مائة شوط، فإن عمرتكم الطواف بالبيت كما قال ابن عباس ، وهذا يدل على أنه ينبغي لمن كان بمكة ألا يكثر من العمرة؛ لأن عمرته هي الطواف بالبيت، لكن ليس معناه ألا يجب عليه أن يعتمر في السنة مرة، هذا هو الراجح والله أعلم، وقد روى ابن أبي شيبة بسند جيد عن كثير من السلف أنه كان يعتمر في رمضان وهو بمكة مما يدل على أنه لا فرق.

قال المؤلف رحمه الله: [كتاب الحج].

الحج فرض في أواخر السنة التاسعة على الأرجح، وهو قول جمهور أهل العلم من الحنفية والحنابلة وبعض المالكية خلافاً لبعض المالكية والشافعية، فإن الشافعي نص على أن الحج فرض في السنة السادسة استدلالاً بقوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، والراجح أن هذه في السنة السادسة في صلح الحديبية؛ وذلك لأن الله أمر المؤمنين إذا أهلوا بالحج أو العمرة أن يتموها، والإتمام شيء، وابتداء الحكم شيء آخر، فهذا هو الراجح والله أعلم؛ ولهذا حينما فرض الحج في السنة التاسعة لم يستطع النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج بسبب أن الكفار كانوا يحجون، والنساء كن يحججن عاريات، وكانت المرأة تطوف بالبيت وهي عارية، وتقول:

اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله

( فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر حاجاً في السنة التاسعة يقول: ألا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان )، فكان تأخيره صلى الله عليه وسلم لأجل مصلحة شرعية، وعلى هذا فتأخير النبي صلى الله عليه وسلم عن السنة التاسعة إلى أواخرها أو بداية السنة العاشرة، هل ذلك يدل على أن الحج على الفور، وكان تأخيره لأجل مصلحة وعذر، أم يدل على أن الحج ليس على الفور؟

قولان عند أهل العلم، والراجح هو مذهب الحنفية والحنابلة وبعض المالكية أن الحج على الفور، فمن كان مستطيعاً قادراً فإنه يجب عليه الحج على الفور، خلافاً لـمالك في أحد قوليه و الشافعي واختيار أبي عمر بن عبد البر .

قال المؤلف رحمه الله: [وهو واجب مع العمرة في العمر مرة].

الحج لا إشكال في وجوبه، فقد ثبت وجوبه في الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، وأما السنة فقد قال صلى الله عليه وسلم: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصيام رمضان )، وفي رواية: ( وصيام رمضان والحج )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر .

وأما الإجماع فقد نقل غير واحد من أهل العلم إجماع أهل العلم على وجوب الحج، فقد صح عن الحسن أنه روى عن عمر أنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى الأمصار ينظرون إلى من وجد جدة فلم يحج أن يضربوا عليهم الجزية ما هم بمسلمين، والحديث من مسند عمر ، وهو صحيح إلى الحسن ، ولكن الحسن البصري لم يسمع من عمر ، ولكن العلماء أجمعوا على ذلك، وهذا لا إشكال فيه.

إنما الخلاف في مسألة هل من ترك الحج تهاوناً وكسلاً يكفر بذلك أم لا؟ وعامة أهل العلم على أنه لا يكفر، خلافاً للرواية الأخرى عند الإمام أحمد ، ورواية عن ابن مسعود .

والصحيح أن من ترك الحج تهاوناً أو كسلاً فلا يكفر، كما هو قول عامة أهل العلم.

قال المؤلف رحمه الله: [مع العمرة].

اختلف العلماء في وجوب العمرة هل تجب أم لا؟ وهل إذا قلنا بوجوبها هل تجب على أهل مكة أم لا؟ والراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم أن العمرة واجبة، وإن كان وجوبها ليس كفرضية الحج، وهذا هو مذهب الحنابلة والمالكية وهو الراجح خلافاً لـأبي العباس بن تيمية رحمه الله، ومما يدل على وجوبها ما جاء من حديث أبي رزين العقيلي أنه قال: ( يا رسول الله! إن أبي لا يستطيع الحج أفأحج عنه؟ قال: حج عن أبيك واعتمر ) قال الإمام أحمد : هذا أصح شيء جاء في وجوب العمرة، ونرى أن شعبة أثبته؛ وذلك لأن الحديث يرويه شعبة عن النعمان بن سالم عن عمرو بن أوس عن أبي رزين العقيلي ، و شعبة أثبت هذا الحديث.

