صد قريش عن دين الله [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة، والسراج المنير والبشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين.

تقدم معنا الكلام بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جهر بالدعوة إلى التوحيد بادره قومه بالعداوة والحرب، وأن هذه الحرب التي سلطت على النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه تمثلت في أنواع ثلاثة:

النوع الأول: الحرب النفسية.

والنوع الثاني: الحرب الاقتصادية.

والنوع الثالث: حرب التصفية الجسدية.

تلخيص لما سبق ذكره من الأساليب النفسية لقريش في الصد عن دين الله

وتفصيل النوع الأول وهو: الحرب النفسية يتمثل في عدة أمور:

أولاً: أنهم ذهبوا إلى عمه أبي طالب وطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما يقول ويفعل.

ثانياً: لجئوا إلى تهديد أبي طالب بأن ينازلوه هو وابن أخيه.

ثالثاً: لجئوا إلى إطلاق التهم، فاتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وأنه كذاب، وأن القرآن تتنزل به أساطير الأولين، وأنه يعلمه بشر، إلى غير ذلك من الأباطيل التي ينقض بعضها بعضاً.

رابعاً من الحرب النفسية: أنهم حاولوا صرف الناس عنه، فصوروا لهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما يعتريه شيء من جنون أو أنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، أو غير ذلك من التهم والأباطيل.

خامساً من الحرب النفسية: طلب الآيات، يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، أو يقولون له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:90]، ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام من رحمته بهم ما سأل الله شيئاً من هذه الآيات، بل تأنى صلوات الله وسلامه عليه وصبر لعل الله يأخذ بنواصيهم إلى الهدى.

سادساً من أساليب الحرب النفسية: السخرية والاستهزاء والضحك والهمز واللمز للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، يقولون كما حكى الله عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، يعني: لو كان هذا القرآن من عند الله حقاً لمَ لا يتنزل على واحد من الأغنياء كـالوليد بن المغيرة المخزومي، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أحدهما في مكة والآخر في الطائف؟! كيف يختار للنبوة رجلاً فقيراً ما عنده من المال إلا القليل؟! فالله عز وجل أجاب على هذه الفرية بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، وهذه آفة كثير من الأغنياء.

وكثير من الناس إذا فتح الله عليه الدنيا وجرى المال في يده يظن أن ذلك لكرامته عند الله، قال الله عز وجل: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]، وفي سورة الكهف في الرجل الذي كانت له جنتان، وكان عنده أموال المساكين، لكنه بلغ به الحال إلى أن يقول: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:36]، والآخر قال: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50].

وفي قول ربنا جل جلاله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [مريم:77]، قالوا: نزلت في الوليد بن المغيرة، صنع له خباب بن الأرت -وكان حداداً- سيوفاً ثم جاء يتقاضاه الثمن، فقال له الوليد : (لا أعطيك حتى تكفر بمحمد وإله محمد)، فقال له خباب : (والله لا أفعل حتى تموت ثم تبعث)، يعني: إلى يوم البعث أنا مؤمن بالله ورسوله، فقال له الكافر: (وإني لمبعوث؟)، هناك بعد الموت بعث؟ قال له: نعم. قال له: (فانتظر حتى ذلك اليوم أعطيك أجرك، فوالله ما أنت وصاحبك بخير عند الله مقاماً مني)، هكذا. لأنه في الدنيا أغنى وماله أكثر، إذاً في الآخرة سيكون كذلك، هذا على حسب ظنه، لكن الله عز وجل رد عليه فقال: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً [مريم:78-80]، يعني: لن يأتي معه أمواله ولن يأتي معه أولاده.

قال تعالى: لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:3]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وقال عليه الصلاة والسلام: ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً )، وقال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

مساومة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومفاوضته على دينه

سابعاً: من الأساليب التي لجئوا إليها في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلوب المساومات، لما عجزوا عن مقاومة الدعوة ووجدوا أن من دخل في هذا الدين لا يخرج منه، وأن الإسلام في كل يوم يمتد نوره وينتشر في الآفاق، هؤلاء لجئوا إلى المساومات، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وقالوا: (يا محمد! نعبد إلهك عاماً وتعبد آلهتنا عاماً، فإن كان الذي عندك خيراً مما عندنا أصبنا منه، وإن كان الذي عندنا خيراً من الذي عندك أصبت منه)، يعني: هؤلاء القوم متشككون متحيرون، يعني: مثلما قال الأول في تصوير قضية البعث، عندما أنكر بعض الناس البعث، فهذا الرجل قال:

قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما

يعني: هو نفسه متشكك، لكن يقول لهم: لو صح قولكما بأنه ليس هناك قيامة أنا لست خسراناً شيئاً، ولو صح قولي بأن هناك قيامة وبعث فالخسار عليكما.

