منهجية دراسة فقه الأئمة الأربعة


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الدين ميسوراً وسهلاً لمن أراد الوصول إليه فهماً وتدبراً، وقد يسره الله عز وجل بجملة من الميسرات، فأنزل الله عز وجل كتابه بلسان عربي مبين، وجعل بيانه إليه، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة:19]، وجعل كتابه سبحانه وتعالى مفصلاً ومحكماً، الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، جعل سبحانه وتعالى هذا الكتاب العظيم مفصلاً مبيناً، مقيماً للحجة لكل قاصدٍ لها، وجاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينة لكلام الله، مما أجمل فيه وما كان عاماً فإنها تخصصه، وما كان مطلقاً فإنها تقيده، فبينت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان غائياً وعاماً في كلام الله، وبينت ما خرج عن كليات كلامه سبحانه وتعالى، فجاء كلام الله جل وعلا لتقعيد أمور الدين، وتأصيلها، وبيان الكليات التي يحتاج إليها الإنسان في معرفة أحكام الدين.

جاءت هذه الشريعة كتاباً وسنة تبياناً وتفصيلاً لكل شيء، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بطاعته كما أمر بطاعة ربه جل وعلا، وأمر الله بطاعة رسوله كما أمر بطاعته، فقرن الله طاعة نبيه بطاعته كما في قول الله جل وعلا: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ [النساء:59]، فقرن الله الطاعتين مع بعضهما، ومن خرج عن طاعة الله خرج عن طاعة رسوله، ومن خرج عن طاعة رسوله خرج عن طاعة ربه، وما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يأتي بالنص في كلام الله سبحانه وتعالى فهو وحي من الله، ولهذا قال الله جل وعلا: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

وأمر عليه الصلاة والسلام بالتمسك بسنته وهديه وما جاء عنه، كما جاء في كثير من الأحاديث، وحذر من مخالفة أمره وأمر ربه، وهذا ظاهر في كلام الله سبحانه وتعالى في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وجاء هذا في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153]، وهذه الأوامر من الله سبحانه وتعالى لطريق محمد صلى الله عليه وسلم الذي لا يجوز لأحد أن يخرج عنه مدعياً أن ذلك من دين الله، ومن جاء بشيء ونسبه إلى الدين، ولم يكن له مستند في ذلك من كلام الله أو كلام رسول الله أو شيء من الأصول العامة التي دل على عمومها كلام الله وكلام رسول الله فقد أحدث وابتدع، وقد جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ).

لهذا وجب على الإنسان أن يتقي وأن يحذر من البدع المحدثة، وحذره من البدع المحدثة لا يمكن أن يتحقق إلا بمعرفة الحق، فإن الإنسان لا يتوقى الباطل إلا وقد عرف الحق وسلكه، ولا يمكن للإنسان أن يسلك الحق إلا بمعرفته بحدوده وحدود الباطل الذي يحده عن يمينه وشماله، فالحق البيّن الظاهر يتنازعه كثير من الناس استيعاباً، فمنهم من يعرف كثيراً منه، ومنهم من يعرف بعضه، ويختلف الناس في ذلك قلة وكثرة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير قال: ( الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يعلمهن كثير من الناس) إشارة إلى أن الكثير أو الأكثر لا يعلمون أمثال هذه المواضع، ومردها إلى أهل العلم، وما قال: لا يعلمها الناس؛ لأن الأصل في الشريعة أنها بيّنة محكمة، وأن البيان والإحكام هو الأصل في الشريعة، وأن جهل الإنسان بالمتشابهات لا يجعله مخيراً باتباع ما يشاء منها، باعتبار عدم وجود علم بيّن فيها، وهذا الفيصل فيه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ).

هذه الشريعة وهذه الحدود تبين طريقة اليمين، وهي الحلال، وطريقة الشمال وهي الحرام، وما كان خليطاً بين ذلك مما يشتبه على الإنسان وتردد بينه، والبينية في ذلك قد تقرب وتدنو من الحلال، وقد تقرب وتدنو من الحرام بحسب القرائن المحتفة بها، إما أن يكون ذلك مبنياً على أصل والأصل في ذلك الحل، أو الأصل في ذلك التحريم، أو وجود شيء يشتبه بين الأمرين فيتنازعه الطرفان، فيشكل على الإنسان معرفة ذلك، ويدخل في هذا كثيراً هوى النفس ورغباتها بتسويل شيء من المعاني فيميل الإنسان إليها.