وأقول: هذا الحديث يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الابن أن يحج عن أبيه وأن يعتمر، فإذا وجب على الابن أن يحج عن الأب الذي هو غير مستطيع دل ذلك على أن المكلف من باب أولى.

ومما يدل على وجوب العمرة ما جاء عند البيهقي و الطحاوي بسند جيد عن الصبي بن معبد ( أنه أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إني وجدت الحج والعمرة مكتوبان عليّ، فأهللت بهما، فقال: هديت السنة )، وهذا يدل على أن الحج والعمرة مكتوبان عليه، وقد صح عن ابن عباس و ابن عمر و جابر كما روى ذلك البخاري معلقاً بصيغة الجزم عن ابن عمر : الحج والعمرة فريضتان، وكذلك صح عن ابن عباس ، ورواه البيهقي عن جابر .

فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون بوجوب العمرة، وإذا قلنا بوجوب العمرة فلا فرق بين المكي وغير المكي، هذا هو الظاهر والله أعلم، وأما ما نقل عن عطاء و طاوس ما أدري أيؤجرون أم يؤزرون؟ ما إن يذهب أحدهم إلى الحل إلا وقد طاف مائة شوط، فإن عمرتكم الطواف بالبيت كما قال ابن عباس ، وهذا يدل على أنه ينبغي لمن كان بمكة ألا يكثر من العمرة؛ لأن عمرته هي الطواف بالبيت، لكن ليس معناه ألا يجب عليه أن يعتمر في السنة مرة، هذا هو الراجح والله أعلم، وقد روى ابن أبي شيبة بسند جيد عن كثير من السلف أنه كان يعتمر في رمضان وهو بمكة مما يدل على أنه لا فرق.

عندنا الآن شروط صحة وشروط وجوب، شروط صحة يعني: لولاهما ما صحت العبادة، وهما الإسلام والعقل، وقولهم: (العقل) فيه تجوز؛ لأنهم حينما يطلقون العقل يقصدون به المجنون وغير المميز في سائر العبادات إلا في الحج فإنهم يقولون: الإسلام، ويقولون: العقل الذي ضده الجنون، وليس العقل مطلقاً؛ لأن الصبي غير المميز يصح حجه في قول عامة أهل العلم كما روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركباً بالروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبياً، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجره )، فدل ذلك على أن الصبي غير المميز غير عاقل، ومع ذلك صح حجه، فدل ذلك على أن المجنون خاصة هو الذي لا يصح منه الحج، هذه شروط الصحة.

الإسلام والعقل

قال المؤلف رحمه الله: [وشروط الوجوب خمسة].

أما شروط الوجوب، فذهب الحنابلة إلى أنها خمسة، وتبعهم على ذلك الحنفية، فقالوا: الأول: [الإسلام]؛ لأن الكافر لا تصح منه العبادة: وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:88].

الثاني: [العقل]. وكما قلت: إن قوله: العقل فيه تجوز، وإلا فإنه ينبغي أن يقول: العقل الذي هو ضده الجنون؛ لأن المجنون لا تصح منه عبادة، أما الصبي فإنه تصح عبادته، أو يصح منه الحج ويكون أجره لوالديه، ودليل ذلك ما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس كما مر، وكما ثبت عند البيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه حج بابنه محمد بن أبي بكر وكان في المهد، وهذا يدل على أنه يصح حجه، ومما يدل على صحة حج الصبي ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنه كما رواه الطحاوي و ابن أبي شيبة أنه قال: (اسمعوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس ، أيما صبي حج ثم حنث فعليه حجة أخرى)، وهذا يدل على أن حجه الأول ينفعه، ولكنه لا يبرؤه عن حجة الإسلام.

البلوغ وكمال الحرية

الثالث: [البلوغ]؛ لحديث علي و عائشة : ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر منهم الصبي حتى يبلغ )، وهذا هو الراجح أن الصبي ولو حج فإنه لا ينفعه إذا بلغ؛ بل عليه أن يحج مرة ثانية؛ لقول ابن عباس : أيما صبي حج ثم حنث -يعني: بلغ- فعليه حجة أخرى.

