أدب التعامل مع الكفار


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

أما بعد:

فقد كثر سؤال الإخوة في الحلقات السابقة عن كثير من الأحكام التي تتعلق بأدب التعامل مع الكافرين، والسلوك الذي ينبغي أن يسلكه المسلم مع الكفار باختلاف أنواعهم، وكنت أرجئ جميع هذه الأسئلة إلى مثل هذه الفرصة حتى نحاول أن نستوفي الموضوع من شتى جوانبه.

ووجدت دراسة من أفضل الدراسات في هذا الموضوع، سبق أن مررنا بشيء يسير منها في أثناء فتنة الخليج، وهي في كتاب الدكتور عبد الله بن إبراهيم بن علي الطريقي المسمى "الاستعانة بغير المسلمين في الفقه الإسلامي".

ونحن نعلم أن دين الإسلام هو الرسالة الخاتمة الكاملة، جاء الإسلام بتشريع دقيق واف شمل كل أمور الحياة البشرية في الدين والدنيا، ومن جملة ما شمله الإسلام: تنظيم العلاقات بين الناس بعضهم ببعض، سواء كان بين الراعي والرعية، بين الوالد وأولاده، بين الزوج وزوجته، بين الأقارب أو الجيران، أو بين المسلم والمسلم، أو بين المسلم وغير المسلم، أو بين الدولة وغيرها من الدول في حالتي السلم والحرب.

لقد وضع الإسلام لكل ذلك حدوداً وشرع شرائع وأحكاماً بينة، ولعل من أهمها هي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، فإننا إذا تحرينا وجدنا أن هذه المسألة قامت عليها أدلة كثيرة جداً.

قال بعض العلماء: إنها أعظم مسألة قامت عليها أدلة من القرآن والسنة بعد مسألة توحيد الله تبارك وتعالى، وسوف نجتزئ من الفصل الأول من الرسالة من الباب الأول: الأسس العامة في علاقة المسلمين بغيرهم.

وقد ذكر الدكتور الطريقي حفظه الله بعض الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقة بين المسلمين وغيرهم.

الأساس الأول: سماحة الإسلام والمظاهر الإنسانية.

سبق التنبيه على استعمال كلمة الإنسانية في نفس هذا السياق، وأن كلمة الإنسانية أحياناً لا تذكر في سياق المديح، فيكون بذلك إذاً مخالفة للقرآن الكريم، أو مخالفة لعادة القرآن وألفاظ القرآن؛ لأن القرآن لم يستعمل لفظ الإنسان إلا في سياق الذم، بحيث يشير القرآن إلى أن هذا المخلوق البشري من حيث هو مخلوق قبل أن ينتفع بهداية الله تبارك وتعالى إياه، فالمخلوق العاري عن التوفيق والهداية يسمى إنساناً، ولذلك تجد صفاته دائماً مذموماً؛ لأنه لم ينتفع بعد ولم يستجب لهداية الله تبارك وتعالى، لم يهتد ولم يوفق لذلك، فانظر إلى أي صفة للإنسان في القرآن: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]، وقوله: خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء:37] وقوله: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6]، إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا [الأحزاب:72] وهكذا.

الأساس الثاني: أن الإسلام دين خاتم عالمي.

الأساس الثالث: العدل.

الأساس الرابع: الوفاء بالعهود والمواثيق.

الأساس الخامس: منع الفساد في الأرض.

الأساس السادس: منع موالاة الكفار.

الأساس السابع: القاعدة في معاملة الكافر وتوثيقه وقبول خبره.

سماحة الإسلام ومظاهر ذلك:

الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة، فلا عسر فيه ولا أغلال ولا آصار، هذه الميزة خاصة بدين الإسلام أنه دين يسر قال عز وجل: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] فهذه الميزة اختصت بها الأمة المحمدية، لم يشاركها في هذه الميزة أمة من الأمم أو دين آخر، حتى كانت الأمم السابقة تكلف بتكاليف عسيرة، وتفرض عليها فرائض شديدة، وربما حظر الله عليها بعض المباحات والطيبات، وهذا ليس من طبيعة هذا الدين المنزل من عند الله تبارك وتعالى؛ ولكن لأن بعض تلك الأمم كانت مجبولة على العناد، والشقاق، والشكوك، وكثرة السؤال، والتعنت في معاملة أنبيائهم، فكانوا يشددون على أنفسهم فيشدد الله تبارك وتعالى عليهم، كما حصل مع بني إسرائيل في قصة البقرة التي أمروا بذبحها؛ لهذا جازاهم الله عز وجل بأن عسر عليهم بعض هذه الأمور جزاء تعنتهم وعتوهم، ولا يظلم ربك أحدا.

والدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تبارك وتعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا [النساء:160] فحصل تحريم لبعض الطيبات لأمرين: الأول: ظلم من الذين هادوا وهم اليهود لعنهم الله.

الثاني: بصدهم عن سبيل الله تبارك وتعالى كثيراً.

أما هذه الأمة المرحومة، الأمة المحمدية، الأمة الوسط، فبما رحمة من الله سمعت وأطاعت واستجابت لكل ما طلب منها، فخفف الله تبارك وتعالى عنها، ووضع عنها الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة، ولهذا فالمسلم يدعو دائماً بهذا الدعاء العظيم، الذي ختمت به سورة البقرة: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286]، جاء في الحديث الصحيح: (أن الله جل وعلا قال: قد فعلت) يعني: استجبت دعاءكم ووهبتكم ذلك الذي سألتموني إياه.

فرفع الآصار والأغلال والتخفيف هذا من رحمة الله عز وجل بهذه الأمة؛ لكونها الأمة الخاتمة، صاحبة الرسالة الخاتمة إلى أن تقوم الساعة.

