أحكام الدفن والتعزية وزيارة المقابر [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى المهاجرين والأنصار، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى.

أما بعد:

أيها الفضلاء! الكلام في هذا الدرس إن شاء الله يتناول الأحكام الخاصة بالتعزية، وذلك في مسائل:

المسألة الأولى: في حكمها.

والمسألة الثانية: في ألفاظها.

والمسألة الثالثة: في وقتها.

والمسألة الرابعة: من الذي يعزى.

والمسألة الخامسة: في المخالفات التي تقع في التعزية.

حكم تعزية أهل الميت

أما بالنسبة للمسألة الأولى، وهي حكم التعزية، فنقول: التعزية سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه إذا مات لواحد من أصحابه ميت أنه يبادر إلى تعزيته وتسليته وتخفيف مصابه، فثبت عنه صلوات ربي وسلامه عليه ( أن رجلاً من أصحابه كان يحضر مجلسه المبارك، وكان له بني يصحبه، يجلسه أمامه، يديم النظر إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن هذا الرجل غاب عن المجلس فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الصحابة: يا رسول الله! إن بنيه ذاك قد هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أيما أحب إليك؟ أن تمتع به حياتك، أو لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك، فقال: يا رسول الله! بل الثانية، قال: فهي لك، فقال الصحابة: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم )، هذه تعزية من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الذي فقد ولده، وقد حثنا نبينا عليه الصلاة والسلام على التعزية، والحديث إسناده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: ( من عزى أخاً له في مصيبة كساه الله يوم القيامة حلة خضراء يحبر عليها، قال أحد الصحابة: يا رسول الله! وما يحبر عليها؟ قال: يغبط )، يغبط على هذه الحلة التي كسي إياها.

هذه التعزية أيها الإخوة الكرام! فوائدها عظيمة، يعني: لو أن مسلماً مات له ميت، والموت مصيبة بنص القرآن، كما قال الله عز وجل: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106] هذه المصيبة تطيش معها العقول، وتذهل عنها الأحلام، والإنسان يحتاج إلى من يثبته، يحتاج إلى من يأمره بالصبر، ولذلك قال علماؤنا: في التعزية فوائد:

أولها: تهوين المصيبة، وتسلية المصاب، وأمره بالصبر، واحتساب الأجر والرضا بالقدر، هذه كلها من فوائد التعزية.

ثانيها: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، نأمره بالصبر وهذا من المعروف، نأمره بالذكر وهذا من المعروف، وفي الوقت نفسه ننهاه عن الجزع؛ لأن الجزع منكر، ننهاه عن التسخط على قضاء الله وقدره؛ لأن هذا منكر، ننهاه عن النياحة والندب، ننهاه عن فعل الجاهلية من ضرب الخدود وشق الجيوب وما إلى ذلك.

ثم ثالثاً أيضاً من فوائد التعزية: الدعاء للميت، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزى أسماء بنت عميس رضي الله عنها في زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ( اللهم اخلف جعفر في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه ) يعني: عبد الله بن جعفر ، فهذا دعاء للميت، كذلك لما عزى أم سلمة رضي الله عنها في زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه، قال: ( اللهم اغفر لـأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه )، هذا دعاء للميت، فالتعزية مشتملة على هذه الفوائد كلها: تهوين المصيبة، ومواساة المصاب، وتسليته عن مصيبته، وأمره بالصبر والرضا بالقدر، وتسليم الأمر لله عز وجل، وفيها كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها الدعاء للميت، وهي من باب التعاون على البر والتقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )، يعني: لك أن تتصور الآن لو مات لك ميت، ثم لم يأتك من يعزيك فكيف يكون حالك؟ وكلنا قد جرب هذا، إذا مات له ميت، أو أصيب في صفي أو خليل، أو والد أو ولد، ثم بعد ذلك تتابع عليه الناس، هذا يأمره بالصبر، وهذا يذكره بما أعد الله له من الأجر، وهذا يدعو للميت، وهذا يذكره بمن مضى من الأولين، كما فعل أحد الناس لما مات لرجل ولد يقال له محمد، جاء من يعزيه قال له:

اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد

وإذا ذكرت مصيبة تسلوا بها فاذكر مصابك في النبي محمد.

