من صفات المربي


الحلقة مفرغة

يشترط في زكاة الحبوب والثمار أن يزهو الثمر: يحمر أو يصفر، وأن يفرك الحب، وأن يطيب العنب والزيتون، وأن يبلغ المحصول نصاباً وهو خمسة أوسق، ومقدار الواجب فيها إن كانت تسقى بلا كلفة العشر، وإن كانت تسقى بكلفة نصف العشر، وهناك أحكام تتعلق بزكاة الحبوب والثمار ينبغي معرفتها حتى يكون المسلم على بينة من ذلك، وحتى يؤدي هذه العبادة كما أمر الله تعالى، كما ينبغي عليه معرفة مصارف الزكاة، وهي الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة، حتى يدفعها إلى من يستحقها.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فقد كنا برهة من الزمن نخاطب الآباء والأمهات، ومن ولاهم الله تربية الجيل، نخاطبهم بمسئولية التربية، ونحدثهم عن أهمية التربية والعناية بها، ونحذرهم من خطورة التساهل والتهاون بهذه المسئولية، وما نزال نحتاج إلى هذا التذكير، وما يزال المؤمن يحتاج إلى أن يذكر ويوصى، ولقد أدرك اليوم الجميع وهم يرون النتائج المرة لإهمال التربية وعدم العناية بها أن قضية التربية قضية ملحة، وأدرك الجميع أن الكثير من مظاهر الفساد والانحراف والخلل في الأمة في دينها وعبادتها لله تبارك وتعالى، وفي تأخرها في أمور دنياها، وكونها في قافلة الركب، أدرك الجميع أن هذا التأخر والتخلف ليس إلا مظهراً من مظاهر إهمال التربية.

ومن ثم شعرنا بأننا نحتاج إلى حديث آخر، وأننا ينبغي لنا أن نتجاوز الحديث عن أهمية التربية وضرورة التربية، لا لأنه ليس حديثاً مهماً، بل لأن أولئك الذين لم يستفيقوا إلى الآن، ولم يدركوا أهمية التربية بعد ليسوا مؤهلين للتربية فعلاً، وهم يرون النتائج اليوم ماثلة أمام أعينهم.

أننا نسمع الشكوى كثيراً أيها الإخوة، نسمع الشكوى من الآباء، ونسمع الشكوى من المعلمين، ونسمع الشكوى من الصغير والكبير من مشكلات كثيرة نعاني منها من جيلنا، ويشعر الجميع أن هذه المشكلات إنما هي إفراز لسوء التربية وإهمال التربية، ويتداعى الجميع إلى ضرورة العناية بالتربية، ودورها في إصلاح الناشئة، وفي تعبيدهم لله تبارك وتعالى، وتحقيق الغاية التي من أجلها خلقوا، وهي العبودية لله تبارك وتعالى، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].

لكن هل نتصور -أيها الإخوة- أن التربية التي تعنى بإعداد هذا الإنسان بنفسيته المعقدة، وطبيعته، والعوامل والمتغيرات التي تؤثر في شخصيته، هل نتصور أن هذه التربية يمكن أن يقوم بها الإنسان بخبراته الشخصية، وتجاربه الشخصية، أو بما ورثه وتلقاه عن آبائه وأجداده، فيتصور أن تلك التربية التي كان يتلقاها في محيط أسرته، أو من آبائه وأجداده هي التربية المثالية، وحين يناقش في هذا الأسلوب أو ذاك يفاجئك بعيداً عن المنطق، وبعيداً عن الحجة والبرهان بأنه: هكذا تربى؟!

أقول: إن التربية التي ننشدها ينبغي أن يكون لمن يقوم بها مواصفات وقدرات، فينبغي أن نفكر كثيراً، وأن نراجع أنفسنا، ونراجع أساليبنا في التربية، ونحن نرى وندرك الأخطاء يوماً بعد يوم، التي نرى أنها نتيجة للخلل في التربية وسوء التربية.

إن التعرف -أيها الإخوة- على صفات المربي ضروري؛ لنختار من يقوم بالتربية، فحين نريد اختيار فرد ليقوم ويتولى مسئولية التربية، وحين نريد أن نختار معلماً، أو نختار معلمة، أو نختار موجهاً يتصدى لتربية الناشئة وإعدادهم؛ ينبغي أن نتساءل كثيراً: ما الصفات التي تؤهله ليقوم بهذه المهمة، وليؤدي هذا الدور؟

إن الناس اعتادوا في وظائفهم في أمور دنياهم أن يطرحوا شروطاً ومواصفات لمن يتصدى لأي عمل وأي مهمة، فما بالنا بمن يتصدى لأكبر مهمة ووظيفة؟! إنها -لا شك- مهمة الرسل، فلقد أخبر الله تبارك وتعالى أنه أرسل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أمته يتلو عليهم آياته، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، إنها وظيفة الأنبياء والمصلحين.

ومن ثم فنحن حين نختار من يتولى التربية ينبغي أن تكون لدينا معايير واضحة، وصفات محددة؛ لنرى هل تنطبق على هذا الشخص أم لا؟

أما حين تكون التربية ويكون التعليم وظيفة من لا وظيفة له، ومهنة من لا مهنة له؛ فهذا احتقار لشأن التربية، وهذا إيذان بإخراج جيل يعاني من المتناقضات، ويعيش في فوضى لا أول لها ولا آخر.

ثم إننا نحتاج إلى أن نتعرف على صفات المربي؛ وينبغي أن نكون كلنا كذلك، سواء أكنا آباء أم معلمين، أم كنا موجهين للناس هنا وهناك، فإننا نقوم بالتربية.

إننا -ونحن نقوم بالتربية- نشعر -ويجب أن نشعر- بالمسئولية العظيمة، والأمانة الملقاة على عواتقنا، هذه المسئولية -أيها الإخوة- لا تنتهي عند حد شعور الإنسان بالتبعة، بل لابد أن يسعى إلى إتقان العمل؛ فالله تبارك وتعالى أمرنا أن نتقيه ما استطعنا.

إنك إذا كنت تستطيع أن تتعلم، وأن تقرأ، وأن تفكر كيف تربي وكيف توجه؛ كان فعلك لذلك من تقوى الله في هذا العمل، وهذه الأمانة، وهذا الدور الذي تقوم به، فلست معذوراً حينئذٍ حين تخل بهذه الأمانة.