فهؤلاء المتهوكون المترددون قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: نعبد إلهك عاماً وتعبد آلهتنا عاماً، فإن كان الذي عندك خيراً مما عندنا أصبنا منه، وإن كان الذي عندنا خيراً مما عندك أصبت منه، فأنزل الله عز وجل إحدى سورتي الإخلاص والتي نقرأها في سنة المغرب وفي سنة الفجر: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-5]، يعني: لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل لن أعبد آلهتكم؛ لأنها معبودة بباطل.

ثم لجئوا إلى أسلوب آخر للمساومات، حيث جاءوا إلى أبي طالب فقالوا له: (يا أبا طالب ! إن ابن أخيك محمداً قد ذم ديننا وعاب آلهتنا، وفرق جماعتنا وأتانا بما لا نعرف، وأدخل علينا من الشر ما لا قبل لنا به، وقد ارتأى أشراف قومك أن يأخذوا أجمل فتيان قريش وأعقلهم عمارة بن الوليد فيدفعوه إليك وتدفع إلينا محمداً فإنا قاتلوه، تعطينا واحداً ونعطيك واحداً. فقال أبو طالب : ما أعجب قولكم! تدفعون إلي ولدكم أغذوه لكم، وأدفع إليكم ولدي لتقتلوه)، يعني: هذا عرض لا يتفق مع المنطق، أسلم إليكم ابن أخي لتقتلوه، وتعطوني بديلاً من أجل أن أغذيه وأنميه وأربيه، فهذا لا يتأتى.

ثم بعد ذلك نزلت بالنبي صلى الله عليه وسلم تلك الفاقرة لما ثقل عمه أبو طالب ، ونزل به مرض الموت، وقد بلغ قريشاً الخبر، فقال بعضهم لبعض: إن حمزة و عمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب ليأخذ لنا من ابن أخيه ويأخذ له منا، فأرسل أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع عنده كبار قريش كـعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وعمرو بن هشام وأمثالهم، فقال له: ( يا ابن أخي! إنه قد نزل بي ما ترى، وإن قومك هؤلاء قد تخوفوا على أنفسهم منك، وقد طلبوا مني أن أجمع بينك وبينهم ليأخذوا لأنفسهم وتأخذ لنفسك، فما تريد منهم؟ قال: يا عم! ما أريد منهم إلا كلمة واحدة ).

فهم من قبل كانوا يعرضون عليه أن يزوجوه من نساء قريش عشراً، وأن يجمعوا له مالاً حتى يصير الأغنى، وأن يملكوه عليهم، فهذا الاجتماع من أجل البحث في هذه العروض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أريد منهم إلا كلمة واحدة، فاشرأبت أعناق القوم حتى نطق أشقاهم أبو جهل فقال: قل يا ابن أخي! نعطك عشر كلمات، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله، فصفق القوم وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاب! )، يعني نحن عندنا ثلاثمائة وستون صنماً حول الكعبة، وأنت تريد أن نعبد واحداً.

( فقال أبو طالب: يا ابن أخي! ما كلفتهم شططاً، -يعني: والله ما طلبت منهم شيئاً صعباً- فهنا طمع النبي صلى الله عليه وسلم في إسلام عمه، قال له: يا عم! قلها أنت أشهد لك بها عند الله ) لكنه أبى أن يقولها.

وفي هذا درس بليغ: أن الهداية من الله، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، الهداية من الله يلقيها في قلب من شاء من عباده، وقد مضى معنا خبر سلمان لما خرج من بلاد أصبهان إلى أن وصل إلى المدينة المنورة، وكان من خيار المسلمين، بينما هؤلاء الأشقياء في مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يعرفون نسبه وصلته وصدقه وفضله، ومع ذلك أبوا أن يؤمنوا، بل ماتوا على الكفر وكانوا في النار مخلدين. فالهداية من الله.