الكلام حول هذه المعاني مما يطول، ولكن أردنا بهذه المقدمة أن نبيّن أن الشريعة الأصل فيها الإحكام والبيان والظهور والجلاء، وأن الله سبحانه وتعالى جعل القصد من إنزال الكتاب وإرسال الرسل هو هذا الأمر، حتى إن الأصل من الشريعة أنها بمجرد السماع والإنزال والقراءة يتضح للإنسان الأمر، ولهذا قال الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، وما قال: بيّن له واشرح له، باعتبار أن أصل السماع يفهم به الإنسان، وأن الذي لا يفهم هذا من الأمور النادرة لبعض الأسباب التي قد اقترنت به، إما لضعف في المدارك العقلية، وإما لضعف علم الإنسان بلغة العرب، أو لشيء آخر في هذا الأمر، إما لإعراض النفس، أو عدم رغبتها، وهذه مراتب الذم فيها متفاوتة بحسب حال الإنسان وقصده.

والشريعة كما تبين أن الأصل فيها هو كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاء بعد ذلك حملة الشريعة والنقلة وهم أصحاب رسول الله الذين هم الأمان لهذه الأمة، وهم حملة الفقه ونقلته إلى هذه الأمة، الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كثر، وقد قال أبو زرعة رحمه الله: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مائة وأربعة عشر صحابياً وصحابية، وما كان قبل ذلك فمات قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه، والصحابة عليهم رضوان الله تعالى مفرقون وهم على مراتب من جهة فضلهم، ومن جهة أيضاً ما استوعبوه من علم الشريعة، من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا الصحابة عليهم رضوان الله من جهة علمهم وفضلهم ينظر إليهم من جانبين:

الجانب الأول: القدم والسبق في الإسلام.

الجانب الثاني: ينظر إلى ملازمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذان الجانبان إذا توفرا في صحابي فهو مقدم على غيره، ولهذا يتفق الأئمة عليهم رحمة الله على أن أفضل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم البدريون، ثم الأحديون، يعني: الذين شهدوا أحد، ثم الرضوانيون الذين شهدوا بيعة الرضوان، وعلى التفصيل الثنائي يقال: إن من أسلم قبل الفتح أفضل ممن أسلم بعد الفتح، وذلك لقدم العهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى في حال ضعفه وقلة الناصر له كانوا حوله، فنزلت الشريعة من جهة المجمل، ونزل التفصيل وهم شهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ويدخل في المتقدمين في هذا العشرة المبشرون بالجنة، وأولهم الخلفاء الراشدون الأربعة أبو بكر و عمر و عثمان و علي بن أبي طالب عليهم رضوان الله، والصحابة عليهم رضوان الله من جهة المجموع مما لا شك فيه أنهم أهل فقه، وفقههم يعتمد على سليقتهم وعربيتهم التي يدركون بها كلام الله بداهة من غير بيان، ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لهذه الأمة بوجود هذا الجيل وهذا الجمع، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي موسى في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )، والأمان المراد به في هذا هو ما يتبع نقص العلم، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم جعل الأمان في آخر الزمان ينقص بنقصان العلم، ولهذا من نظر في أحاديث أشراط الساعة يجد أن سبب اضطراب الفتن مقترن بنقص العلم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة حتى يقبض العلم ويظهر الجهل وتكثر الفتن ).

إذاً: ثمة تلازم بين ظهور الفتن وقلة العلم وظهور الجهل، وهذا لازم للخوف، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل وجود هذا الجيل أماناً لهذه الأمة لما أدركوه من كلام الله وكلام رسول الله، فكانوا على بينة ومعرفة بمقاصد التنزيل، لهذا نقول: إن الخوض في مسائل فقه الصحابة عليهم رضوان الله هو مما يطول جداً، ومما يحتاج إلى مجالس، كذلك الطبقة التي تليهم من التابعين، وليس هذا هو المراد في مجلسنا هذا، وإنما المراد أن نتكلم على المدارس الفقهية المشهورة، وهي فقه الإمام مالك و أبي حنيفة و الشافعي والإمام أحمد عليهم رحمة الله.