إن المربي الذي يشعر بالأمانة والمسئولية يشعر أنه بحاجة إلى أن ينمي نفسه، وبحاجة إلى أن يوجد في نفسه الصفات التي تؤهله لأن يقوم بهذا الدور، ويؤدي هذه المهمة خير أداء، ومن ثم فإن المربي نفسه يحتاج إلى أن يتعلم صفات المربي؛ حتى يسعى إلى تفقدها في نفسه، ويسعى إلى أن يحقق في نفسه ما كان يفتقد من هذه الصفات.

إننا نحتاج إلى أن نتعرف على صفات المربي حينما نفكر بالقيام ببرامج لإعداد المربين، وينبغي أن تعتني الأمة بذلك، وأن تعتني الصحوة بهذه القضية، بأن يكون لها برامج لإعداد من يتولى التربية، فالعالم كله لا يقبل اليوم في وظيفة التعليم ومهنة التعليم إلا من تحقق في نفسه شروط، ومن اجتاز خطة دراسية معينة يرى القائمون على المؤسسة التعليمية أنها تؤهله للتربية، بغض النظر عن نظرة هؤلاء للتربية، وبغض النظر عن سلامة منهجهم أو انحرافه، لكنهم يرون أن هناك إعداداً لابد أن يتلقاه من يقوم بالتربية.

ولهذا فحين نفكر في إعداد المربي لابد من أن نعلم ما نعطيه، وبما نخاطبه، وما هي الجوانب التي نرى أنه ينبغي أن نغرسها فيه؟ وإن هذا السؤال لن نجيب عليه إلا إذا تعرفنا على صفات المربي.

وإنما نحتاج إلى التعرف على صفات المربي؛ لأن مثل هذه الصفات بمثابة المحددات لسلوكنا، فحين نقول: إن هذه الصفة أو تلك ينبغي أن توجد في المربي؛ فإن هذا يعني أن التربية السليمة ينبغي أن تسير على هذا النمط وعلى هذا الأسلوب، وسيأتي -بإذن الله- مزيد بسط لهذه القضية.

إن هذه الأمور وغيرها تطرح بإلحاح ضرورة التعرف على صفات المربي والحديث عنها.

وقبل أن نتحدث عن هذه الصفات لابد من أن نعي قضية مهمة، هي أننا حين نسرد قائمة طويلة من هذه الصفات، ثم نأتي فنبحث عنها بين الناس لنرى من تحققت فيه هذه الصفات، ومن منا قد حقق هذه الصفات، حينئذٍ قد يصاب المرء بإحباط، ويرى أنه غير قادر على ذلك، ذلكم أن هناك صفات جبل عليها الإنسان، وأموراً قد لا يستطيع أن يخرج عنها.

إن هناك من الناس من يتصف بالحدة وسرعة الغضب مثلاً، ومهما حاول أن يطبع نفسه على الحلم فإنه سيشعر أنه يقف عند حد معين، وإن هناك من الناس من جبل على العجلة والتعجل في أمره، ويشعر أنه مهما عود نفسه على الرفق سيقف عند حد معين، وإن هناك من الناس من يشعر أنه يفقد العاطفة والرحمة والحنان، ومهما تكلف ذلك سيقف عند حد معين.

وهكذا الناس لهم طبائع وصفات جبلوا عليها، ومهما تخلق المرء فإنه سيشعر أنه لن يستطيع أن يصل إلى الكمال، والبشر بشر لابد أن يكون فيهم قصور.

إذاً: فنحن حينما نذكر هذه الصفات، فإننا لا نفترض أن تكون كلها موجودة في كل إنسان مرب؛ فإن هذا الأمر ربما يكون من المستحيل، وإلا فماذا نصنع بهذا الأب الذي سيكون مربياً شئنا أم أبينا، وقد جبله الله على هذا الخلق أو ذاك؟! وماذا نصنع بهذه الأم أو فلان أو فلان من الناس؟!

إن معرفة هذه الصفات تدعونا إلى أن نجتهد قدر الإمكان في تحقيقها في أنفسنا، وفي تحقيقها لدى من يهيئون ويعدون للتربية، وأن نجتهد في الاقتراب منها، وأظن أننا لن نستطيع -بل أجزم أننا لن نستطيع- أن نبلغ الكمال ونصل إلى القمة، ولذا نسعى إلى الاقتراب منها.

فحين نشعر أن في أنفسنا أو في غيرنا قصوراً في صفة من الصفات؛ فإن هذا لا يعني أن نشعر بأنه غير قادر على التربية، أو بأننا في غنىً عنه، فالأمة بحاجة إلى المزيد من الطاقات، فكلما استجلينا هذه الصفات، وأصبحت واضحة أمامنا وماثلة للعيان؛ فإننا سنكون قد وضعنا منارات في طريقنا وفي طرق المربين الذين يسعون إلى الاهتداء بها، ويسعون إلى السير عليها، ولهذا آثرت أن يكون العنوان: (من صفات المربين).

وإنني حين أزعم أنني أريد أن أتحدث عن كل صفات المربي فإنني أدعي أمراً لا أستطيعه ولا أطيقه، لأن هناك جوانب أجزم بأن قصوري البشري وضعفي سيحول دون إدراكي لها، فضلاً عن أن الوقت المخصص للحديث حول هذا الموضوع قد يضيق، ولهذا آثرت أن أتحدث عن بعض الصفات التي أرى أنها ضرورية، وليس بالضرورة -أيها الإخوة- أن تكون هذه الصفات هي أهم الصفات، فإنني قد تجاوزت صفات أرى أنها مهمة وضرورية، ولكن يعلمها الجميع ويدركها الجميع، ورأيت أن أركز حديثي حول صفات وجوانب أرى أننا نقصر فيها، أو أننا قد لا نشعر بأهميتها وضرورتها، ولهذا فإن هذه الصفات التي أتحدث عنها ليس بالضرورة أن تكون كل ما أراه ينبغي أن يكون في المربي، بل ليس بالضرورة كونها أهم ما نراه، فقد بقيت هناك جوانب ضرورية ومهمة أشعر بأنه ينبغي أن أتجاوزها، لا لأنها ليست مهمة، بل ربما تكون أهم من غيرها، وإنما لأنها معروفة ومقررة لدى أمثالكم، فلا أريد أن يكون الحديث تكراراً.