الرابع: [وكمال الحرية] يعني: أن العبد والمبعض لا يصح منهم حج على الفرضية، وإن قبلت عبادتهم، فإذا عتق فإنه يجب عليه أن يحج حجة أخرى، وهذا قول عامة أهل العلم، خلافاً لـابن حزم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي فإنهما قالا: إن هذا مكلف، فيجب عليه ما يجب على المكلف، والصحيح هو قول عامة أهل العلم؛ لقول ابن عباس : (اسمعوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس أيما صبي حج ثم حنث فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى)، وقول ابن عباس : (فلا تقولوا: قال ابن عباس ) يعني: أن ابن عباس لم يأخذه من تلقاء نفسه، إنما أخذه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال المؤلف: [لكن يصحان من الصغير والرقيق] معنى: (يصحان) أنهما يقبلان قبول ثواب وليس قبول إجزاء. قال المؤلف: [ولا يجزئان عن حجة الإسلام وعمرته]؛ نعم لقول ابن عباس كما مر معنا، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

قال المؤلف: [فإن بلغ الصغير أو عتق الرقيق قبل الوقوف أو بعده] يعني: صبي أهل بالحج وهو لم يبلغ، أو رقيق أهل بالحج ولم يعتق هذان كما يقول المؤلف: ثم بلغ الصبي وعتق الرقيق قبل الوقوف بعرفة، أو بعد الوقوف بعرفة، قال المؤلف: [إن عاد فوقف في وقته] يعني: أجزأه عن حجة الإسلام.

المؤلف هنا أعطانا مسألتين، إن كان الصبي قد بلغ قبل الوقوف بعرفة أو أن الرقيق قد عتق قبل الوقوف بعرفة ما حكمه؟ الجواب: حجه صحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في حديث عبد الرحمن بن يعمر : ( الحج عرفة )، وهذا الحديث يقول فيه سفيان بن عيينة : هذا أشرف حديث رواه سفيان الثوري ؛ لأنه بين ركنية الوقوف بعرفة؛ لأن إهلاله يجزئه.

المؤلف قال: صح حجه لأجل أن يكون وقوفاً عن واجب، أو عن ركن؛ لأنه بلغ، السؤال: كيف صححنا إحرامه، وهو قد أهل وهو سنة في حقه؟ الآن الإنسان إذا قال: الله أكبر يريد يصلي سنة الفجر، ثم قال: لن أصلّ سنة الفجر أريد أن أقلبها فجراً، هل يجزئ؟ الجواب: لا يجزئ بإجماع العلماء كما نقل ذلك ابن حزم ، السؤال: كيف أجزأ الحج هنا؟

فلو قال قائل: لأن الإحرام ليس مقصوداً لذاته، إذاً هل يجوز لي أن أقول: أريد أن أحرم من غير قصد الحج والعمرة، وأحرمت حتى يراني الناس أني معتمر؟

فالأصل أن الإنسان لا يصح إهلاله إلا عن واجب، لكن لما جاء حديث ( من شبرمة ؟ قال: أخ لي أو قريب، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة )، وفي رواية: ( اجعل هذه عن نفسك، ثم حج عن شبرمة )، وجه الدلالة كما هو مذهب الحنابلة والشافعية قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآه أهل عن الغير مع أنه لم يحج حجة الإسلام صحح الإهلال، فدل ذلك على جواز قلب نية الإحرام بعد أدائه، فهذا قلب النية من نفل إلى فرض، وهو قد نقل من حجه عن الغير إلى حجه عن نفسه، وهذا في الحج خاصة، وسوف يأتينا حديث شبرمة والكلام فيه، والله أعلم.

إذاً: هذا يدل على أن إحرام الصبي ينفعه، وإحرام الرقيق ينفعه، فإن نواه بعد ذلك عن إحرام الحج فإنه يجزئ ذلك؛ لأن من أركان الحج الإحرام، يعني: نية الدخول في النسك، فهو قد نوى الدخول في النسك على أنه سنة، ومع ذلك أجزأ؛ لأنه نواه وقلبها، وهذا يدل على أنه يجوز قلب نية من نفل إلى فرض في الحج خاصة، والله أعلم.

قول المؤلف: (أو بعده) يعني: إن وقف بعرفة ثم ذهب إلى مزدلفة، ثم بلغ ليلة مزدلفة، فما الواجب في حقه؟ الواجب أن يذهب في نفس الليل ليقف في عرفة أي ساعة شاء من ذلك الليل ثم يرجع، فيجزئه والحمد لله.

قال المؤلف: [أجزأ عن حجة الإسلام ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً].