نتكلم على هذه المدارس، وكذلك مصادرها، وكذلك أصحاب هؤلاء الأئمة ومعرفة مواضع أقوال هؤلاء الأئمة وأصحابهم من نقلة الفقه عنهم، والمدارس التي نشأت عن ذلك تبعاً لهؤلاء الأئمة، والمصنفات المعتمدة في الفقه عن هؤلاء الأئمة سواءً مما دونها هؤلاء الأئمة بأنفسهم، أو من دونها من أصحابهم ممن كان قريب العهد بهم، أو كان بعد ذلك، والبلدان التي تنتشر فيها هذه المذاهب.

ولكن ينبغي قبل الكلام في هذا أن نشير إلى أن ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هو العمدة في نقل الدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر هذا بنصوص كثيرة مستفيضة بالوصية بالصحابة ووجوب الرجوع إليهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام سنة من بعده مرتبطة بسنته، وأن الفضل إنما لحق لمن جاء بعده بسبب فضله، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين )، فإن التابع لم يكن له هذا الفضل إلا لفضل المتبوع، والمتبوع هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نقول: كلما قرب الإنسان زمناً من النبي عليه الصلاة والسلام كان أنقى فقهاً، وذلك لاعتبارات متعددة منها: سلامة اللسان، وكذلك سلامة الدين، كذلك قلة الدخيل في ذلك من آراء الرجال، فإنه كلما قرب الإنسان زمناً قل ذلك، وكلما تأخر زادت الآراء في هذا الفقه، ولهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعتني بفقه الصحابة.

والصحابة الذين نقل عنهم الفقه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقل عنهم الفتوى هم مائة وخمسة وتسعون صحابياً متفرقون في البلدان، ومما لا خلاف فيه عند العلماء أن رأس هؤلاء الفقهاء هم الخلفاء الراشدون الأربعة، وأن أولهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم يتباينون في ذلك على مواضع متعددة، ولهذا يقول ابن المديني رحمه الله: اجتمع الفقه بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس ، ومنهم من يقول: ما هو أوسع في هذه الدائرة، كما جاء عن مسروق بن الأجدع أن الفقه اجتمع في عمر و علي و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و عبد الله بن عباس و أبي الدرداء ، وانتهى الفقه في ذلك إلى عمر و علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود عليهم رضوان الله.

الصحابة عليهم رضوان الله يتباينون من جهة إدراكهم لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمور قدرية، منها جهة المكان الذي كانوا فيه، منهم من نأى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وذلك لمصالح شرعية مما يتعلق بالفتوحات والجهاد، ومنهم من كان عاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض البلدان فاستأثر بفضل واستأثر غيره بفضل، وكل على فضل وخير، وما نتكلم فيه فيما يتعلق في أمور الفقه، وهذا من الأمور الواسعة جداً من جهة تصنيفها، فالصحابة عليهم رضوان الله على مراتب، منهم من يعتني بأمور القضاء، ومنهم من يهتم بأمور الحلال والحرام، ومنهم من يهتم بأمور الفرائض والمواريث، ومنهم من يهتم بأمور المعاملات ونحو ذلك، ولكن يتفق العلماء على أن الخلفاء الراشدين الأربعة يقدمون في جميع الأبواب، ومنهم من يقدم ممن جاء بعدهم في باب دون باب، ومنهم من يعتمد في الفتيا على سبيل العموم، ويكون متسعاً في هذا الباب كما هو الحال في عبد الله بن عباس و عبد الله بن مسعود ، ومنهم من يقدم في التفسير كـعبد الله بن مسعود ، ثم بعد ذلك عبد الله بن عباس ، وذلك فيمن كان بعد الخلفاء الراشدين، فالخلفاء الراشدون الأربعة جاوزوا القنطرة في هذا على كل أحد ممن جاء بعدهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، القضاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة هم عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب و عبد الله بن مسعود و زيد بن ثابت و أبي بن كعب و أبو موسى الأشعري ، وهم على مدرستين: مدرسة عمر بن الخطاب ويتبعه في ذلك ابن مسعود و أبو موسى الأشعري ، ومدرسة علي بن أبي طالب ويتبعه في ذلك أبي بن كعب و زيد بن ثابت ، و زيد بن ثابت يأخذ كثيراً من الفقه عن أبي بن كعب عليهم رضوان الله.