الهدي والسلوك والسمت الحسن

إن من أهم الصفات التي ينبغي أن تتحقق لدى المربي: الهدي والسلوك والسمت الحسن:

ذلك أن المربي يترك آثاره بهديه وسمته وسلوكه أضعاف أضعاف ما يترك بحديثه وكلامه، ولهذا أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه جعل لنا أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، وأمرنا أن نتأسى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل والفعل يترك أثراً في النفوس لا يتركه القول.

لقد جاء قوم أهل فقر وضعف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حالهم، فدخل وخرج، ثم صعد المنبر، وحث الناس على الصدقة، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (من سن سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

لقد سمع الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه وموعظته، ولكن ربما كان العمل في هذا الموقف وهذا الموطن من هذا الرجل -وهو دون النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً- أعظم أثراً منه؛ لأن العمل يترك من الأثر ما لا يتركه القول.

ولهذا فإننا حين نكون -أيها الإخوة- قساة القلوب، وحين نعاني من جفاف العيون، ومن موت القلوب، ومن قلة خشية الله تبارك وتعالى، ونريد أن نعظ الناس، ونريد أن نترك أثرنا على الناس، وسلوكنا لا يشهد بذلك، ولا ينطق بذلك، وحالنا مع الله تبارك وتعالى، وحالنا في سلوكنا وهدينا يخالف ما ندعو الناس إليه، إننا حينئذٍ نسعى إلى أن نبني قصوراً في الرمال، ونسعى إلى أن ننحت في البحر كما يقال.

لذا قال أحد السلف حين سأله ابنه: ما بالك إذا وعظت بكى الناس، وإذا وعظ غيرك لم يتأثر الناس؟ فقال: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.

ولهذا كان السلف كثيراً ما يؤكدون على هذا المعنى، ويؤكدون على أن طالب العلم ينبغي أن يتعلم الهدي والسمت والسلوك من مشايخه.

يقول ابن وهب : ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه.

ويقول إبراهيم : كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودله.

وكانوا يقولون:

أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد

فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد

ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد

لقد كانوا -كما حكى ابن سيرين رحمه الله- يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

فكان أولئك المربون بحق والمعلمون بحق يتركون آثارهم على تلامذتهم بسمتهم وهديهم وسلوكهم أضعاف أضعاف ما يتركونه بتعليمهم.

وتأمل ما قاله ابن وهب ، وهو واحد من كبار تلامذة الإمام مالك المحدث الفقيه الذي كان الناس يضربون أكباد الإبل في زمنه فلا يرون إلا إمام دار الهجرة فيأتون إليه، ومع ذلك يرى أن ما لقيه وحصله من هديه وسمته وسلوكه أكثر مما تعلمه من علمه.

إذاً: فهي -أيها الإخوة- قضية مهمة ينبغي أن نعتني بها بتحقيقها في أنفسنا، وتحقيقها لدى من يتولى التربية، وحينئذٍ يشعر المربي بأنه لن يحتاج إلى مزيد من الحديث، ولن يحتاج إلى مزيد من الوعظ، ولن يحتاج إلى مزيد من النصح والتذكير، إنما حاله يذكر بهذا الأمر، وهديه وسمته وسلوكه يخبر بما وراء ذلك.

وما أقبح -أيها الإخوة- أن نرى من ينتسب للعلم الشرعي وتعليمه للناس، أو يتصدى لوظيفة شرعية، ثم نرى أثر المعصية على وجهه، لا تفارقه أينما ذهب! إنها -أيها الإخوة- صورة من صور إعلان التناقض بين القول والعمل، إن هذا المرء ليقول للناس بلسان حاله قبل أن يقول بلسان مقالة: إنني أقول لكم قولاً، وعملي وفعلي وسلوكي ينطق بخلافه، فيهدم هذا المرء بعمله وسلوكه أضعاف ما يبنيه بقوله ونصحه وتوجيهه.

امتلاك المربي ما يقدمه للآخرين

والصفة الثانية من صفات المربي: أن يملك المربي ما يقدمه للآخرين:

أن يملك العلم الشرعي، وأن يملك الخبرة، وأن يملك القدرة على حل المشكلات، إنه يحتاج إلى أن يقدم العلم والتوجيه والنصح، وأن يعطي الناس ويقدم للناس، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن أبداً أن ننتظر من المرء المفلس أن يقدم شيئاً للناس، ومن هنا كان الرصيد العلمي والبناء العلمي أمراً لا يستغني عنه مربٍ أياً كان، فيتعلم ويدرك ما يرى أنه يحتاج إليه في تعليمه ودعوته وتربيته للناس.

كما ينبغي أن يكون هذا المربي قادراً على حل مشكلات الناس، وعلى إعطائهم، وعلى أن يقدم لهم؛ لأنه حين لا يملك شيئاً من ذلك فماذا عساه أن يصنع ويقول ويقدم؟!

قدرة المربي على العطاء

الصفة الثالثة: أن يكون قادراً على العطاء:

إن المرء قد يمتلك رصيداً من العلم، وقد يمتلك رصيداً من الخبرة، وقد يمتلك قدرات، ولكنه قد لا يكون قادراً على الإعطاء، وقد لا يكون قادراً على غرس هذه المعاني لدى الناس، فليست القضية -أيها الإخوة- مجرد أن يملك ما يقدم للناس، بل أن يملك ما يقدم، وأن يكون -أيضاً- قادراً على أن يقدم للناس ما يحتاجون إليه، وأن يكون قادراً على أن يحل مشكلات الناس، وقادراً على أن ينقل ما يملكه من علم، وما يملكه من خبره وقدرات إلى الآخرين.

حسن الإعطاء

الصفة الرابعة -وهي صفة مهمة، وقد أتوقف عندها قليلاً-: أن يكون حسن الإعطاء:

أي: أن يقدم ما نبغي وما لديه بالصورة المناسبة، فالقضية -أيها الإخوة- ليست أن يملك الإنسان شيئاً، ولا أن يستطيع أن يقدم هذا الشيء، بل أن يقدمه بالصورة المناسبة للناس.