وابن نوح عليه السلام كان كافراً، وأبو إبراهيم كان كافراً، وتجد بعض الناس الآن في تاريخنا المعاصر عاشوا في ظل الشيوعية الحمراء، في ظل الإلحاد سبعين سنة، حيث كان اقتناء المصحف عندهم جريمة عقوبتها الإعدام، الصلاة جريمة عقوبتها الإعدام، وأي مظهر من مظاهر الشريعة تمارسه فأنت على خطر، ومع ذلك بقوا مستمسكين بدينهم عاضين عليه، حتى إن بعضهم حفظ أولاده القرآن في قبو تحت الأرض، والمصحف الواحد تتناقله بيوت عدة، وتجد بعض الناس يعيش في بلاد إسلامية، بل يعيش في بلاد عربية، بل ربما يعيش في الحرمين وهو أبعد الناس عن الله.

ولذلك نقول: الهداية من الله، دائماً سل الله الهداية، كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ( اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أطاعك من خلقك، ونعادي بعداوتك من خالفك )، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أسالك رحمة من عندك تهدي بها قلبي )، فلا تستغني أبداً عن سؤال ربك الهداية، ونحن على الأقل في اليوم سبع عشرة مرة نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، نكرر هذا الدعاء في كل ركعة على الأقل سبع عشرة مرة، أما لو زاد الإنسان من النوافل وتقرب إلى الله بصلاة التطوع، فإنه سيسأل الله بهذا الدعاء مراراً.

سب القرآن وسب من أنزله

ثامناً من أساليبهم: سب القرآن وسب من أنزله، وذلك لما أعيتهم الحيلة وأعوزهم المنطق لجئوا إلى البذاءة والفظاظة وسوء الأدب، وهذه حيلة الطواغيت، ولذلك في القرآن تقرءون لما دعا موسى فرعون إلى الله، قال الله: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:23-24]، فالتفت إلى من بجواره من زبانيته وقال: أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء:25]، يعني: أنتم ترون ماذا يقول هذا؟ عنده إله غيري. فـموسى عليه السلام بدأهم بالهجوم: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الأَوَّلِينَ [الشعراء:26]، يعني: ليس ربك فقط يا فرعون! ربك ورب آبائك الأولين، ثم إن فرعون لجأ إلى البذاءة: قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، يعني: هذا مجنون، وكان يمكن لـموسى عليه السلام أن يقول له: بل المجنون من يقول: أنا ربكم الأعلى، وهو يبول ويتغوط، ولا يملك أن يمنع النجاسة عن جوفه، ولا أن تخرج على ظاهر جسده، ومع ذلك يقول: أنا ربكم الأعلى، لكن الأنبياء لا يعرفون البذاءة، فعندما قال فرعون: إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء:27]، لا زال موسى يرده إلى الحق: قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [الشعراء:28]، يرده إلى القضية التي من أجلها جاء.

فالمشركون كانوا يسبون القرآن ويسبون من أنزله، فقد جاء في الصحيحين في تفسير قول ربنا جل جلاله: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء:110]، قال ابن عباس : (نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، فكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن أنزله، يعني: يسبون الله عز وجل، فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء:110]، أي: بقراءتك).

إذاً: في القرآن الصلاة تطلق على القراءة، والقراءة تطلق على الصلاة، فمن إطلاق الصلاة على القراءة هذه الآية: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء:110]، أي: قراءتك، ومن إطلاق القراءة على الصلاة قول ربنا جل جلاله: أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الإسراء:78]، أي: صلاة الفجر، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78]، أي: صلاة الفجر تشهدها الملائكة، كما قال عليه الصلاة والسلام: ( يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر، فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم: كيف تركتم عبادي؟ يقولون: أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون ).

فالمسلم يحرص على صلاة الصبح وصلاة العصر مع الجماعة؛ لأنه الوقت الذي يتغير فيه الملائكة، يعني: الملائكة الذي جاءوا في صلاة العصر ينتهي عملهم في صلاة الصبح، والطائفة الأخرى من الملائكة يستلمون منهم من صلاة الصبح إلى صلاة العصر، فهؤلاء الذين استلموا في صلاة العصر، وانتهوا في صلاة الصبح يصعدون إلى الله عز وجل فيسألهم وهو أعلم: ( كيف تركتم عبادي؟ يقولون: يا ربنا! أتيناهم -يعني: بالأمس- وهم يصلون -صلاة العصر- وتركناهم -اليوم- وهم يصلون -صلاة الصبح- ).