فاختصت هذه الأمة بكثير من هذه الخصائص التي يتجلى فيها جانب الرفق والسماحة، فمثلاً: بعض الأحكام في الأمم السابقة كأحكام الطهارة كان عند تلك الأمم إذا أصابت الثوب نجاسة فإنه يحرق، أما في شريعة الإسلام فمعلوم ما في ديننا بالذات من التيسير الكثير في شأن الطهارة والعبادات ومن رفع الحرج بحيث أنه متى ضاق الأمر اتسع.

كذلك كانوا لا يعذرون بالإكراه، هذه الأمة عذرت بالإكراه يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فهذا يدل على أن هذا من خصائص هذه الأمة، في حين أن الأمم السابقة كما في قصة أصحاب الكهف: إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [الكهف:20] نفى عنهم الفلاح إلى الأبد، هذا يبين أنه لم يكن لهم رخصة في النطق بكلمة الكفر إما أن يثبتوا فيفلحوا أو يرتدوا فيهلكوا.

أما الترخيص في النطق بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، فهي من خصائص هذه الأمة المرحومة، فكما هو معلوم من قوله تبارك وتعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106] وهكذا كثير من الأحكام تولى فيها سبحانه رفع الإصر والأغلال عن هذه الأمة المرحومة، يقول عليه الصلاة والسلام: (دعوني ما تركتكم، إنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم)، وقال عليه الصلاة والسلام: (إني أرسلت بحنيفية سمحة) فالحنيفية: هي الميل عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام.

من هذه القاعدة انطلق الإسلام، وشمل بيسره ورفقه الناس حتى غير المسلمين، فقد كانت بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم رحمة للعالمين، كما وصفه الله عز وجل بقوله: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107] فبعثته شملت كل العالمين حتى عالم الطيور وحتى عالم الأسماك، وحتى عالم الكفار والمشركين، فلكل أمة نصيب من صفة الرحمة التي اختص بها رسول الرحمة صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

تسامح الإسلام حتى مع هؤلاء الكفار غير المسلمين في كثير من القضايا والأحكام، ومنحهم كثيراً من الحقوق حتى أصبحت هذه الأمور قضايا عامة، وكل هذا بفضل رحمة الله بعباده ولطفه بهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطف الوحوش على أولادها، وأخر الله تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة) رواه مسلم .