وهي قضية مهمة -أيها الإخوة- نفتقدها كثيراً في تربيتنا، حيث نشعر أحياناً بأننا أدينا المسئولية وقمنا بالواجب حين نقول كلمة، أو ننهى عن خطأ، أو نصحح سلوكاً ونخطئ آخر، وننسى أننا لم نقدم هذا الأمر بالصورة المناسبة اللائقة بالناس.

إن هناك -أيها الإخوة- فرقاً كبيراً بين كلمة يقولها الإنسان بلغة، وبين كلمة يقولها بلغة أخرى، وبين كلمة يقولها بلغة ثالثة، وإن كانت تؤدي المعنى نفسه.

ولنضرب على ذلك مثالاً: فلو شعرنا -مثلاً- أن التكييف في هذا المسجد مزعج، ودرجة البرودة لا نتحملها، فقد أشير على واحد منكم بعينه وأقول له: قم فأطفئ جهاز التكييف. وقد أؤدي هذه الكلمة بلغة أخرى، فأقول: من يتبرع منكم فيقوم فيؤدي هذا العمل؟ وقد أقوله بلغة ثالثة، فأقول: إنني أشعر بأن الجو بارد جداً، ألا تشاركونني هذا الشعور؟!

إن هذه الكلمات تؤدي معنى واحد، وتؤدي رسالة واحدة أريد أن أوصلها إليكم، لكن هناك فرق بين الأمر المباشر في الصورة الأولى، وبين الصورة الثانية، وبين الصورة الثالثة.

ولم يكن المربي الأول -صلى الله عليه وسلم- بعيداً عن هذا المنهج، وهو الذي اختاره الله تبارك وتعالى لهذه الرسالة، واختاره لا لتربية أصحابه فحسب، بل لتربية الأمة والمربين كلهم، فقد كان عند النبي صلى الله عليه وسلم رجلان يستبان، يسب أحدهما الآخر، فغضب أحدهما واحمر وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم موجهاً الخطاب لأصحابه -كأن الأمر لا يعني هذا الرجل-: (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

انظر إلى الفرق بين هذه الكلمة التي يقولها النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً لأصحابه، وبين ما لو قال له النبي صلى الله عليه وسلم مخاطباً له وهو في هذه الحالة: قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، والنتيجة واحدة والمؤدى واحد، ولكن هناك فرق بين هذا الأسلوب وبين ذاك الأسلوب.

وحينما يجد الأب ولده قد تأخر عن الصلاة؛ قد يعاتبه بكلمات لاذعة قاسية، فيقول له: إنك لا تهتم بالصلاة، ولا تقيم لها وزناً، وقد يخاطبه بلغة أخرى، فيخاطبه بلغة الأمر فيقول له: اذهب إلى الصلاة منتهراً إياه، وقد يخاطبه بلغة ثالثة ومنطق ثالث، فيأخذ بيده فيقول: لنذهب سوياً إلى المسجد لنصلي.

وهناك فرق -أيها الإخوة- بين هذه الصور، فلماذا نتصور أن أداءنا لأمر أو نهي على أي صورة كان، وأن إبلاغنا لقضية بأي صورة كانت وبأي شكل كان، لماذا نتصور أن هذا الأمر كاف، وأن هذا الأمر مسقط للمسئولية عنا؟!

إنك حين تشعر -مثلاً- أن ابنك يعاني، فلا يستيقظ للصلاة إلا بصعوبة؛ قد تعاتبه، وقد تقول له: إن عملك من عمل المنافقين، وقد تقول له كلمة أخرى، لكنك لو أهديت له ساعة لتوقظه، أو اتفقت معه على أن تذهبا جميعاً إلى المسجد، أو أيقظته بأسلوب أو بآخر؛ فإن هذا الأمر وهذا الأسلوب يترك أثراً في نفسه أعظم بكثير من ذاك الأمر المباشر أو النهي المباشر.

قد أقول لابني: لا تصاحب فلاناً وفلاناً من الناس، وقد أقول كلمة مناسبة في موقف معين، ولكنني حين أقول له: إنه ينبغي أن تحسن اختيار من تصادق، وإنني اقترح عليك أن تعيد النظر، وأن تفكر في واقع أصدقائك، أو أن اثني على فلان من الناس، فأقول: إنه يعجبني سلوك فلان، وخلق فلان، وأتمنى أن يكون صديقاً لك، وأتمنى أن يكون أخاً لك، حين أقول ذلك أوجد لمقالي أثراً في نفسه.

فهناك فرق بين هذا الأسلوب وبين ذاك الأسلوب حينما نصدر أمراً، وحينما نعالج خطأً، وحينما نوجه توجيهاً، هناك فرق -أيها الأخوة- بين أسلوب وأسلوب آخر، ومن ثم كنا بحاجة إلى حسن العطاء فعلاً، وبحاجة إلى نفكر كثيراً كيف ننقل ما لدينا إلى الآخرين؟ وكيف نصلح أخطاء الآخرين؟ وكيف نأمرهم؟ وكيف ننهاهم؟ وكيف نوجههم؟

بل إن الكلمة الواحدة أحياناً يختلف وقعها وأثرها، فقد يسألك رجل سؤالاً، فتقول له: (نعم) بلهجة فيها التهديد أحياناً، وقد تقولها وهي توحي بعدم المبالاة، وقد تقولها وهي توحي بعدم التصديق، وقد تقولها وهي توحي بالترحيب.

وحينما يصنع لك رجل معروفاً، فتقول له: جزاك الله خيراً، قد تقولها كلمة عاجلة أحياناً كما يعتادها الناس، وقد تقولها بشعور ينبئ عن الاهتمام، وقد تقولها أيضاً بما هو أكثر من ذلك، والكلمة هي هي، فقسمات الوجه، ووقع الكلمة، والصوت، وجرس الكلمة، كل هذه لها آثار، فتعطي هذه الكلمة أثراً لا تعطيه تلك الأخرى، وإن كانت هي هي بحروفها، ولكن قسمات الوجه، وجرس الكلمة، والصوت، كلها تترك آثاراً غير ما تتركه تلك الأخرى.