لماذا ذكر المؤلف (ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً)؟ قالوا: لأنه إذا أحرم مفرداً أو قارناً، ثم طاف طواف القدوم ثم سعى سعي الحج، يكون قد أدى عبادة ركنية وهي السعي. يعني: أنه لو كان محرماً إفراداً أو محرماً على أنه قارن، ولو كان قبل الوقوف بعرفة وقد طاف طواف القدوم وسعى سعي الحج ثم بلغ فإنه لا يجزئه ذلك، لماذا؟ قالوا: لأنه طاف ثم سعى سعي الحج ولا يجزئه، هذا هو المذهب.

والراجح أنه إن أدرك الوقوف بعرفة فإنه يصح حجه ولو كان قارناً أو مفرداً، والدليل هو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الذين أهلوا وهم مفردون حينما وقف بالمروة، وكان طوافهم الأول هو طواف قدوم، وسعيهم سعي حج، كما يقول جابر : ( حتى إذا كنا على المروة قال: من كان منكم أهل بالحج فليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج بعد، قالوا: يا رسول الله! أي الحل؟ قال: الحل كله، فواقعنا النساء وتطيبنا بالطيب ) وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن كان مفرداً بعد أن طاف طواف قدوم وسعى سعي حج أن يقلب الجميع إلى أن تكون عمرة، ومن المعلوم أن العمرة ركنها الطواف، وواجبها السعي والحلق على الراجح، فلما جاز أن يقلب ما أدى عبادته وهو مفرد دل ذلك على صحة قلب الصبي شريطة أن يكون قد وقف بعرفة، وعلى هذا فقول المؤلف: (ما لم يكن أحرم مفرداً أو قارناً)، وسعى بعد طواف القدوم.

والراجح أنه يجزئه إذا لم يقف بعرفة إذا أدرك الوقوف بعرفة ولو كان مفرداً أو قارناً لحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الصحابة الذين أهلوا وهم مفردون، أو وهم قارنون أن يقلبوها عمرة، ومن المعلوم أن من طاف للقدوم سوف يجعلها بعد ذلك طواف ركن وهو طواف العمرة.

ثم قال المؤلف: [وكذا تجزئ العمرة إن بلغ].

ما معنى (تجزئ العمرة إن بلغ)؟ يعني: أنه لو أهل بالعمرة وهو لم يبلغ، ثم لم يطف طواف العمرة حتى بلغ، نام قبل أن يطوف، أو وهو في السيارة من الميقات إلى البيت، نام في السيارة فاحتلم فدل ذلك على أنه قد بلغ، فيجب عليه أن يغتسل، وتصح عمرته عن عمرة الإسلام؛ لأنه لم يؤد ركنه الأعظم وهو الطواف بالبيت، قال ابن عباس : من مس الحجر فقد حل شاء أم أبى، يعني: شرع في الحل.

قال المؤلف: [أو عتق قبل طوافها] هذا هو الراجح والله أعلم.

الاستطاعة

قال المؤلف رحمه الله: [الخامس: الاستطاعة].

هذا الشرط الخامس من شروط الوجوب: الاستطاعة، وفسر المؤلف الاستطاعة بقوله: [وهي ملك زاد وراحلة تصلح لمثله، أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك، بشرط كونه فاضلاً عما يحتاج من كتب ومسكن وخادم، وأن يكون فاضلاً عن مئونته ومئونة عياله على الدوام].

هذه مسألة الاستطاعة، والاستطاعة تحتاج إلى تفصيل، فجمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة يرون أن الاستطاعة إنما هي استطاعة مالية؛ لأنه قال: (ملك زاداً وراحلة)، (زاد) لأكله، (وراحلة) تنقله إلى الحرم، يعني: أنه لو كان نضو الخلقة يعني: ما يستطيع أن يثبت، وكان غنياً فإن حج الفريضة عليه قد وجبت؛ لحديث المرأة الخثعمية كما في الصحيحين حينما قالت: ( يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: أرأيتِ لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته فاقضوا، فالله أحق بالوفاء )، وجه الدلالة أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرها على أن فرض الحج قد وجب على أبيها مع أنه لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، فدل ذلك عند الجمهور على أن المقصود الأعظم هو المال، فالقدرة هي القدرة المالية وليست القدرة البدنية من حيث الوجوب لا من حيث لزوم الأداء، فقد يكون الشخص مريضاً لا يستطيع أن يحج، فهل يجب عليه أن يحج وهو مريض؟ الجواب: لا؛ لأن وجوب الحج لزومه الآن معفو عنه؛ لأنه مريض، لكن هل فريضة الحج قد كتبت عليه؟ نعم، إذاً هناك فرق بين فرضية الحج وبين لزوم أدائه، وهذا الذي يسميها العلماء: لزوم السعي إليه، وهذا مذهب الحنابلة.