من أهم جوانب التسامح في هذا الدين مع غير المسلمين: مشروعية الرحمة العامة، هنالك رحمة عامة يرحم بها المسلم الخلق كافة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن الله لا يضع رحمته إلا على رحيم، قالوا: كلنا يرحم يا رسول الله! قال: ليس رحمة أحدكم صاحبه، ولكن يرحم الناس كافة) فأول مظاهر هذا التسامح الرحمة العامة؛ بل إن من أسماء الله عز وجل الحسنى المقدسة: اسمه عز وجل الرحمن واسمه الرحيم، ومعلوم اختلاف العلماء في تفسير هاتين الصفتين، وكيف أن الرحيم يختص بالمؤمنين، والرحمن رحمن الدنيا والآخرة يشمل كل المخلوقات، فالرأفة والرحمة من صفات الله عز وجل. أيضاً أرسل الله تبارك وتعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق، قال عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ومن هنا حض الإسلام على هذه الرحمة العامة للخلق كافة ورأف بهم، فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس)، الناس بكل أبعادها، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: (من لا يرحم لا يرحم). قال ابن بطال في هذا الحديث: فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك. إذاً: الرحمة شاملة لكل الخلق وليست خاصة بالمؤمنين أو بالمسلمين، وسبب هذه الرحمة ظاهر؛ فإن الحياة بمعنى الحيوانية في الشيء، فكلمة الحيوان مذكر الحياة، والدليل قوله تعالى: وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ [العنكبوت:64] أي: هي الحياة الحقيقية الباقية. وعندما نقسم المملكة الحيوانية يدخل فيها الإنسان، ويدخل فيها غيره من الدواب والطيور وغير ذلك، فوجود معنى الحيوانية في الشيء سواء كان هذا الشيء إنساناً أم حيواناً من أسباب الدعوة إلى الرحمة، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هل في الإحسان إلى البهائم أجر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لك في كل ذات كبد رطبة أجر) ومعلوم حديث الرجل الذي رأى الكلب وهو يلهث أو يلعق التراب من شدة العطش، فنزل البئر وأحضر له الماء في نعله أو في موقه فسقاه، فغفر الله له بذلك. إذاً: الرحمة العامة لكل المخلوقات، سواء كان مسلماً أو كافراً أو من البهائم: (في كل كبد رطبة أجر). أيضاً وجود الكفر أو الفسوق أو العصيان في واحد من الناس هو أمر أصلاً يدعو إلى الرحمة والتأسف، أنت إذا تذكرت ما ينتظره من العذاب الأليم تشعر بالرحمة له والشفقة عليه من هذا العذاب، وتتأسف على حاله؛ لأنه إنسان مبتلى، فالمبتلى لا ينبغي إظهار التعالي عليه، بل على المسلم التقي الذي عافاه الله عز وجل أن يحمد ربه على العافية: كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا [النساء:94] أي: كذلك كنتم قبل أن تدخلوا في الإسلام. فالإنسان المسلم لا ينظر إلى أن هذه الهداية أو التوفيق جاءت من كده وكدحه، إنما هي برحمة الله إياه وبتوفيقه الذي حرمه ذلك الكافر، فلا تنظر للكافر بتعالٍ، فإنما الأعمال بالخواتيم، لكن انظر له بعين الرحمة العامة، فتحمد ربك على العافية وترحم هذا المبتلى، وما معنى رحمته؟ معنى رحمته أن تنصحه وتدعوه إلى الحق بالأسلوب المناسب. روى الترمذي عن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش)، وكما ذكرنا من قبل فضيلة الدعاء (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) فالإنسان لو دعا بهذا الدعاء حينما يرى مبتلى بأي مرض من الأمراض، وتذكره ووفقه الله لاستحضاره ساعتها بإخلاص واستوفت شروط الإجابة، فإن الجائزة هي أن يعافى من هذا المرض مدة حياته كلها، فانظر إلى هذه الرحمة والناس في غفلة عنها. عندما ترى واحداً مشلولاً، أعمى، مريضاً بالسرطان، مريضاً بأي نوع من الأمراض، فإذا رأيته بهذا المرض وقلت هذا الدعاء، فهذا ضمان وتأمين من النبي عليه الصلاة والسلام أنك تعافى من هذا المرض ما عشت. أيضاً صاحب البلاء، لا ينبغي أن نقصر هذه الرحمة على البلاء الذي يتبادر إلى أذهاننا كفقدان الصحة والعافية وغير ذلك، لكن من أشد البلاء الذي يبتلى به الإنسان ويصاب به المصيبة في دينه، وأخطر ذلك الوقوع في الكفر والعياذ بالله، كذلك البلاء بالمعاصي، كأن ترى حاكماً رئيساً أو ملكاً أو قائداً عسكرياً كبيراً وكل هؤلاء قد سخروا سلطانهم في الصد عن سبيل الله تبارك وتعالى، والتعالي على خلق الله والتكبر عليهم، وتعذيب الناس وأذيتهم في دينهم، وصدهم عن دين ربهم، فلا تنظر إلى ما هم فيه من المناصب المرموقة، أو أن معهم مالاً أو كذا وكذا من الأمور الدنيوية، وإنما تنظر إلى البلاء الحقيقي الذي هم فيه، وتحمد الله أن عافاك من حالهم، وجعلك مسلماً مؤمناً موحداً تقياً. فالإنسان المسلم يستحضر نعمة العافية من البلاء إذا رأى مكاساً، وإذا رأى أي واحد من الظلمة. لماذا لا نتذكر الداء فقط إلا عند الأمراض البدنية؟! إذا رأيت من يضيع وقته في الأفلام والتلفاز والمسرحيات والمباريات وكل هذه الضلالات، فإن عليك أن تستحضر نعمة الله عليك أن صرف عنك هذه الأشياء في حين زينها لغيرك: زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]، فتحمد الله أن عافاك من هذا وجعلك من أهل تعمير المساجد، وتعمير حلق الذكر، وطاعة الله تبارك وتعالى والدعوة إليه، فهذه كلها من النعم وعكسها من البلاء، فينبغي إذا رأينا صاحب البلاء أن نقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به. وهل يظهر الإنسان هذا الدعاء ويجهر به أمام المبتلى؟ يذكر العلماء في الآداب الشرعية: أن البلاء إذا كان في الدين، كالمعاصي والكفر والعياذ بالله أو غير ذلك، ويرجى من الجهر به أن ينزجر ذلك الشخص المبتلى بالمعصية أو بالكفر أو المخالفة فلا بأس، لكن لا على سبيل الشماتة ولا على سبيل التعالي، وإنما استحضار لنعمة الله، وطلب للعافية، ثم تذكير لهذا المبتلى بالمعصية لعله إذا سمعه ينزجر. إذاً: إذا كان يرجى من وراء الجهر بهذا الدعاء أن ينزجر هذا المبتلى فلا بأس أن تجهر بهذا الدعاء، أما إذا كان ذلك يدعو إلى إصراره فلا، وكذلك إذا كان الإنسان المبلتى مريضاً فلا تسمعه هذا الدعاء؛ لأن هذا ليس من الأدب الشرعي، لكن تسر به في نفسك حتى لا تؤذيه، فهذا مما ينبغي أن يلتفت إليه، وهذا الحديث رواه الترمذي وابن ماجة ورمز له السيوطي بالحسن: (من رأى صاحب بلاء فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً، إلا عوفي من ذلك البلاء كائناً ما كان ما عاش). إذاً: هذه فرصة عظيمة جداً، وفعلاً كما قال عليه الصلاة والسلام: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) ، وهذا مما يلفت أنظارنا إلى أن كثيراً من أبواب الخير مفتوحة، ولكن الناس في غفلة عنها، ولذلك يحرمون، فمثل هذا هو محض توفيق من الله، قد تجد الناس تتذكر هذا الدعاء، لكن ليس كل الناس يكرمهم الله باستحضاره: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46]. فمن توفيق الله عز وجل للعبد أن يلهمه أن يستحضر هذا الدعاء في هذا الموضع، حتى يمتن الله عليه بالمعافاة من هذا الداء. إذاً: دائماً نكرر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أعجز الناس من عجز عن الدعاء) بتحريك الشفتين بألفاظ قليلة سهلة ميسورة في وقت قصير تنال أعظم المطالب في الدين والدنيا والآخرة، تنال الجنة والفردوس الأعلى بالدعاء، ومن عجز عن الدعاء مع سهولته وعظم الثمرة المرجوة من ورائه؛ فهذا أعجز الناس لا شك في ذلك.