لهذا كان علينا أن نفكر كثيراً كيف نوصل ما عندنا لمن نربيهم، وألا تكون القضية مجرد أن نقول كلمة أياً كانت، بأي وسيلة، وبأي لغة، ونتصور حينئذٍ أن هؤلاء قد قامت عليهم الحجة، وأننا قد أدينا الواجب علينا تجاههم.

الاتزان العاطفي

والصفة الخامسة مهمة، وهي: الاتزان العاطفي:

إن الله عز وجل خلق عواطف للناس، فعند الناس رحمة ومحبة ومشاعر وارتياح، هذه العواطف لم يخلقها تبارك وتعالى عبثاً، وحينما ندعو إلى إلغائها عند الناس فإننا ندعو إلى تغيير خلق الله، وندعو الناس إلى أن يتخلوا عما فطرهم الله عليه، وحين تستبد بنا العواطف وتحكمنا العواطف نكون حينئذٍ ضحية لهذه العواطف، ونناقض صريح المنقول والمعقول، ونبقى أسرى لهذه العواطف التي قد تقودنا إلى مهالك.

إن المربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن يملك العاطفة والحب والرحمة والحنان، فيشعر هذا الذي يتربى على يديه بهذا الشعور، فالله تبارك وتعالى قد قال عن نبيه صلى الله عليه وسلم: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول عنه ربه تبارك وتعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] مع أن هؤلاء أصحابه، ومع أن هؤلاء يعلمون أنه ليس ثمة حق إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأن الحق كل الحق في اتباعه صلى الله عليه وسلم، والتأسي به، وأن كل حق يراد من غير طريقه ومن غير سبيله فليس حقاً، وأن كل ما يخالف ما دعا إليه باطل وضلال، مع هذا كله يقول الله تبارك وتعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] فكيف بمن هو دون النبي صلى الله عليه وسلم؟!

إذاً: كيف تتصور أن يراك الناس، وأن ينظر إليك الناس؟! هل نتصور أن الناس سينظرون إلينا على أننا نحن الذين نملك الحق وحده، فنغضب الناس، ونسخط الناس، ونقسو على الناس، ونسيء أخلاقنا معهم، ونفتقد كل هذه المشاعر، ثم يقبلون علينا؛ لأننا نملك الحق، ونحمل الحق؟! إن هذا الأمر لم يتحقق للنبي صلى الله عليه وسلم، فما بالك بمن هو دونه؟!

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل هذه المشاعر، فقد كان صلى الله عليه وسلم يخطب بأصحابه فدخل الحسين -وهو صبي- يتعثر في ثوبه، فينزل صلى الله عليه وسلم فيحمله، ثم يقول: (إن ابني هذا سيد).

ويأتيه وهو ساجد فيعلو ظهره، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم سجوده، فيقول: (إنه ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).

وحين حضر الموت أحد أحفاده الصغار بكى، فرأى أحد الصحابة دموعه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذا؟ قال: (هذه رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده).

وحين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فراه يقبل الصغار، فقال: أتقبلون صبيانكم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟! من لا يرحم لا يرحم).

إذاً: هكذا كان المربي صلى الله عليه وسلم يملك رحمة، وإحساناً إلى الناس، ومحبة، يقول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه: (إني أحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك).

ويقول صلى الله عليه وسلم: (هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً).

ويثني صلى الله عليه وسلم على طائفة من أصحابه، فيفدي أحدهم، فيقول: (ارم فداك أبي وأمي)، ويقول في الزبير : (لكل نبي حواري، وحواريي الزبير)، إلى آخر ذلك من النصوص التي يشعر فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بمحبته إياهم، وسؤاله عنهم صلى الله عليه وسلم، وعطفه عليهم، فالمربي يجب عليه أن يملك هذا الشعور، وأن يملك العاطفة والرحمة والود.

وحين يعرض الناس عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يناقضون الفطرة، فأحد أهل التصوف مات طفل له، فحين دفنه صار يرقص على قبره، وكأنه يعلن أن هذا من تمام الرضا بقضاء الله تبارك وتعالى! وهل يظن هذا أنه أثبت قلباً من النبي صلى الله عليه وسلم الذي دمعت عينه حين مات ولده إبراهيم ، وقال: (إن القلب ليحزن، والعين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا).

وعلى الجانب الآخر ينبغي أن تضبط هذه الانفعالات والعواطف فلا تنحرف، ولا تتحول الصلة بين المربي ومن يربيه إلى عواطف ومشاعر متبادلة، ولا تطغى هذه العواطف على ما يحتاج إليه هذا الشخص من الحزم أحياناً، ومن الجد، ومن معالي الأمور.

إن الإغراق في العاطفة يخرج جيلاً هش البنيان، وجيلاً يعيش على العواطف، وجيلاً غير جاد، وجيلاً غير عامل، وفي المقابل يخرج فقدان العاطفة جيلاً قاسي القلب، قد نزعت من قلبه الرحمة، فلابد أن يعيش المربي على هذا التوازن، وأظن أنه ليس أحدهما بأسوأ من الآخر، وأظن أن المربي المفرط في عاطفته ليس بأسوأ من ذاك الذي فقد العاطفة أو فقد المشاعر الإنسانية، والعكس كذلك.

الاتزان الانفعالي

الصفة السادسة -وهي أيضاً تتعلق بالتوازن-: الاتزان الانفعالي:

أن يكون المرء متزناً في انفعالاته، فهو قد يغضب مثلاً، وأمر طبيعي في حق من يتعامل مع الناس أن يأتيه ما يأتيه مما يستدعي الغضب والسخط، ويستدعي انفعالاً أو موقفاً معيناً تجاه هذا الشخص، فينبغي أن يكون هذا المربي متزناً، قادراً على ضبط هذا الانفعال.

ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا قمة الشجاعة، فقال: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).

وفي حديث آخر قال: (ما تعدون الشديد فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرع، قال: الشديد: الرجل يغضب، فيحمر وجهه، ويقشعر جلده، ثم يكظم غيظه)، إنه يغضب، ويأتيه الغيظ، لكنه يكظم غيظه.