إذا ذكرت ولدك هذا الذي مات، فاذكر مصابك الأعظم لموت النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

الألفاظ التي يعزى بها أهل الميت

المسألة الثانية: في ألفاظها، قال الإمام النووي رحمه الله: لا حجر في ألفاظ التعزية، كل ما يتأدى به الغرض الذي مضى ذكره، من تهوين المصاب، والأمر بالصبر، وابتغاء الأجر والرضاء بالقدر، وما إلى ذلك فكله تعزية، فليس للتعزية لفظ مخصوص لا يتعدى، لكن لو أن الإنسان استحضر ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام فهو أولى، النبي عليه الصلاة والسلام لما أرسلت إليه إحدى بناته تخبره أن ولدها يحتضر عزاها صلى الله عليه وسلم بقوله: ( إن لله ما أخذ وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبر ولتحتسب ) هذا إخبار بقدر الله عز وجل، بأن الله عز وجل أعطى، والله عز وجل أخذ ما أعطى جل جلاله، ثم إخبار بالقدر في مسألة أخرى، كل شيء عنده بأجل مسمى، كل حي إلى فناء، كل باكٍ سيبكى، من يبكي اليوم سيبكى عليه غداً، كل شيء عنده بأجل مسمى، كل باكٍ سيبكى، وكل ناعٍ سينعى، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، ثم الأمر بالمعروف، قال لها صلى الله عليه وسلم: ( فلتصبر ولتحتسب ) تصبر على قضاء الله، وتحتسب الأجر عند الله عز وجل.

هذا كان هدي الصالحين، كما في سنن الترمذي من حديث عيسى بن سنان الحنفي رضي الله عنه قال: مات ولدي سنان فدفنته، فإذا أبو طلحة الخولاني يقول لي يعني: في المقابر، يعزيه بهذه الكلمات، يقول لي: سمعت أبا موسى الأشعري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا مات ولد العبد قال الله عز وجل لملائكته: أقبضتم روح ولد عبدي؟ أقبضتم ثمرة فؤاده؟ فتقول الملائكة: نعم، فيقول الله عز وجل وهو أعلم: ماذا قال عبدي؟ تقول الملائكة: حمدك واسترجع، فيقول الله عز وجل: ابنوا له بيتاً في الجنة سموه بيت الحمد ) هذه تعزية لهذا الرجل الذي مات ولده.

وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم كان يهون على كل إنسان أصيب بهذه المصيبة بكلمات تذهب عنه حرارتها وألمها، ولذلك لو أن الإنسان قال للمصاب: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وبارك لك في عقبك، ونحو ذلك من الكلمات، أو قال له: البقاء لله، أو الدوام لله، أو كل نفس ذائقة الموت، ونحو ذلك من الكلمات التي يذكره فيها بهذه الحقائق الشرعية والبينات القطعية، فهذا كله مطلوب، وهذا كله سائغ إن شاء الله.

وقت التعزية

المسألة الثالثة: ما هو وقتها؟ التعزية تشرع في كل وقت، قبل الدفن وبعده، لكن بعض العلماء استحبوا أن تكون التعزية بعد الدفن، وقالوا: لأنه قبل الدفن يكون أهل الميت مشغولين بتجهيز ميتهم، مقبلين على خاصة أمرهم، ثم إنهم بعد الدفن تكون وحشتهم أعظم لفراق صاحبهم، فهم بحاجة إلى من يثبتهم، بحاجة إلى من يذكرهم، ولذلك قالوا: التعزية بعد الدفن أطيب، قالوا: وتجوز قبل الدفن إذا كان جزعهم شديداً، يعني: أحياناً أيها الإخوة يموت ميت شاب حديث السن بما يسمى موت الفجأة، يكون في كامل صحته وفي ميعة صباه، وعنفوان شبابه، وفجأة يموت، فيصاب أهله بما يسمى بالذهول، يكونون ذاهلين مستغربين، كيف مات هذا الإنسان؟ ففي مثل تلك الأحوال لعل التعزية قبل الدفن تكون أبلغ؛ لأن هذا الأمر قد حصل، وأن المصيبة قد وقعت، وأنتم يا أهل الميت بين أمرين:

الأمر الأول: إما أن ترضوا بقضاء الله، فيكون لكم الأجر والثواب، ونذكرهم بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما من مسلم تصيبه مصيبة، فيقول ما أمره الله: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها ).

والأمر الثاني: أن تجزعوا لما أصابكم، وأن تتسخطوا على قضاء الله وقدره، فتجتمع عليكم مصيبتان: مصيبة الموت، ومصيبة الوزر والعياذ بالله، فنقول: التعزية تكون بعد الدفن، ولا بأس أن تكون قبل الدفن لو دعا لذلك داعٍ.