قال الله عز وجل: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء:110]، أي: قراءتك، فيسمع المشركون فيسبوا القرآن ومن أنزله، وَلا تُخَافِتْ بِهَا [الإسراء:110]، فلا يسمعك أصحابك، وإنما يكون بين هذا وذاك، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً [الإسراء:110]، وهذه الآية من الآيات الدالة على أن ديننا دين وسط، ومثلها قول الله عز وجل: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا [الفرقان:67]، وكذلك قوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ[الإسراء:29]، وقوله سبحانه: إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ [البقرة:68].

اللغو في القرآن وعدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم

تاسعاً: القرآن له تأثير على القلوب خاصة من كان يفهم لغة العرب، والمشركون كانوا عرباً أقحاحاً؛ ولذلك القرآن كان يفعل فعله في نفوسهم، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام يصلي بالليل كانوا يسترقون السمع، يعني: هم فيما بينهم تواطئوا ألا يستمعوا للقرآن، وأن يحدثوا تشويشاً كما حكى الله عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [فصلت:26]، لكن هذا فيما بينهم على الملأ في الجلوة، أما بالليل فكانوا يتسللون كل واحد منهم في ناحية يسمع تلاوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي ليلة من الليالي كان الأخنس بن شريق يقف في ناحية، وأبو سفيان بن حرب في ناحية أخرى، وعتبة بن ربيعة في ناحية ثالثة، وأمية بن خلف في رابعة، وهم لا يرون بعضهم بعضاً، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءته وركع، تفرقوا فالتقوا. فلام بعضهم بعضاً، كل واحد يقول للثاني: أنت ما الذي جاء بك هنا؟ نحن اتفقنا ألا أحد يسمع القرآن، ثم تعاهدوا على ألا يعودوا إلى سماع القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً كان النبي عليه الصلاة والسلام يسب الأصنام، فكان يقول لهم: هذه آلهة باطلة لا تضر ولا تنفع، لا تعطي ولا تمنع، لا تسمع ولا تبصر، لا تغني عنكم شيئاً، يبين حقيقة هذه الأصنام، والقوم لما ضاقوا بهذه الحقائق ذرعاً قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: (يا محمد! واللات والعزى لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنسبن إلهك)، فأنزل الله عز وجل قوله: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، نهى نبيه عليه الصلاة والسلام عن سب تلك الآلهة الباطلة؛ لأن ذلك سيفضي إلى محرم عظيم وهو سب رب العالمين جل جلاله.

وهذه الآية أصل في القول بسد الذرائع، ومعناه أن يكون الشيء مباحاً، لكن يمنع؛ لأنه يؤدي إلى حرام.

وذكر العلماء رحمهم الله من الأمثلة على ذلك: بيع السلاح في الفتنة، يعني: إذا حصلت فتنة بين المسلمين وأنت تاجر سلاح لا تبع لهؤلاء ولا لهؤلاء؛ لأن بيعك للسلاح لأحد الطرفين أو كلاهما يؤدي إلى امتداد الحرب وإلى تطويل أمدها، لكن لو لم يجدوا سلاحاً أجبروا على الكف، وكذلك بيع العنب وبيع الذرة وبيع التمر حلال، قال الله: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275]. لكن لو علمت أن فلاناً يعصره خمراً فالحلال هذا يمنع؛ لأنه يؤدي إلى حرام، ومن ذلك أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن من أكبر الكبائر أن يسب الرجل أباه وأمه، قالوا: يا رسول الله! كيف يسب أباه وأمه؟ -يعني: ليس هناك أحد يسب أباه وأمه- قال عليه الصلاة والسلام: يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه )، يعني: أنت لو سببت أبا إنسان أو أمه، ففي الغالب أنه لن يسكت، وإنما سيسب أباك أو أمك فكأنك تسببت في سب أبيك وأمك.