إنه حين تكون تصرفات المربي استجابة لهذه الانفعالات، وردود فعل؛ فإنه كثيراً ما يفقد التصرف المناسب، فقد يتصرف تصرفاً يمليه عليه الغضب، وليس التصرف الذي يمليه عليه الشرع، وليس التصرف الذي يرى أنه هو المناسب في مثل هذا الموقف أو ذاك، وقد يتصرف تصرفاً يمليه عليه رضا أو موقف آخر أياً كان، فضبط المربي لانفعالاته واتزانه فيها أمر له أهميته؛ حتى يضبط تصرفاته، وردود أفعاله، ومواقفه.

الاتزان الاتصالي

الصفة السابعة -وهي حول التوازن والاتزان-: هي ما يمكن أن نسميه بالاتزان الاتصالي:

فعملية التربية هي اتصال بين المربي ومن يربيهم، فحينما يكون المربي مجرد ملقٍ يتحدث، والذي يتربى دوره دور التنفيذ والسماع، حينما يكون الاتصال وحيد الاتجاه، فيبقى دور المتربي أن يسمع الأوامر، ويعطى نصائح دون أن يكون له فرصة للمناقشة، ولسماع ما عنده، ولسماع مشكلاته، ومن هنا فالمربي أحوج ما يكون إلى تحقيق هذا التوازن: أن يسمع كما يعطي، وأن يأخذ من هذا كما يعطيه، وأن يعطي فرصة لهذا الذي يتربى على يديه لكي يسأل ويناقش ويراجع، يعطيه فرصة ليتحدث عن مشكلاته، وليتحدث عن همومه.

إن الكثير من الأبناء اليوم يشكون أنهم لا يجدون الوقت والفرصة حتى يبثوا همومهم لآبائهم، وحتى يبثوا مشكلاتهم لآبائهم، وإن وجد الوقت لا يوجد الصدر الواسع الذي يستمع، ويستوعب ما عند هؤلاء.

ولننظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يربي أصحابه، فهاهي عائشة رضي الله عنها تسأله صلى الله عليه وسلم حينما ذكر شأن الحساب يوم القيامة، فقال: (من نوقش الحساب عذب، قالت: أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [الانشقاق:7-8]؟!) فهو سيحاسب يوم القيامة حساباً يسيرا، فتشعر عائشة رضي الله عنها بنوع من التعارض بين هذا المقال الذي سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم وبين هذه الآية، فتسأل النبي صلى الله عليه وسلم ليجيبها صلى الله عليه وسلم، ولم تكن لتتجرأ رضي الله عنها على أن تسأل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تناقش، وأن تبدي له ما لديها لو لم يكن صلى الله عليه وسلم قد عودها على أن يستمع منها.

ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة ، فتحدثه حديثاً طويلاً كما في الصحيح في قصة أم زرع ، فيستمع النبي صلى الله عليه وسلم إلى حديثها بإنصات، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (كنت لك كـأبي زرع لـأم زرع).

فالمتربي -أيها الإخوة- يحتاج إلى أن نترك له فرصة للسؤال والمناقشة والاعتراض، ويحتاج إلى أن نترك له فرصة للحديث عن مشكلاته، والحديث عن همومه، وأن يبث ما لديه، وإلا فسيكون البديل هم أهل السوء، فحينما لا يجد الصدر الواسع من أبيه، ولا من أمه، ولا من معلمه وأستاذه؛ فإنه سيرى البديل عند من يستثمر هذا الضعف لديه، ومن يستثمر هذه المشكلة؛ ليحقق من وراء ذلك المقاصد والأغراض السيئة التي لا تليق.

ومن هنا كنا أحوج ما نكون إلى أن نعيد النظر في طريقة إلقائنا للأوامر، وإلقائنا للتوجيهات، وأن نعود هذا الجيل على أن يتحدث كما يسمع، وأن يأخذ ويعطي.

إن هذا النوع من التربية الذي يتعود فيه الشخص على أن يتلقى فقط يخرج جيلاً اتكالياً إن سلم من المشكلات، جيلاً لا يعتمد على نفسه ويعتمد على الآخرين، لا يستطيع أن يصنع شيئاً؛ لأنه لم يعتد أن يقول كلمة واحدة، ولم يعتد أن يناقش، ولم يعتد أن يبدي شيئاً مما لديه، ومما يعاني منه.

القدرة على التقويم

الصفة الثامنة التي ينبغي أن تكون لدى المربي: القدرة على التقويم:

وهي من الصفات المهمة التي ينبغي ألا يفتقدها، لماذا؟ لأنه سيحتاج -مثلاً- إلى أن يحدث تلميذه أو ابنه عن مشكلة من المشكلات، أو حدث من الأحداث، أو أن يقوم له كتاباً، أو مدرسة فكرية، أو فكرة، أو رأياً، أو مشكلة، وحين لا يملك القدرة على التقويم الجيد، فإنه لا يستطيع أن يوصل له الرسالة المناسبة، ولا يستطيع أن يوصل له الحكم المناسب.

ثم إنه يحتاج -أيضاً- إلى التقويم؛ ليعرف من يربيه، وليعرف أي مرحلة قطعها وتجاوزها، وليعرف الأخطاء، وجوانب القصور، وجوانب الضعف وليعرف القدرات التي يملكها هذا الشخص، وليقوم -أيضاً- عمله وجهده وتربيته.

وهي موهبة وملكة توجد لدى المرء، لكنه -أيضاً- يستطيع أن يتعلم ويتطبع على شيءٍ منها، حينما يتعود أن يكون عميقاً في نظرته، وحينما يتعود أن يكون موضوعياً لا يتأثر بالعواطف، ويحكم من خلال الموقف الواحد، فحينما يعتاد ويتعود على هذا النمط من التقويم؛ يستطيع أن يملك قدرة على التقويم يحتاج إليها فيما يقدم للآخرين؛ لأنه سيقدم تقويماً للأعمال للناس، وسيقدم تقويماً لفكرة، أو لرأي، أو لمشروع، أو لعمل أياً كان، ثم سيسعى إلى تقويم من يربيه ويوجهه.