رحمة الداعية بمن يدعوهم إلى الله تعالى

الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه هو المثل الأعلى في مجال رحمة الخلق، فينبغي أن تكون نظرتنا إلى من ندعوهم إلى الإسلام نظرة الرحمة العامة، نظرة الرحمة والشفقة لا نظرة الاستعلاء أو التكبر أو التشفي أو غير ذلك، بل إذا تأملنا القرآن الكريم فسنجد أنه قد بلغ من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته -أمة الدعوة وتشمل الكفار أيضاً -وصل حزنه وشفقته عليهم ونصيحته لهم إلى أنه كاد أن يهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] أي: مهلك نفسك. عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أنت تهلك نفسك أسفاً عليهم، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، فالداعية إلى الله المقتدي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرحم الناس ويهتم بهم، لكن لا ينبغي أن تصل به هذه الرحمة وهذا الاهتمام إلى حد الأسى وتعذيب النفس وإرهاقها، لكن يعزي نفسه بأن الهداية بيد الله عز وجل، وما على الداعي إلا البلاغ المبين، ورسول الله عليه الصلاة والسلام الذي بعث رحمة للعالمين بالرغم مما كان يعانيه في سبيل الله من المشقة والجهد والتحدي، لما طُلِبَ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين أن يهلكهم الله وأن ينزل عليهم بأسه وعقابه، ماذا كان جوابه عليه الصلاة والسلام؟ يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم : (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، -فأخذ يردهن بيده وهن يتقحمن في النار، وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) رغماً عنه عليه الصلاة والسلام، يعني: كأن هناك ناراً والناس واقفون على شفير هذه النار ويقذفون أنفسهم فيها، وهو رحمة بهم يريد أن ينجيهم، فيمسك ما أمكنه أن يمسك، يمسك هذا من ذيل ثوبه، وهذا من أكمامه فيحاول أن يبعدهم عن النار رحمة بهم ونصيحة لهم، فمن هلك يهلك رغماً عنه، الذي يستطيع أن ينجيه يجتهد في ذلك، لكن ما الحيلة فيمن قضى الله عليهم بالشقاء والعذاب والتعاسة؟! إذاً: المسلم هو رحمة ورأفة وعطف وتواضع، وليس أبداً بحال من الأحوال هذا الوضع للمسلم هو عنوان الاستكانة أو الذل أو الضعف، لكن هذه الرحمة هي الرحمة التي هي طبع الأقوياء الأعزاء بالله وبدين الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]. فإن قيل: وصف الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه بأنهم أشداء على الكفار غلاظ عليهم، هل يتنافى هذا مع الرحمة؟ فالجواب: أن هذه الآية يفسرها قوله تبارك وتعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:7-9]. هذه الآيات توضح لنا أن من أبدى عداء للمسلمين وأضمر شراً لهم، فلابد أن يكون المسلمون أشداء عليهم جزاءً وفاقاً، فهذا هو المقصود بقوله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29]، وبقوله عز وجل: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:9]، فالكفار الذين أمرنا أن نكون أشداء عليهم هم من جاءت صفاتهم في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:9]، مقاتلة المسلمين، فتنتهم عن دينهم، الاعتداء على المسلمين في ديارهم وإخراجهم منها، كذلك مظاهرة هؤلاء ومساعدتهم، أي: من لم يفعل بنفسه هذه الأشياء من الكفار لكنه عاون الكفار الآخرين وساعدهم على فعل هذه الجرائم فهو أيضاً له حكمهم. ثم إن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، فالطبيب الذي يأتيه المريض الذي حصلت به مثلاً الغرغرينة، إذا تركه ولم يبتر هذا العضو الميت من بدنه فسوف يزحف هذا المرض على بدنه ويتلفه كله، فتضيع حياته، فمن الرحمة بهذا المريض بتر هذا العضو الميت وفصله عن جسده، حتى ينقذ باقي الجسد، فكذلك أيضاً مشرط الجراح حينما يعمل في جسم الإنسان من أجل إنقاذه من خطر أكبر، فهذا في الحقيقة ظاهره أنه مؤلم، لكن هو في الحقيقة سبب إلى العافية وسبب إلى الرحمة، فالشدة لا تتنافى مع الرحمة، والأب الرحيم المحب لأولاده قد يشتد عليهم، لا يشتد من منطلق أنه يريد أن يقضي عليهم أو يغلظ عليهم، لكن يشتد ويتحكم في أبوته وعاطفته التي تدعوه إلى عدم الشدة، ويعمل عقله ويريد مصلحة هذا الولد حتى يقوّم خلقه، وحتى يستفيد من التجارب، وحتى يحسن تربيته وأخلاقه، فإنه ربما يحتاج إلى الشدة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في مشكلة ضرب الأولاد. فالشاهد أن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم فهذه الشدة من أجل مصلحة الإنسان نفسه، أما من أبدى تعاطفاً وسلماً من الكفار، أو كان له عهد وذمة، فالمشروع في حقه أن يحسن إليه، علاوة على هذه الرحمة، ولعل هذا ما أشار إليه قوله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8]، وكما قال عز وجل: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61] فهذا فيما يتعلق بالمظهر الأول من مظاهر تسامح الإسلام مع الناس كافة، وهو مشروعية الرحمة العامة، وهي التي يحتاج إليها كثير من الناس، مثلاً: الطبيب إذا وجد مريضاً من الكفار يحتاج إلى مساعدته أو إنقاذه، ما لم يكن هذا الرجل حربياً معادياً للإسلام في وقت من الأوقات التي ذكرناها آنفاً؛ فإنه يرحم بالرحمة العامة، ولا يتحرج الطبيب المسلم من معالجته من باب أنه ذو كبد رطبة، وأنه مخلوق فيه روح، وهذه حرمة تجعل له حقاً أو نصيباً في الرحمة العامة ما لم يكن محارباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته لقومه هو المثل الأعلى في مجال رحمة الخلق، فينبغي