الإتيان بالأسئلة التعجيزية التي يستفيدونها من اليهود

عاشراً: من أساليبهم كذلك في الحرب النفسية: الاتصال باليهود للإتيان بأسئلة تعجيزية لإحراج الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنهم قد بعثوا نفراً منهم إلى المدينة على رأسهم النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط فقالوا لليهود: قد ظهر فينا رجل يزعم أنه نبي، وكان مقتضى الأمانة أن يقول لهم اليهود: نعم. قد أظل زمان نبي وهذا النبي من بني إسماعيل، وصفته كذا وكذا وكذا، هل هو الذي عندكم؟ سيقولون: نعم. لكن اليهود على عادتهم في المراوغة، قالوا لهم: سلوه عن أسئلة ثلاثة، فإن أجابكم فهو نبي، وإلا فروا فيه رأيكم، سلوه: عن فتية خرجوا في الدهر الأول ما خبرهم؟ وسلوه عن رجل ملك المشارق والمغارب؟ وسلوه عن الروح؟

فأتى الله بالجواب لنبيه عليه الصلاة والسلام:

أما الفتية فقول ربنا جل جلاله: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً [الكهف:9-10].

وأما الرجل الذي ملك المشارق والمغارب فقال عنه الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف:83].

وأما الروح فقال الله عز وجل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً [الإسراء:85].

الترهيب والتهديد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه

الحادي عشر: ومن أساليبهم: الترهيب، فقد كان أبو جهل عليه لعنة الله -وهو أشقى القوم- إذا سمع بأن فلاناً من الناس أسلم يذهب إليه ويقول له: (صبأت؟ تابعت محمداً على دينه؟ وفارقت دين الآباء والأجداد؟ واللات والعزى لنكسدن تجارتك، ولنفيلن رأيك، ولنقطعن رحمك)، يهدده، ويقول له: (لنكسدن تجارتك) تجارتك هذه من الآن لا نبيع لك ولا نشتري منك، (لنفيلن رأيك) يعني: سنجعل رأيك تافهاً لا نقيم له وزناً، (ولنقطعن رحمك، ولنضعن شرفك، ولنهلكن مالك)، وكل أنواع التهديد يسوقها عدو الله أبو جهل على من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وتفصيل النوع الأول وهو: الحرب النفسية يتمثل في عدة أمور:

أولاً: أنهم ذهبوا إلى عمه أبي طالب وطلبوا منه أن يكف ابن أخيه عما يقول ويفعل.

ثانياً: لجئوا إلى تهديد أبي طالب بأن ينازلوه هو وابن أخيه.

ثالثاً: لجئوا إلى إطلاق التهم، فاتهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه ساحر، وأنه كذاب، وأن القرآن تتنزل به أساطير الأولين، وأنه يعلمه بشر، إلى غير ذلك من الأباطيل التي ينقض بعضها بعضاً.

رابعاً من الحرب النفسية: أنهم حاولوا صرف الناس عنه، فصوروا لهم بأن النبي عليه الصلاة والسلام إنما يعتريه شيء من جنون أو أنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، أو غير ذلك من التهم والأباطيل.

خامساً من الحرب النفسية: طلب الآيات، يقولون للنبي عليه الصلاة والسلام: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، أو يقولون له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء:90]، ونحو ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام من رحمته بهم ما سأل الله شيئاً من هذه الآيات، بل تأنى صلوات الله وسلامه عليه وصبر لعل الله يأخذ بنواصيهم إلى الهدى.

سادساً من أساليب الحرب النفسية: السخرية والاستهزاء والضحك والهمز واللمز للنبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه، يقولون كما حكى الله عنهم: لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف:31]، يعني: لو كان هذا القرآن من عند الله حقاً لمَ لا يتنزل على واحد من الأغنياء كـالوليد بن المغيرة المخزومي، أو عروة بن مسعود الثقفي ، أحدهما في مكة والآخر في الطائف؟! كيف يختار للنبوة رجلاً فقيراً ما عنده من المال إلا القليل؟! فالله عز وجل أجاب على هذه الفرية بقوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32]، وهذه آفة كثير من الأغنياء.

وكثير من الناس إذا فتح الله عليه الدنيا وجرى المال في يده يظن أن ذلك لكرامته عند الله، قال الله عز وجل: فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر:15]، وفي سورة الكهف في الرجل الذي كانت له جنتان، وكان عنده أموال المساكين، لكنه بلغ به الحال إلى أن يقول: وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنقَلَباً [الكهف:36]، والآخر قال: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى [فصلت:50].