وهاتان مدرستان من جهة القضاء، إذا نظر الإنسان إلى ذلك وسبر أقوالهم يجد أنهم يتشابهون في أمور القضاء في هذا الباب، كما روى عبد الرزاق في كتابه المصنف ذلك عن معمر بن راشد عن قتادة بن دعامة السدوسي في قضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما ما يتعلق بمعرفة الحلال والحرام فإنهم يتباينون في هذا، والكلام في هذا مما يطول جداً، ولكن ثمة قواعد أغلبية في هذا الأمر ينبغي ضبطها قبل الولوج في مسألة مدارس الأئمة الأربعة عليهم رحمة الله.

يكاد يتفق العلماء أن المدينة هي العمدة وعليها المدار، وأن العمل في أهل المدينة أقوى وأمتن من عمل غيرهم، وإنما يختلفون في حجية هذا العمل، وسبب ذلك أن الشريعة كتاباً وسنةً إنما أنزلها الله عز وجل على نبيه في المدينة، وأن ما خرج من ذلك من الوحي على رسول الله شيء قليل، إما شيء في مكة، وإما شيء بين ذلك، أو في بعض غزوات النبي عليه الصلاة والسلام كتبوك ونحو ذلك، وأما مجموع ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام من المفصل من معرفة الحلال والحرام، فإنه كان في المدينة.

كذلك ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في مسائل الحلال والحرام، وكذلك ما جاء عن الصحابة فإن مجموعهم في المدينة، لهذا ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتبصر وأن يتفقه في مسائل الدين أن يعرف مواضع الأحكام من كلام الله، وهذا أعلى مراتب الفقه أن يكون بصيراً بمواضع الأدلة من القرآن، وهي ما يسميه العلماء بآيات الأحكام في كلام الله، وكلام الله عز وجل -كما لا يخفى- هو على ثلاثة أنواع: توحيد بأنواعه وحلال وحرام، وقصص، والحلال والحرام هو ما يتعلق بأمور الفقه؛ لهذا ينبغي للإنسان أن يكون عارفاً بالأدلة من كلام الله، فلا يناسب أن يستدل أحد بشيء من الآثار أو بشيء من المنسوب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الدليل ظاهر بيّن في كلام الله عز وجل، وهذا نوع من القصور عند العلماء.

ولو ذكر طالب العلم شيئاً من الأدلة في السنة فحسن، لكن ينبغي ألا يغفل الأدلة الظاهرة من كلام الله سبحانه وتعالى إلا إذا كان الدليل عن النبي عليه الصلاة والسلام أصرح في ذلك وأبين، فإن هذه طريقة معتادة عند العلماء بإيراد الظاهر البين من السنة، وإغفال المجمل من كلام الله سبحانه وتعالى لاحتماله لأمرين متناقضين.

وكذلك معرفة مواضع الآي والسور، فإن غالب ما جاء في أمور الحلال منها ما يتعلق بسور معينة، ومنها ما يتعلق ببعض الأجزاء، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بهذا، وكتب تفسير آيات الأحكام كثيرة جدة وهي متوافرة، منها ما يصنف على المذاهب الأربعة، ومنها ما لا يصنف على المذاهب الأربعة، ككتاب أحكام القرآن للجصاص ، وأحكام القرآن لـأبي بكر بن العربي ، وأحكام القرآن للشافعي وتفسير القرطبي كذلك مليء بتفسير آيات الأحكام، وكذلك تفسير آيات الأحكام للقاضي أبي يعلى وغيرها من كتب التفسير.