ثم أيضاً أيها الإخوة الكرام! لا تحد التعزية بثلاثة أيام، يعني: بعض الناس يعتقد أن التعزية لا تجوز بعد ثلاثة أيام، بل تجوز التعزية إلى ما شاء الله؛ ( لأنه لما مات جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، والنبي صلى الله عليه وسلم صعد على المنبر وعيناه دامعتان، وأخبر بأنه قد أخذ الراية زيد فقتل، فهو شهيد، ثم أخذ الراية جعفر فقتل فهو شهيد، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحة فقتل، ثم صمت صلى الله عليه وسلم حيناً، ثم قال: فهو شهيد، ورأيت في سريره ازوراراً، ثم أخذ الراية سيف من سيوف الله يعني: خالداً ففتح الله عليه.

فأمهل صلى الله عليه وسلم آل جعفر ثلاثة أيام، ثم أتاهم بعد ذلك، فدعا بأولاد جعفر، فجعلت زوجة جعفر تفرح له، -تفرح له، يعني: تحزنه، تشكو إليه اليتم، تشكو إليه الفاقة، تشكو إليه الضياع- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: العيلة تخافين عليهم، وأنا وليهم في الدنيا والآخرة؟ اللهم اخلف جعفراً في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه، ثم دعا للحلاق فحلق رءوسنا )، هكذا يقول عبد الله بن جعفر رضي الله عنه.

ولذلك نقول: التعزية أيها الإخوان لا تحد بثلاثة أيام، يعني: لو أن إنساناً كان مسافراً، وفي أثناء سفره مات ميت، فجاء بعد حين لا بأس أن يذهب لتعزية أهل ذلك الميت، متى ما علم بأن تعزيته تهون مصابهم، وتدخل السرور عليهم، وتقع منهم موقعاً طيباً، يذهب إليهم فيعزيهم، ولو كان ذلك بعد حين.

الذين يجب تعزيتهم من أهل الميت

المسألة الرابعة: من الذي يعزى؟ يعزى كل من كانت له بالميت صلة، سواء في ذلك الكبير والصغير والرجل والمرأة، والشاب والشيخ، سواء كان الميت أباً أو ولداً أو زوجاً أو حميماً أو صديقاً يعزى، كل من كانت له بالميت صلة يعزى، لكن قال أهل العلم: بأنه لا تعزى المرأة الشابة خوف الفتنة، أما الذي يحدث من بعض الناس بأنه يأتي للمرأة إذا مات لها ميت، مات زوجها أو مات أبوها أو كذا، وهو ليس محرماً لها، ثم بعد ذلك يصافحها، أو أشنع من ذلك يعني: يمسك بها ويبكي معها فهذا من أبطل الباطل، وهذا من الأفعال الشنيعة التي ينبغي أن يتنزه عنها كل مسلم يرجو لله وقاراً، يا عبد الله! جئت للتعزية ترجو الأجر والثواب، فما هذا الذي تصنع؟ بأي كتاب أم بأية سنة أبيح لك أن تحضنها وترفع صوتك بالبكاء معها؟ أنت جئت تبتغي أجراً فاحتقبت وزراً، وجئت تحيي سنة فأتيت ببدعة، بل أتيت منكراً عظيماً، فمثل هذا ينبغي أن ننزه أنفسنا عنه.

التعزية أيها الإخوة الكرام! للمرأة لا بأس، لكن بالطريقة الشرعية، التي مضى ذكرها، أن أعزيها في مصابها: أحسن الله عزاءك، وغفر لميتك، وأخلف عليك، وآمرها بالصبر والاحتساب، ولو كان هناك شيء أبشرها به فلا بأس، فمثلاً لو كان هذا الميت قد مرض بداء عضال، أبشرها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا أن المرض كفارة، ( ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من ذنوبه وخطاياه )، نبشرها بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مرض قبل الموت مرضاً شديداً حتى قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: ما أغبط أحداً على هول موت بعد الذي رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنعزيها بمثل هذا، الرسول صلى الله عليه وسلم عزى بعض النساء، فمثلاً لما مات حارثة بن سراقة رضي الله عنه يوم بدر، مات شهيداً، أصابه سهم غرب، سهم طائش، فأمه أم حارثة قالت: ( يا رسول الله! أخبرني إن كان حارثة في الجنة صبرت، وإن كان غير ذلك سليت نفسي بالبكاء، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أوهبلتي يا امرأة! إنها جنان وإنه لفي الفردوس الأعلى )، يعني قال لها: ليست جنة واحدة، وإنما هي جنان، وولدك في الفردوس الأعلى، وكذلك يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ( لما قتل أبي يوم أحد: جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، ولده يقول: جعلت أكشف عن وجهه وأبكي، والناس ينهونني ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهاني، وجعلت عمتي فاطمة تبكي التي هي أخت عبد الله بن عمرو بن حرام عليه من الله الرضوان، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: تبكين أو لا تبكين ما زالت الملائكة تضله بأجنحتها حتى رفعت )، هذه تعزية من الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة، وكذلك ذكرت منذ قليل بأنه صلى الله عليه وسلم عزى أم سلمة : (اللهم أغفر لـأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديين، وأخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه)، ولذلك نقول أيها الإخوان! لا بأس بتعزية المرأة التعزية المشروعة، أما التعزية المبتدعة التي يخالطها منكرات، وبدع محدثات، فمثل هذا نسأل الله العافية يكون قد أتى وزراً عظيماً.