وفي قول ربنا جل جلاله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [مريم:77]، قالوا: نزلت في الوليد بن المغيرة، صنع له خباب بن الأرت -وكان حداداً- سيوفاً ثم جاء يتقاضاه الثمن، فقال له الوليد : (لا أعطيك حتى تكفر بمحمد وإله محمد)، فقال له خباب : (والله لا أفعل حتى تموت ثم تبعث)، يعني: إلى يوم البعث أنا مؤمن بالله ورسوله، فقال له الكافر: (وإني لمبعوث؟)، هناك بعد الموت بعث؟ قال له: نعم. قال له: (فانتظر حتى ذلك اليوم أعطيك أجرك، فوالله ما أنت وصاحبك بخير عند الله مقاماً مني)، هكذا. لأنه في الدنيا أغنى وماله أكثر، إذاً في الآخرة سيكون كذلك، هذا على حسب ظنه، لكن الله عز وجل رد عليه فقال: أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنْ الْعَذَابِ مَدّاً * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً [مريم:78-80]، يعني: لن يأتي معه أمواله ولن يأتي معه أولاده.

قال تعالى: لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة:3]، وقال سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ [الأنعام:94]، وقال عليه الصلاة والسلام: ( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً )، وقال تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104].

سابعاً: من الأساليب التي لجئوا إليها في حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلوب المساومات، لما عجزوا عن مقاومة الدعوة ووجدوا أن من دخل في هذا الدين لا يخرج منه، وأن الإسلام في كل يوم يمتد نوره وينتشر في الآفاق، هؤلاء لجئوا إلى المساومات، فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً وقالوا: (يا محمد! نعبد إلهك عاماً وتعبد آلهتنا عاماً، فإن كان الذي عندك خيراً مما عندنا أصبنا منه، وإن كان الذي عندنا خيراً من الذي عندك أصبت منه)، يعني: هؤلاء القوم متشككون متحيرون، يعني: مثلما قال الأول في تصوير قضية البعث، عندما أنكر بعض الناس البعث، فهذا الرجل قال:

قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأجساد قلت إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما

يعني: هو نفسه متشكك، لكن يقول لهم: لو صح قولكما بأنه ليس هناك قيامة أنا لست خسراناً شيئاً، ولو صح قولي بأن هناك قيامة وبعث فالخسار عليكما.

فهؤلاء المتهوكون المترددون قالوا للنبي عليه الصلاة والسلام: نعبد إلهك عاماً وتعبد آلهتنا عاماً، فإن كان الذي عندك خيراً مما عندنا أصبنا منه، وإن كان الذي عندنا خيراً مما عندك أصبت منه، فأنزل الله عز وجل إحدى سورتي الإخلاص والتي نقرأها في سنة المغرب وفي سنة الفجر: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-5]، يعني: لا في الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل لن أعبد آلهتكم؛ لأنها معبودة بباطل.

ثم لجئوا إلى أسلوب آخر للمساومات، حيث جاءوا إلى أبي طالب فقالوا له: (يا أبا طالب ! إن ابن أخيك محمداً قد ذم ديننا وعاب آلهتنا، وفرق جماعتنا وأتانا بما لا نعرف، وأدخل علينا من الشر ما لا قبل لنا به، وقد ارتأى أشراف قومك أن يأخذوا أجمل فتيان قريش وأعقلهم عمارة بن الوليد فيدفعوه إليك وتدفع إلينا محمداً فإنا قاتلوه، تعطينا واحداً ونعطيك واحداً. فقال أبو طالب : ما أعجب قولكم! تدفعون إلي ولدكم أغذوه لكم، وأدفع إليكم ولدي لتقتلوه)، يعني: هذا عرض لا يتفق مع المنطق، أسلم إليكم ابن أخي لتقتلوه، وتعطوني بديلاً من أجل أن أغذيه وأنميه وأربيه، فهذا لا يتأتى.