أن تكون نظرتنا إلى من ندعوهم إلى الإسلام نظرة الرحمة العامة، نظرة الرحمة والشفقة لا نظرة الاستعلاء أو التكبر أو التشفي أو غير ذلك، بل إذا تأملنا القرآن الكريم فسنجد أنه قد بلغ من شفقته عليه الصلاة والسلام على أمته -أمة الدعوة وتشمل الكفار أيضاً -وصل حزنه وشفقته عليهم ونصيحته لهم إلى أنه كاد أن يهلك نفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] أي: مهلك نفسك. عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6] أنت تهلك نفسك أسفاً عليهم، وفي الآية الأخرى يقول عز وجل: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، فالداعية إلى الله المقتدي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم يرحم الناس ويهتم بهم، لكن لا ينبغي أن تصل به هذه الرحمة وهذا الاهتمام إلى حد الأسى وتعذيب النفس وإرهاقها، لكن يعزي نفسه بأن الهداية بيد الله عز وجل، وما على الداعي إلا البلاغ المبين، ورسول الله عليه الصلاة والسلام الذي بعث رحمة للعالمين بالرغم مما كان يعانيه في سبيل الله من المشقة والجهد والتحدي، لما طُلِبَ من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو على المشركين أن يهلكهم الله وأن ينزل عليهم بأسه وعقابه، ماذا كان جوابه عليه الصلاة والسلام؟ يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في صحيح مسلم : (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة) صلى الله عليه وآله وسلم. ويقول صلى الله عليه وسلم: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد ناراً فجعل الجنادب والفراش يقعن فيه، -فأخذ يردهن بيده وهن يتقحمن في النار، وأنا آخذ بحجزكم من النار وأنتم تفلتون من يدي) رغماً عنه عليه الصلاة والسلام، يعني: كأن هناك ناراً والناس واقفون على شفير هذه النار ويقذفون أنفسهم فيها، وهو رحمة بهم يريد أن ينجيهم، فيمسك ما أمكنه أن يمسك، يمسك هذا من ذيل ثوبه، وهذا من أكمامه فيحاول أن يبعدهم عن النار رحمة بهم ونصيحة لهم، فمن هلك يهلك رغماً عنه، الذي يستطيع أن ينجيه يجتهد في ذلك، لكن ما الحيلة فيمن قضى الله عليهم بالشقاء والعذاب والتعاسة؟! إذاً: المسلم هو رحمة ورأفة وعطف وتواضع، وليس أبداً بحال من الأحوال هذا الوضع للمسلم هو عنوان الاستكانة أو الذل أو الضعف، لكن هذه الرحمة هي الرحمة التي هي طبع الأقوياء الأعزاء بالله وبدين الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29]. فإن قيل: وصف الله محمداً صلى الله عليه وآله وسلم وصحبه بأنهم أشداء على الكفار غلاظ عليهم، هل يتنافى هذا مع الرحمة؟ فالجواب: أن هذه الآية يفسرها قوله تبارك وتعالى: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:7-9]. هذه الآيات توضح لنا أن من أبدى عداء للمسلمين وأضمر شراً لهم، فلابد أن يكون المسلمون أشداء عليهم جزاءً وفاقاً، فهذا هو المقصود بقوله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ [الفتح:29]، وبقوله عز وجل: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:9]، فالكفار الذين أمرنا أن نكون أشداء عليهم هم من جاءت صفاتهم في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:9]، مقاتلة المسلمين، فتنتهم عن دينهم، الاعتداء على المسلمين في ديارهم وإخراجهم منها، كذلك مظاهرة هؤلاء ومساعدتهم، أي: من لم يفعل بنفسه هذه الأشياء من الكفار لكنه عاون الكفار الآخرين وساعدهم على فعل هذه الجرائم فهو أيضاً له حكمهم. ثم إن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، فالطبيب الذي يأتيه المريض الذي حصلت به مثلاً الغرغرينة، إذا تركه ولم يبتر هذا العضو الميت من بدنه فسوف يزحف هذا المرض على بدنه ويتلفه كله، فتضيع حياته، فمن الرحمة بهذا المريض بتر هذا العضو الميت وفصله عن جسده، حتى ينقذ باقي الجسد، فكذلك أيضاً مشرط الجراح حينما يعمل في جسم الإنسان من أجل إنقاذه من خطر أكبر، فهذا في الحقيقة ظاهره أنه مؤلم، لكن هو في الحقيقة سبب إلى العافية وسبب إلى الرحمة، فالشدة لا تتنافى مع الرحمة، والأب الرحيم المحب لأولاده قد يشتد عليهم، لا يشتد من منطلق أنه يريد أن يقضي عليهم أو يغلظ عليهم، لكن يشتد ويتحكم في أبوته وعاطفته التي تدعوه إلى عدم الشدة، ويعمل عقله ويريد مصلحة هذا الولد حتى يقوّم خلقه، وحتى يستفيد من التجارب، وحتى يحسن تربيته وأخلاقه، فإنه ربما يحتاج إلى الشدة، كما سبق أن ذكرنا ذلك في مشكلة ضرب الأولاد. فالشاهد أن الشدة لا تتنافى مع الرحمة، كما قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم فهذه الشدة من أجل مصلحة الإنسان نفسه، أما من أبدى تعاطفاً وسلماً من الكفار، أو كان له عهد وذمة، فالمشروع في حقه أن يحسن إليه، علاوة على هذه الرحمة، ولعل هذا ما أشار إليه قوله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8]، وكما قال عز وجل: وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأنفال:61] فهذا فيما يتعلق بالمظهر الأول من مظاهر تسامح الإسلام مع الناس كافة، وهو مشروعية الرحمة العامة، وهي التي يحتاج إليها كثير من الناس، مثلاً: الطبيب إذا وجد مريضاً من الكفار يحتاج إلى مساعدته أو إنقاذه، ما لم يكن هذا الرجل حربياً معادياً للإسلام في وقت من الأوقات التي ذكرناها آنفاً؛ فإنه يرحم بالرحمة العامة، ولا يتحرج الطبيب المسلم من معالجته من باب أنه ذو كبد رطبة، وأنه مخلوق فيه روح، وهذه حرمة تجعل له حقاً أو نصيباً في الرحمة العامة ما لم يكن محارباً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