القدرة على النمو والاستمرار

الصفة التاسعة التي ينبغي أن تكون لدى المربي: القدرة على النمو والاستمرار:

إن بعض الناس قد يملك قدراً من العلم والثقافة والقدرات، لكنه يقف عند حد معين، وإذا كان ما يملكه من علم وفكر وقدرة وخبرات يقف عند هذا الحد؛ فإنه سيشعر بعد مرحلة بأن تلامذته ومن يتربون عليه قد تجاوزوه، وقد أدركوا ما عنده، ويتطلعون إلى ما وراء ذلك، وحينئذٍ يفتقدون الثقة به، ويشعرون أنه قد استنفذ ما لديه، واستهلك ما عنده.

إن الأحداث تتجدد، والظروف تتغير، فالأب الذي عاش في عصر سابق حينما يتعامل مع أبنائه الذين هم نتاج عصر آخر يختلف عن عصره بالكلية، وتختلف فيه أفكار الناس واهتماماتهم وعقلياتهم، حينما يأتي هذا الأب وثقافته وعقليته وعلمه لا تعدو أن تكون امتداداً للعصر السابق الذي عاشه؛ فإنه لن يستطيع أن يقدم لهذا الابن ما يحتاجه.

ولهذا ندرك فشل كثير من الآباء الخيرين الغيورين في تربية أبنائهم؛ لأنه قد توقف الأب عند عصر معين ومرحلة معينة، فقد تربى هذا الأب في بيئة وعاش في ظل وسط محدود، يوم كان يعيش في قرية محدودة حين يقول من في أقصاها كلمة يسمع من في أدناها هذه الكلمة، ومظاهر المدنية والحضارة بعيدة عنه، حيث كان الناس وقتها يعيشون في الأرياف، ويعيشون في مزارعهم، ويعيشون في أعمالهم، وفي همومهم الخاصة، بعيداً عن ضجيج وصخب المدينة، وبعيداً عن هذه المؤثرات، أما اليوم فقد أصبح الجيل أمام عالم آخر يختلف تماماً عن ذاك الجيل.

فحينما يأتي الأب ليربي ابنه بالنمط نفسه الذي تربى به، وحين يقال له: إن هذا الأسلوب لا يجدي، فيقول: هكذا تربينا، وهكذا عشنا، حينها لا تثمر تربيته.

نعم قد تكون تربيتك سليمة، وما تربيت عليه سليماً، والأسلوب الذي تلقيته كان ناجحاً، لكنه كان كذلك في وقت من الأوقات، أما هذا الوقت فله ظروف أخرى، وله حالة أخرى.

ولهذا كان الأب بحاجة إلى أن يتجاوز هذه الفجوة الحضارية، وإلا فسيشعر أنه يعيش في مأزق مع أولاده، وقل مثل ذلك حتى مع من هم دونه.

إن المعلم والمربي الذي تربى على نمط معين وعلى طريقة معينة، لا يسوغ له أبداً أن يتصور أن هذا النمط وهذا الأسلوب هو الأسلوب الناجح والمناسب لتربية الناس كلهم، فالعصر قد تغير، والظروف قد تغيرت، والعوامل قد تغيرت.

إن هذا التغير السريع المذهل الذي نراه اليوم يؤكد على ضرورة أن يكون المربي قابلاً للنمو، وقادراً على النمو، وأن يملك القابلية والقدرة، وأن يسعى دائماً إلى تطوير نفسه والمتابعة، وإلا فسيشعر بأن هذا الجيل قد تجاوزه، وسيشعر بأن هذا الجيل قد أدرك أن هذا الرجل الذي أمامه لم يعد يملك ما يقدمه لهم.

المعرفة التامة بالمتربي

الصفة العاشرة: أن يكون المربي على معرفة بمن يربيه، وعلى معرفة تامة بطبيعته وخصائصه وظروفه:

وهي قضية كثيراً ما نجهلها أيها الإخوة، فنحن نتعامل مع أطفالنا -مثلاً- ونجهل طبيعة الطفل وخصائصه، ونجهل كيف يفكر الطفل، وكيف ينظر الطفل إلى الأمور، وكيف ينظر إلى الحياة، وكيف يقيمها، ولهذا نقع في أخطاء فادحة غير مقصودة في تعاملنا مع أطفالنا، ونحن إنما أوتينا من جهلنا بهذه الطبيعة للأطفال.

وخذ على سبيل المثال مرحلة أخرى مهمة، وهي مرحلة المراهقة، وهي مرحلة من أخطر المراحل لدى الشاب والفتاة، حينما نجهل طبيعة الشاب في هذه المرحلة، وكثيراً ما تقع مشكلات من الأب أو المعلم أو المربي أو غيرهم مع هذا الشاب المراهق، والسبب أنه يجهل طبيعة هذا الشاب في هذه المرحلة، ويجهل كيف يفكر، ويجهل مشكلاته، وقل مثل ذلك في الفتاة، فحينئذٍ نصادم هؤلاء.

وكثيراً ما نسمع هذه الكلمة من الآباء والأساتذة والمربين: كان هذا الطفل وديعاً، وهادئ الطباع، ومطيعاً، ومستجيباً، ففوجئنا به إنساناً متمرداً، وإنساناً معانداً، وإنساناً مشاكساً، بدأت تظهر عليه آثار الانحراف .. إلى آخره، ونريد أن نتعامل معه باللغة نفسها، وبالمنطق نفسه، وبالأسلوب نفسه الذي كنا نعامله به حين كان طفلاً، والسبب أننا لم نفهم هذه الشخصية.

إن المراهق يحتاج إلى الإقناع، ويحتاج إلى إشباع حاجاته، ويحتاج إلى إشعاره بأنه رجل، وأنه يملك الرجولة، وحين يجد من يحترم عقله، ومن يدرك ظروفه، فإنه سرعان ما يمنحه ثقة، بل الثقة المفرطة، فيسلم نفسه له ليصنع فيه ما يشاء.

إننا نصطدم كثيراً مع أبنائنا ومع تلاميذنا في هذه المرحلة، ونحن نريد أن نرفع عليهم العصا الغليظة؛ لأننا نرى أنها هي التي تربيهم، وقد كنا نشعر أنها في مرحلة سابقة كانت أسلوباً ناجحاً معه، ونتصور أنها ستنجح معه اليوم، وهكذا.