ثم بعد ذلك نزلت بالنبي صلى الله عليه وسلم تلك الفاقرة لما ثقل عمه أبو طالب ، ونزل به مرض الموت، وقد بلغ قريشاً الخبر، فقال بعضهم لبعض: إن حمزة و عمر قد أسلما، وقد فشا أمر محمد في قبائل قريش كلها، فانطلقوا بنا إلى أبي طالب ليأخذ لنا من ابن أخيه ويأخذ له منا، فأرسل أبو طالب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اجتمع عنده كبار قريش كـعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة وعمرو بن هشام وأمثالهم، فقال له: ( يا ابن أخي! إنه قد نزل بي ما ترى، وإن قومك هؤلاء قد تخوفوا على أنفسهم منك، وقد طلبوا مني أن أجمع بينك وبينهم ليأخذوا لأنفسهم وتأخذ لنفسك، فما تريد منهم؟ قال: يا عم! ما أريد منهم إلا كلمة واحدة ).

فهم من قبل كانوا يعرضون عليه أن يزوجوه من نساء قريش عشراً، وأن يجمعوا له مالاً حتى يصير الأغنى، وأن يملكوه عليهم، فهذا الاجتماع من أجل البحث في هذه العروض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما أريد منهم إلا كلمة واحدة، فاشرأبت أعناق القوم حتى نطق أشقاهم أبو جهل فقال: قل يا ابن أخي! نعطك عشر كلمات، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: قولوا: لا إله إلا الله، فصفق القوم وقالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً، إن هذا لشيء عجاب! )، يعني نحن عندنا ثلاثمائة وستون صنماً حول الكعبة، وأنت تريد أن نعبد واحداً.

( فقال أبو طالب: يا ابن أخي! ما كلفتهم شططاً، -يعني: والله ما طلبت منهم شيئاً صعباً- فهنا طمع النبي صلى الله عليه وسلم في إسلام عمه، قال له: يا عم! قلها أنت أشهد لك بها عند الله ) لكنه أبى أن يقولها.

وفي هذا درس بليغ: أن الهداية من الله، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القصص:56]، الهداية من الله يلقيها في قلب من شاء من عباده، وقد مضى معنا خبر سلمان لما خرج من بلاد أصبهان إلى أن وصل إلى المدينة المنورة، وكان من خيار المسلمين، بينما هؤلاء الأشقياء في مكة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، يعرفون نسبه وصلته وصدقه وفضله، ومع ذلك أبوا أن يؤمنوا، بل ماتوا على الكفر وكانوا في النار مخلدين. فالهداية من الله.

وابن نوح عليه السلام كان كافراً، وأبو إبراهيم كان كافراً، وتجد بعض الناس الآن في تاريخنا المعاصر عاشوا في ظل الشيوعية الحمراء، في ظل الإلحاد سبعين سنة، حيث كان اقتناء المصحف عندهم جريمة عقوبتها الإعدام، الصلاة جريمة عقوبتها الإعدام، وأي مظهر من مظاهر الشريعة تمارسه فأنت على خطر، ومع ذلك بقوا مستمسكين بدينهم عاضين عليه، حتى إن بعضهم حفظ أولاده القرآن في قبو تحت الأرض، والمصحف الواحد تتناقله بيوت عدة، وتجد بعض الناس يعيش في بلاد إسلامية، بل يعيش في بلاد عربية، بل ربما يعيش في الحرمين وهو أبعد الناس عن الله.

ولذلك نقول: الهداية من الله، دائماً سل الله الهداية، كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ( اللهم اجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك حرباً لأعدائك، نحب بحبك من أطاعك من خلقك، ونعادي بعداوتك من خالفك )، وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم إني أسالك رحمة من عندك تهدي بها قلبي )، فلا تستغني أبداً عن سؤال ربك الهداية، ونحن على الأقل في اليوم سبع عشرة مرة نقول: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، نكرر هذا الدعاء في كل ركعة على الأقل سبع عشرة مرة، أما لو زاد الإنسان من النوافل وتقرب إلى الله بصلاة التطوع، فإنه سيسأل الله بهذا الدعاء مراراً.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
بداية نزول الوحي 2548 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [2] 2401 استماع
عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل 2172 استماع
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم 2142 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة [2] 2124 استماع
النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة [1] 2103 استماع
إرهاصات النبوة [2] 2065 استماع
الإسراء والمعراج 2008 استماع
تواضع النبي صلى الله عليه وسلم 1869 استماع
عام الحزن وخروج النبي إلى الطائف 1816 استماع