المظهر التالي من مظاهر سماحة الإسلام : مشروعية البر والإحسان إلى المسالمين من الكفار، فالإسلام حث على البر والإحسان وبذل المعروف والنصح لجميع الناس إلا من حارب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتربص بالمسلمين الدوائر، وهؤلاء هم الذين يسمون بالحربيين، فمن لم يكونوا حربيين يجوز أن يبروا وأن يسالموا؛ لأن الإسلام لا يمانع من برهم والعطف عليهم ماداموا مسالمين موادعين، كحال أهل الذمة الذين لهم عهد مع الخليفة أو الحاكم المسلم، فتراعى ذمتهم ويحسن إليهم، كذلك أيضاً أهل الصلح ونحوهم، يقول تبارك وتعالى: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8] * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الممتحنة:9].

يقول شيخ المفسرين الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، لأن الله عز وجل عمهم في الحكم، وذلك بقوله: الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ [الممتحنة:8] لأن (الذين) اسم موصول صيغة عموم، فتعم جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصص به بعضاً دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ.

يقول الشوكاني أيضاً حول هذه الآية: ومعنى الآية: أن الله سبحانه لا ينهى عن بر أهل العهد من الكفار، الذين عاهدوا المؤمنين على ترك القتال، وعلى ألا يظاهروا الكفار عليهم.

فخلاصة الكلام: الإحسان وحسن الخلق وبذل المعروف مرغوب لكل أحد ولو كان لغير المسلمين، يقول ابن المرتضى اليمني : المخالفة والمنافعة وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف ونحو ذلك يستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذمة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب.

يعني: إظهار المودة للكافر الحربي مما يجعلك في صورة المتذلل له المضطهد له حتى لا يؤذيك، أو يؤدي إلى نوع من الاعتزاز على المسلم فمثل هذا لا يشرع، لكن فيما عدا ذلك كما أشرنا من قبل أن التسامح الإسلامي هو تسامح القوي، ورحمة الإسلام رحمة العزيز بلا ذل ولا هوان.

فإذاً: حسن الخلق مطلوب مع كل الناس، بعض الناس يتكلف إساءة الخلق مع الكافر غير الحربي، يظن أن هذا هو حقيقة الولاء والبراء، لكن إذا تأملنا موقف موسى عليه السلام من فرعون، وفرعون لا يرتاب أحد في أنه من أشد الناس كفراً، وأنه قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24] ومع ذلك أمر الله عز وجل موسى وهارون أن يقولا له قولاً ليناً قال عز وجل: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، فإلانة القول وحسن الأسلوب في الكلام والأدب وحسن الخلق هذا مرغوب مع كل أحد.

أقول: وهذا القيد الذي ذكره ابن المرتضى قيد في محله، ففعل البر كله لابد أن يكون من يد عليا عزيزة، فإذا كان يفضي إلى ذل واستكانة فلا ينبغي فعله لغير المسلم.

إن من أهم الذين يتعين برهم والإحسان إليهم من غير المسلمين هم الوالدان، ثم الأقربون على حسب درجات قربهم، يقول الله عز وجل مقرراً حق الوالد المشرك: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] وإن كان هذا الوالد المشرك، لم يكتف بكونه مشركاً، ولم يكتف بدعوة ابنه إلى الشرك فقط، بل إنه يجاهده حتى يشرك بالله، ومع ذلك حفظ الله لهذين الأبوين الكافرين حقهما: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، فهذا فيه تعظيم شديد جداً لحق الوالدين المسلمين، إذا كان هذا مع الكافر فكيف بالوالدين المسلمين؟!

ثبت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قدمت أمي علي وهي راغبة -وهي مشركة- أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) (قدمت أمي علي راغبة) أي: ترغب صلتي، أو ترغب أن تسألني شيئاً من المال، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله عنها، فأم أسماء هي قتيلة ، قدمت من مكة إلى المدينة حتى تصل بنتها.

قوله (راغبة) إما في الصلة أو في أنها تسألها شيئاً. (أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك)، فصلة الرحم هدف متفق عليه، صلة الرحم مأمور بها لكل الأقارب أيضاً، وإن كانوا غير الأبوين كما قال الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، هذا هو المقصود من قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به) حين يقول أحدكم للآخر: أسألك بالله أو أسألك بوجه الله.

قال ابن العربي رحمه الله تعالى: واتفقت الملة أن صلة ذوي الأرحام واجبة، وأن قطيعتها محرمة، ولتأكيد صلة الرحم المؤمنة ذكر الفضل في صلة الرحم الكافرة، وهذا يسمى: قياس الأولى أو القياس الجلي، إذا كان هذا في حق الرحم الكافرة فأولى أن يكون الصلة في حق الرحم المؤمنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم أبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، مع أن هؤلاء من أقاربه، لكن لا يعدهم له أولياء، وإنما يصلهم لأجل صلة الرحم فقط، (ولكن لهم رحم أبلها ببلاها).

فصلة الرحم من أبرز جوانب البر والإحسان المقدمة لغير المسلمين، لكن بشرط أن لا يكون الأب أو الأم أو الرحم محارباً لدين الإسلام معارضاً محاداً لله ورسوله وللمؤمنين، فمثل هذا لا يلزم بره ولا صلته.

أما موضوع حقوق الجار فهو موضوع مستقل بذاته والأدلة فيها كثيرة جداً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) أي من شدة حق الجار ووجوب حفظ حقه.

فحسن الجوار من علامات الإيمان أو من شعب الإيمان بالله واليوم الآخر، وجاء في الأثر (أن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما دخل بيته فوجد أهل بيته قد ذبحوا ذبيحة، فسألهم: هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ تكلم بلهجة الغضبان عليهم، هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ وظل يعنفهم على عدم إعطائهم الجار اليهودي) هذه صورة من صور الإحسان إلى الجار غير المسلم، إعطاؤه أو إهداؤه شيئاً من الطعام.

إن الإحسان لغير المسلم قد يكون بمعنى المواساة، إذا أصابته مصيبة فيواسيه فيها كأن يموت ابنه أو أبوه، فإنه يعزيه ولا يدعو له بالرحمة؛ لأنه لا يستحق الرحمة، الرحمة في الآخرة.