فالمقصود -أيها الإخوة- أن معرفة المربي بمن يربيه فيما يتعلق بخصائص المرحلة التي يعيشها وطبيعتها، ومعرفته بظروفه الخاصة، من حيث كونه فلاناً من الناس، وشخصيته، وطبيعته، أو ظروفه الاجتماعية، أو مشكلاته، معرفة ذلك من الأمور المهمة التي لا يستغني عنها المربي.

القيادة

وآخر ذلك صفة أختم بها الحديث عن هذه الصفات، وهي: القيادة:

أن يكون المربي قائداً لا أن يكون آمراً، وفرق -أيها الإخوة- بينهما، فالذي يقود الناس يقنعهم.

إنك قد تستطيع أن تأمر ولدك -مثلاً- فيذهب إلى المسجد، وربما يذهب معك إلى المسجد ولا يفارقك، لكن حينما تغرس لديه حب الصلاة، وتورثها لديه، يكون ذلك شأناً آخر.

إنك تستطيع أن تأمر ولدك أن يصاحب الأخيار، وتجعله يعيش مع الأخيار، ولكن هناك فرق بين هذا وبين أن تغرس لديه حب الأخيار، وقل مثل ذلك في سائر المعاني التربوية.

إننا نستطيع أن نملي على الناس كثيراً من الأمور، فيأخذوها تقليداً، ويأخذوها بحسن ظن، لكن أن نقنعهم بها وما وراءها أهم بكثير، وأنجح وأولى، وهذا يخرج جيلاً ويخرج قادة لا أتباعاً.

هذه -أيها الإخوة- بعض الصفات التي أرى أنها مهمة، وفي الواقع هناك صفات كثيرة كنت أريد الحديث حولها، لكن الوقت ضاق، وهناك صفات قد تكون أهم من هذه الصفات، ولكن نظراً لأنها معروفة ومقررة لدى الإخوة آثرت أن أتجاوزها.

إن من أهم الصفات التي ينبغي أن تتحقق لدى المربي: الهدي والسلوك والسمت الحسن:

ذلك أن المربي يترك آثاره بهديه وسمته وسلوكه أضعاف أضعاف ما يترك بحديثه وكلامه، ولهذا أخبرنا الله تبارك وتعالى أنه جعل لنا أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، وأمرنا أن نتأسى بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل والفعل يترك أثراً في النفوس لا يتركه القول.

لقد جاء قوم أهل فقر وضعف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فرق النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى حالهم، فدخل وخرج، ثم صعد المنبر، وحث الناس على الصدقة، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (من سن سنة حسنة؛ فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).

لقد سمع الناس حديث النبي صلى الله عليه وسلم وكلامه وموعظته، ولكن ربما كان العمل في هذا الموقف وهذا الموطن من هذا الرجل -وهو دون النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً- أعظم أثراً منه؛ لأن العمل يترك من الأثر ما لا يتركه القول.

ولهذا فإننا حين نكون -أيها الإخوة- قساة القلوب، وحين نعاني من جفاف العيون، ومن موت القلوب، ومن قلة خشية الله تبارك وتعالى، ونريد أن نعظ الناس، ونريد أن نترك أثرنا على الناس، وسلوكنا لا يشهد بذلك، ولا ينطق بذلك، وحالنا مع الله تبارك وتعالى، وحالنا في سلوكنا وهدينا يخالف ما ندعو الناس إليه، إننا حينئذٍ نسعى إلى أن نبني قصوراً في الرمال، ونسعى إلى أن ننحت في البحر كما يقال.

لذا قال أحد السلف حين سأله ابنه: ما بالك إذا وعظت بكى الناس، وإذا وعظ غيرك لم يتأثر الناس؟ فقال: ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.

ولهذا كان السلف كثيراً ما يؤكدون على هذا المعنى، ويؤكدون على أن طالب العلم ينبغي أن يتعلم الهدي والسمت والسلوك من مشايخه.

يقول ابن وهب : ما تعلمت من أدب مالك أكثر مما تعلمت من علمه.

ويقول إبراهيم : كنا نأتي مسروقاً فنتعلم من هديه وسمته ودله.

وكانوا يقولون:

أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد

فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد

ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد

لقد كانوا -كما حكى ابن سيرين رحمه الله- يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

فكان أولئك المربون بحق والمعلمون بحق يتركون آثارهم على تلامذتهم بسمتهم وهديهم وسلوكهم أضعاف أضعاف ما يتركونه بتعليمهم.

وتأمل ما قاله ابن وهب ، وهو واحد من كبار تلامذة الإمام مالك المحدث الفقيه الذي كان الناس يضربون أكباد الإبل في زمنه فلا يرون إلا إمام دار الهجرة فيأتون إليه، ومع ذلك يرى أن ما لقيه وحصله من هديه وسمته وسلوكه أكثر مما تعلمه من علمه.

إذاً: فهي -أيها الإخوة- قضية مهمة ينبغي أن نعتني بها بتحقيقها في أنفسنا، وتحقيقها لدى من يتولى التربية، وحينئذٍ يشعر المربي بأنه لن يحتاج إلى مزيد من الحديث، ولن يحتاج إلى مزيد من الوعظ، ولن يحتاج إلى مزيد من النصح والتذكير، إنما حاله يذكر بهذا الأمر، وهديه وسمته وسلوكه يخبر بما وراء ذلك.

وما أقبح -أيها الإخوة- أن نرى من ينتسب للعلم الشرعي وتعليمه للناس، أو يتصدى لوظيفة شرعية، ثم نرى أثر المعصية على وجهه، لا تفارقه أينما ذهب! إنها -أيها الإخوة- صورة من صور إعلان التناقض بين القول والعمل، إن هذا المرء ليقول للناس بلسان حاله قبل أن يقول بلسان مقالة: إنني أقول لكم قولاً، وعملي وفعلي وسلوكي ينطق بخلافه، فيهدم هذا المرء بعمله وسلوكه أضعاف ما يبنيه بقوله ونصحه وتوجيهه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2584 استماع
الشباب والاهتمامات 2461 استماع
وقف لله 2319 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2187 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2169 استماع
الطاقة المعطلة 2115 استماع
علم لا ينفع 2082 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2071 استماع