بعض المخالفات التي تقع في التعزية

المسألة الخامسة: أيها الإخوة الكرام، أريد التنبيه على بعض المخالفات التي تقع في التعزية، من هذه المخالفات النياحة، يقال ناحت المرأة تنوح نوحاً إذا رفعت صوتها بالبكاء، وهذه النياحة الآن للأسف ليست قاصرة على النساء، بل يأتيها بعض الرجال خاصة في المقابر، والنياحة محرمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب، والنياحة على الميت )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( النائحة ما لم تتب قبل موتها تقوم يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب )، قال الإمام النووي رحمه الله: وفي هذا دليل على تحريم النياحة، بل بعض أهل العلم كالإمام ابن حجر الهيتمي عد النياحة من كبائر الذنوب، ولا يخفى عليكم أن النبي صلى الله عليه وسلم لو سمى ذنباً كفراً، فهذا دليل على أنه من الذنوب الكبار، فهاهنا النبي صلى الله عليه وسلم سمى النياحة كفراً، ( ثنتان في أمتي هما بهم كفر: الطعن في الأنساب والنياحة على الميت )، ولذلك ما كان عليه العرب الأولون أن الواحدة منهن تقول: وا سيداه، وا عضداه، يا مرمل النسوان! يا ميتم الولدان! يا كذا يا كذا، هذا من النياحة، وقد يسمى ندباً.

وأيضاً ما جرت عليه عادة نسائنا من قول إحداهن: يا حبيب قساي، يا كذا، يا من كنت تأتينا بكذا وكذا، يا ضوء القبيلة، إلى آخر ما يقوله النساء، هذه كلها من القبائح المنكرة التي ينبغي أن نتعاون في النهي عنها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه )، إذا أهمل تعليمهم أو إذا أوصى بأن يبكى عليه بهذه الطريقة.

أيضاً من المخالفات التي تحصل أيها الإخوان في التعزية: قضية صناعة الولائم، وإقامة المآتم بالصورة التي نراها، أن أهل الميت يتكلفون تكلفاً شديداً في إطعام المعزين، وأن يسقوهم الماء المثلج، وأن يأتوهم بالمشروبات من شاه وقهوة ونحو ذلك، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصنع لأهل الميت طعام، ( اصنعوا لآل جعفر طعاماً فإنه قد أتاهم أمر يشغلهم )، وفي حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: ( كنا نعد الاجتماع إلى أهل الميت، وصناعة الطعام من النياحة )، نعم ممكن لو أن ناساً جاءوا من مكان بعيد يعزون، أو جاءوا مسافرين مثلاً يقدم لهم طعام، أما أن أهل الحي والأقارب يأتون فيطعمون أهل الميت، هذا خلاف السنة، السنة أن الجيران والأرحام هم الذين يصنعون لأهل الميت ثلاثة أيام؛ لأنهم مشغولون بمصابهم.

أيضاً: من المخالفات أيها الإخوان الاشتغال بالتعزية عما هو أهم، فتجد بعض الناس في المقابر بعد دفن الميت مشغولون بتلقي العزاء، وتفقد من غاب ممن حضر، والسنة بعد دفن الميت أن نصنع ماذا؟ أن ندعو له، ( استغفروا لصاحبكم واسألوا له التثبيت فإنه له الآن يُسأل )، أما أن أشتغل بتلقي العزاء، وكذا وانشغل عن الدعاء للميت، فهذا خلاف ما أمر به نبينا صلى الله عليه وسلم.

أسأل الله عز وجل أن يرزقنا الاقتداء به، والسير على نهجه، فبعد الفراغ من الكلام على أحكام التعزية.