كذلك أيضاً أقل الإحسان للجار أن تكف أذاك عنه.

أيضاً كذلك حسن العشرة.

كذلك نصرته إن كان صاحب حق وهكذا، كما أن الإخوة الملتزمين يتميزون في مظهرهم بإعفاء اللحية وبالقميص غير المسبل، وبالمحافظة على الشعائر الإسلامية كصلاة الجماعة وغيرها، فينبغي أيضاً أن يتميز المسلمون الملتزمون بحفظ الجوار، وذلك بأن يحسنوا إلى جيرانهم ولا يسيئوا إليهم، هذا أيضاً من الشعائر الإسلامية التي ينبغي أن يتميز بها الملتزمون بدينهم، وينبغي أيضاً أن يتذكر الإخوة الملتزمون حكم الجوار وحكم الإحسان إلى جيرانهم.

فالبر والإحسان إلى أهل الذمة ونحوهم والعطف عليهم، سواء كانوا أقارب أم أجانب لابد منه، ما لم يكن المحسن إليه منهم حربياً، ولابد أيضاً أن نستذكر شيئاً آخر: هو أن الإحسان إليهم والبر بهم وأداء المعروف إليهم لا يعني بأي حال من الأحوال حبهم ولا مودتهم ولا موالاتهم، فهناك فرق شاسع بين الإحسان وبذل المعروف لهم كما في قصة أم أسماء التي ذكرناها، وفيها الأمر بالصلة والإحسان، وهذا لا يؤدي لإإلى محبتهم أو موالاتهم التي نهى الله تبارك وتعالى عنها.

فالمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يحب كافراً، أما من كان يحب كافراً فذاك ضعف في إيمانه وآفة ومرض في قلبه فالذي يجد في قلبه حباً للكافر ورضاً عنه ومودة قلبية له فهذا لابد أن يصحح إيمانه ويصحح إسلامه من جديد، فكل ما ذكرنا لا علاقة له بالمودة والمحبة والموالاة.

يقول الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] إلى آخر الآية.

قال: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة عنهم.

الموالاة والنصرة والود والحب هذا للمؤمن فقط، لكن الكافر حتى وإن كان أباك أو أخاك أو أمك فهو ليس من أهلك، كما قال عز وجل: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] أو (إنه عَمِلَ غيرَ صالح) كما في قراءة أخرى، قوله: (ليس من أهلك) ليس معناه كما يفهم بعض الناس أنه ولد زنا؛ لأنهم يربطون هذه الآية بقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] كلا، لا يمكن أبداً لأزوج الأنبياء أن يخنّ بالفسق والفجور، لا يمكن ذلك أبداً؛ لأن الأنبياء منزهون من أن يقع ذلك من زوجاتهم، كما قال عز وجل: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26] أي: الطيبات بالصفات الحميدة من العفة والطهر للطيبين.

فالمقصود من خيانة زوجة لوط هو أنها كانت تدل قومها على ضيفانه، ومعونتهم على ما كانوا عليه من الحال الفاسدة أو الشرك والكفر، لكن لا يمكن أبداً أن يحصل الزنا من زوجة نبي؛ لأن هذا طعن في النبي نفسه، والله تعالى حفظ أنبياءه من أن تفجر نساؤهم بهذه الأفعال.

الشاهد من الكلام أن ابن نوح هو ابنه من صلبه، وذلك لمن تأمل قوله عز وجل: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] أي: من صلبي ومن عشيرتي، وقد وعدتني من قبل أنك ستنجيني وأهلي. فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ [هود:45] * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] فأهلك هم أهل الإيمان وأهل التقوى والإسلام، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46].

البر والإحسان إلى الأقارب إذا كانوا غير مسلمين

إن من أهم الذين يتعين برهم والإحسان إليهم من غير المسلمين هم الوالدان، ثم الأقربون على حسب درجات قربهم، يقول الله عز وجل مقرراً حق الوالد المشرك: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15] وإن كان هذا الوالد المشرك لم يكتف بكونه مشركاً، ولم يكتف بدعوة ابنه إلى الشرك فقط؛ بل إنه يجاهده حتى يشرك بالله، ومع ذلك حفظ الله لهذين الأبوين الكافرين حقهما: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا [لقمان:15]، وهذا فيه تعظيم شديد جداً لحق الوالدين المسلمين، فإذا كان هذا مع الكافر فكيف بالوالدين المسلمين؟! وقد ثبت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قدمت أمي علي وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمك) (قدمت أمي علي راغبة) أي: ترغب صلتي، أو ترغب أن تسألني شيئاً من المال، فأم أسماء غير أم عائشة رضي الله عنها، فأم أسماء هي قتيلة ، قدمت من مكة إلى المدينة حتى تصل بنتها. قولها: (راغبة) إما في الصلة أو في أن تسألها شيئاً، (أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك)، فصلة الرحم هدف متفق عليه، وصلة الرحم مأمور بها لكل الأقارب أيضاً، وإن كانوا غير الأبوين، كما قال الله عز وجل: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1] أي: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، هذا هو المقصود من قوله: (واتقوا الله الذي تساءلون به) حين يقول أحدكم للآخر: أسألك بالله أو أسألك بوجه الله. قال ابن العربي رحمه الله تعالى: واتفقت الملة أن صلة ذوي الأرحام واجبة، وأن قطيعتها محرمة، ولتأكيد صلة الرحم المؤمنة ذكر الفضل في صلة الرحم الكافرة، وهذا يسمى: قياس الأولى أو القياس الجلي، إذا كان هذا في حق الرحم الكافرة فأولى أن يكون الصلة في حق الرحم المؤمنة، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ولكن لهم رحم سأبلها ببلالها) أي: أصلها بصلتها، مع أن هؤلاء من أقاربه، لكن لا يعدهم له أولياء، وإنما يصلهم لأجل صلة الرحم فقط. فصلة الرحم من أبرز جوانب البر والإحسان المقدمة لغير المسلمين، لكن بشرط أن لا يكون الأب أو الأم أو الرحم محارباً لدين الإسلام، معارضاً محاداً لله ورسوله وللمؤمنين، فمثل هذا لا يلزم بره ولا صلته.