أما مالك رحمه الله فإنه يقول: العبرة بالقدرة البدنية، فمن كان قادراً على أن يمشي ومن عادته أن يسأل الناس فإن الحج يجب عليه، والأقرب أن القدرة المالية هي الأصل، أما من كان من أهل مكة ولا يشق عليه أن يمشي في المشاعر، ويقدر أن يعمل مع الناس فإنه يجب عليه ذلك، وعلى هذا فيكون وجوبه على من كان قريباً من مكة وهو لا يشق عليه المشي إنما الواجب عليه ملك الزاد وليس المركب إذا كان من عادته أن يمشي، ولا يكلف هذا الأمر.

إذاً: الأصل القدرة المالية، أما من كان قريباً من مكة ولا يشق عليه المشي، وكان هذا هو معتاده إنما يلزمه فقط أن يملك زاداً، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.

أما دليل الاستطاعة فالأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كلها ضعيفة، منها ما رواه الترمذي بلفظ: ( قالوا يا رسول الله! ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة ) وهذا الحديث صححه بعض المتأخرين، والصحيح أنه مرسل عن الحسن البصري ، ومراسيل الحسن كمهب الريح كما يقول بعض أهل الحديث، وروي عن ابن عمر و أنس ، ولا يصح مرفوعاً، والله أعلم، لكن دليله هو ( أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ ) وهذا يدل على أنه يجب عليه الحج، وما وجب عليه الحج إلا لأنه يستطيع أن يحمل شيئاً، والله أعلم.

ومن الأدلة أيضاً قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97]، والاستطاعة عامة، الاستطاعة البدنية والاستطاعة المالية هذا الأصل، إلا أن الاستطاعة البدنية خرجت لحديث الخثعمية .

أيضاً ولا بد أن يكون هذا الزاد والراحلة فاضلاً عن قوته وقوت عياله الذين يجب عليه أن ينفق عليهم، فإذا كان عنده في الحساب خمسة آلاف ريال وأولاده يجب عليه أن يعولهم، فيقول: أريد أن آخذ الخمسة الآلاف ريال، فيقال له: والعشرة أيام التي أنت ذاهب من أين نفقة أولادك؟ قال: لهم الله، نقول له: ما وجب عليك الحج الآن؛ لأنه لا بد أن يكون هذا المال فاضلاً عن قوت زوجتك وأولادك، وكذلك إن كان والداك معك وليس عندهم شيء، فلا بد أن يكون فاضلاً عن قوت والديك كذلك؛ لأنه يجب عليك أن تنفق على والديك؛ والإنسان يجب عليه أن ينفق على فروعه وأصوله وزوجته، وهذا مراد المؤلف بقوله: (أو ملك ما يقدر به على تحصيل ذلك)، يعني: لا يلزم أن يملك راحلة، المقصود أنه يملك راحلة أو عنده من المال ما يستطيع أن يملك به راحلة، أو يملك إجار هذه الراحلة.

قول المؤلف: (فاضلاً عما يحتاج من كتب ومسكن وخادم) الآن بعض الطلبة يقول: هل يجب عليّ الحج؟ فإذا قيل له: هل عندك شيء؟ يقول: والله! عندي بعض الأموال، لكن الامتحانات اقتربت وبقي مذكرات عليّ وأريد أن أشتري كتب بعض المدرسين، نقول: هذه كتب علم ولو كانت كتب طب ونحوها؛ لأن هذا من باب فرض الكفاية، فنقول: إذا كان عندك مال فاضل عن الأموال التي سوف تشتري بها المذكرات وكتب العلم فإنه يجب عليك وإلا فلا، والله أعلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب اللعان 2339 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الطلاق [1] 1952 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الطلاق [2] 1893 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الحج [2] 1770 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الحج [3] 1758 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الطلاق [3] 1741 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الظهار 1396 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الخلع وكتاب الطلاق 819 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الحج [4] 796 استماع
فقه الأسرة - كتاب دليل الطالب - كتاب الطلاق [4] 710 استماع