أما بالنسبة للمسألة الأولى، وهي حكم التعزية، فنقول: التعزية سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث كان من هديه صلوات ربي وسلامه عليه إذا مات لواحد من أصحابه ميت أنه يبادر إلى تعزيته وتسليته وتخفيف مصابه، فثبت عنه صلوات ربي وسلامه عليه ( أن رجلاً من أصحابه كان يحضر مجلسه المبارك، وكان له بني يصحبه، يجلسه أمامه، يديم النظر إليه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتحبه؟ فقال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إن هذا الرجل غاب عن المجلس فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الصحابة: يا رسول الله! إن بنيه ذاك قد هلك، فلقيه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: أيما أحب إليك؟ أن تمتع به حياتك، أو لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته قد سبقك إليه يفتحه لك، فقال: يا رسول الله! بل الثانية، قال: فهي لك، فقال الصحابة: يا رسول الله! أله خاصة أم لكلنا؟ قال: بل لكلكم )، هذه تعزية من النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الصحابي الذي فقد ولده، وقد حثنا نبينا عليه الصلاة والسلام على التعزية، والحديث إسناده حسن، قال عليه الصلاة والسلام: ( من عزى أخاً له في مصيبة كساه الله يوم القيامة حلة خضراء يحبر عليها، قال أحد الصحابة: يا رسول الله! وما يحبر عليها؟ قال: يغبط )، يغبط على هذه الحلة التي كسي إياها.

هذه التعزية أيها الإخوة الكرام! فوائدها عظيمة، يعني: لو أن مسلماً مات له ميت، والموت مصيبة بنص القرآن، كما قال الله عز وجل: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ [المائدة:106] هذه المصيبة تطيش معها العقول، وتذهل عنها الأحلام، والإنسان يحتاج إلى من يثبته، يحتاج إلى من يأمره بالصبر، ولذلك قال علماؤنا: في التعزية فوائد:

أولها: تهوين المصيبة، وتسلية المصاب، وأمره بالصبر، واحتساب الأجر والرضا بالقدر، هذه كلها من فوائد التعزية.

ثانيها: أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، نأمره بالصبر وهذا من المعروف، نأمره بالذكر وهذا من المعروف، وفي الوقت نفسه ننهاه عن الجزع؛ لأن الجزع منكر، ننهاه عن التسخط على قضاء الله وقدره؛ لأن هذا منكر، ننهاه عن النياحة والندب، ننهاه عن فعل الجاهلية من ضرب الخدود وشق الجيوب وما إلى ذلك.

ثم ثالثاً أيضاً من فوائد التعزية: الدعاء للميت، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزى أسماء بنت عميس رضي الله عنها في زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: ( اللهم اخلف جعفر في أهله، وبارك لـعبد الله في صفقة يمينه ) يعني: عبد الله بن جعفر ، فهذا دعاء للميت، كذلك لما عزى أم سلمة رضي الله عنها في زوجها أبي سلمة بن عبد الأسد المخزومي رضي الله عنه، قال: ( اللهم اغفر لـأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، اللهم أفسح له في قبره ونور له فيه )، هذا دعاء للميت، فالتعزية مشتملة على هذه الفوائد كلها: تهوين المصيبة، ومواساة المصاب، وتسليته عن مصيبته، وأمره بالصبر والرضا بالقدر، وتسليم الأمر لله عز وجل، وفيها كذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفيها الدعاء للميت، وهي من باب التعاون على البر والتقوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه )، يعني: لك أن تتصور الآن لو مات لك ميت، ثم لم يأتك من يعزيك فكيف يكون حالك؟ وكلنا قد جرب هذا، إذا مات له ميت، أو أصيب في صفي أو خليل، أو والد أو ولد، ثم بعد ذلك تتابع عليه الناس، هذا يأمره بالصبر، وهذا يذكره بما أعد الله له من الأجر، وهذا يدعو للميت، وهذا يذكره بمن مضى من الأولين، كما فعل أحد الناس لما مات لرجل ولد يقال له محمد، جاء من يعزيه قال له:

اصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد

وإذا ذكرت مصيبة تسلوا بها فاذكر مصابك في النبي محمد.

إذا ذكرت ولدك هذا الذي مات، فاذكر مصابك الأعظم لموت النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
الإسراء والمعراج [2] 2424 استماع
الحقوق الزوجية 2233 استماع
عبر من الأحداث 2094 استماع
أحكام الجنائز [1] 1772 استماع
أحكام خاصة بالمولود 1747 استماع
أنواع البيوع 1677 استماع
أحكام الجنائز [3] 1674 استماع
التحذير من أعياد الكفار 1635 استماع
الرقية الشرعية 1633 استماع
الإسراء والمعراج [1] 1583 استماع