حسن الجوار مع غير المسلمين

أما موضوع حقوق الجار فهو موضوع مستقل بذاته، والأدلة فيه كثيرة جداً، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) أي من شدة حق الجار ووجوب حفظ حقه. فحسن الجوار من علامات الإيمان أو من شعب الإيمان بالله واليوم الآخر، وجاء في الأثر: أن عبد الله بن عمر رضي الله تبارك وتعالى عنهما دخل بيته فوجد أهل بيته قد ذبحوا ذبيحة، فسألهم: هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ تكلم بلهجة الغضبان عليهم، هل أعطيتم جارنا اليهودي؟ وظل يعنفهم على عدم إعطائهم الجار اليهودي، وهذه صورة من صور الإحسان إلى الجار غير المسلم، إعطاؤه أو إهداؤه شيئاً من الطعام. إن الإحسان لغير المسلم قد يكون بمعنى المواساة، إذا أصابته مصيبة فيواسيه فيها كأن يموت ابنه أو أبوه، فإنه يعزيه ولا يدعو له بالرحمة؛ لأنه لا يستحق الرحمة، أي: الرحمة في الآخرة. كذلك أيضاً أقل الإحسان للجار أن تكف أذاك عنه، وكذلك حسن العشرة، كذلك نصرته إن كان صاحب حق.. وهكذا. وكما أن الإخوة الملتزمين يتميزون في مظهرهم بإعفاء اللحية وبالقميص غير المسبل، وبالمحافظة على الشعائر الإسلامية كصلاة الجماعة وغيرها، فينبغي أيضاً أن يتميز المسلمون الملتزمون بحفظ الجوار، وذلك بأن يحسنوا إلى جيرانهم ولا يسيئوا إليهم، هذا أيضاً من الشعائر الإسلامية التي ينبغي أن يتميز بها الملتزمون بدينهم، وينبغي أيضاً أن يتذكر الإخوة الملتزمون حكم الجوار وحكم الإحسان إلى جيرانهم. فالبر والإحسان إلى أهل الذمة ونحوهم والعطف عليهم، سواء كانوا أقارب أم أجانب لابد منه، ما لم يكن المحسن إليه منهم حربياً.

البر والإحسان إلى غير المسلمين لا يعني مودتهم ونصرتهم

ولابد أن نستذكر هنا أمراً آخر: وهو أن الإحسان إليهم والبر بهم وأداء المعروف إليهم لا يعني بأي حال من الأحوال حبهم ولا مودتهم ولا موالاتهم، فهناك فرق شاسع بين ذلك وبين الإحسان وبذل المعروف لهم كما في قصة أم أسماء التي ذكرناها، وفيها الأمر بالصلة والإحسان، وهذا لا يؤدي إلى محبتهم أو موالاتهم التي نهى الله تبارك وتعالى عنها. فالمؤمن الحقيقي لا يمكن أن يحب كافراً، أما من كان يحب كافراً فذاك ضعف في إيمانه وآفة ومرض في قلبه، فالذي يجد في قلبه حباً للكافر ورضىً عنه ومودة قلبية له، فهذا لابد أن يصحح إيمانه ويصحح إسلامه من جديد، فكل ما ذكرنا لا علاقة له بالمودة والمحبة والموالاة. يقول الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تفسير قوله عز وجل: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ [الممتحنة:8] إلى آخر الآية. قال: وهذه الآية رخصة في صلة الذين لم ينصبوا الحرب للمسلمين وجواز برهم، وإن كانت الموالاة منقطعة عنهم. الموالاة والنصرة والود والحب هذا للمؤمن فقط، لكن الكافر حتى وإن كان أباك أو أخاك أو أمك فهو ليس من أهلك، كما قال عز وجل: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] أو (إنه عَمِلَ غيرَ صالح) كما في قراءة أخرى، فقوله: (ليس من أهلك) ليس معناه كما يفهم بعض الناس أنه ولد زنا؛ لأنهم يربطون هذه الآية بقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا [التحريم:10] كلا! لا يمكن أبداً لأزواج الأنبياء أن يخنّ بالفسق والفجور، لا يمكن ذلك أبداً؛ لأن الأنبياء منزهون من أن يقع ذلك من زوجاتهم، كما قال عز وجل: وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور:26] أي: الطيبات بالصفات الحميدة من العفة والطهر للطيبين. فالمقصود من خيانة زوجة لوط هو أنها كانت تدل قومها على ضيفانه، ومعونتهم على ما كانوا عليه من الحال الفاسدة أو الشرك والكفر، لكن لا يمكن أبداً أن يحصل الزنا من زوجة نبي؛ لأن هذا طعن في النبي نفسه، والله تعالى حفظ أنبياءه من أن تفجر نساؤهم بهذه الأفعال. والشاهد من الكلام أن ابن نوح هو ابنه من صلبه، وذلك لمن تأمل قوله عز وجل: فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي [هود:45] أي: من صلبي ومن عشيرتي، وقد وعدتني من قبل أنك ستنجيني وأهلي. فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:45-46]، فأهلك هم أهل الإيمان وأهل التقوى والإسلام، إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
آداب الاستئذان [1] 2542 استماع
آداب طالب العلم 1805 استماع
آداب الدائن والمدين 1702 استماع
أدب التعامل مع الكفار (3) 1587 استماع
أدب التعامل مع الكفار (2) 1583 استماع
آداب التخلي [2] 1524 استماع
آداب التخلي [1] 1417 استماع
آداب التناظر 1339 استماع
آداب الاستئذان [2] 1024 استماع
آداب التخلي [3] 785 استماع