وكتب التفسير فيما يتعلق بآيات الأحكام هي أكثر وأشهر من هذه، ولكن هذه مما يشتهر عند العلماء على المذاهب الأربعة، إذا قلنا: إن أقوى الأعمال هو عمل المدينة، وذلك لأن العمل ورث عن رسول الله وعن الصحابة، وعن بيئة النبي عليه الصلاة والسلام، فكان العمل فيهم، والعمل إذا استقر في بلد يصعب أن يدخل فيه وأن يبدل، ولو بدل رأياً لكنه من جهة العمل لا يبدل، من جهة العمل يستقر على هذا الأمر، لهذا نقول: إن عمل المدينة مما ينبغي أن يقطع أنه يقدم على غيره في كثير من الأمور مما يتعلق بأحكام الصلاة، وما يتعلق بأمور المزارعة باعتبار أن أهل المدينة هم أهل زراعة، وكذلك فإن الصلاة مشهودة يرثونها واحداً عن واحد، ولهذا لا يكاد يوجد سنة لا تعرف عند المدينة في أمور الصلاة ثم يعرفها غيرهم مثلاً من المكيين، أو مثلاً من العراقيين والشاميين واليمنيين وغير ذلك، لهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون بصيراً بهذه المدرسة عارفاً بها.

لهذا الأئمة عليهم رحمة الله اعتنوا بهذا الأمر بفقه أهل المدينة، اعتنى بذلك الإمام مالك و أخذ واستوعب عمل أهل المدينة استيعاباً ظاهراً، والإمام الشافعي رحمه الله جاء إلى المدينة وأخذ عن الإمام مالك رحمه الله، وأخذ عن غيره، وكذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله قدم إلى المدينة، وأخذ من علمائها.

وأما بالنسبة لما يتعلق بالفقه الذي يلي هذا الجيل وهو جيل الصحابة عليهم رضوان الله، فينبغي أن نعلم أن الفقهاء من التابعين إنما أخذوا جلالة قدرهم ومنزلتهم من الصحابة؛ لأنهم ورثوا العلم، الصحابة عليهم رضوان الله ورثوا العلم، والعلم كلما قل نقلاً قل كدره، وذلك أن العلم كحال الماء، والحملة هي الأواني، والنبي صلى الله عليه وسلم أول إناء حمل هذا العلم فأفرغه في الصحابة، والصحابة أفرغوه في التابعين، والتابعون أفرغوه في أتباع التابعين، وهكذا كلما كثر إفراغاً كثر كدراً، لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف الطبقات الأولى خاصة القريبة من الصحابة عليهم رضوان الله.

لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعتني بفقه التابعين، وفقه التابعين هو الفيصل بين الحقبتين، بين مدرسة الجيل الأول، ومدرسة الأئمة الأربعة، ولهذا لا يكاد أحد من الأئمة الأربعة إلا ويدرك من التابعين كالإمام مالك رحمه الله، وكذلك أبي حنيفة ، وكذلك الإمام الشافعي رحمه الله، وأما الإمام أحمد رحمه الله فأدرك أتباع التابعين، ولهذا نقول فيما يتعلق بهذه الحقبة الزمنية، وهي حقبة التابعين، ينبغي لطالب العلم أن يعرف المراتب فيها، أعلى المراتب على الإطلاق هي مراتب المدنيين، بل إننا نستطيع أن نقول: إن مجموع وليس كل مرتبة المدنيين في جميع طبقات التابعين وأتباع التابعين هي أقوى من سائري مراتب البلدان الأخرى سوى مكة إلا في طبقة الصحابة عليهم رضوان الله، وذلك لأن طبقة المدنيين هي طبقة منغلقة في الغالب على نفسها، ولا يأتيها دخيل بخلاف من كان من البلدان الأخرى، وذلك مثلاً كالشام والعراق واليمن وغير ذلك.

كذلك فإن الفقهاء من المدنيين هم أكثر من أدرك الخلفاء الراشدين، إذا قلنا: إن الصحابة عليهم رضوان الله هم نقلة الفقه، وإن أقوى الصحابة هم الخلفاء الراشدون الأربعة، فأقوى من نقل عن الخلفاء الراشدين هم أهل المدينة الذين نقلوا عن الخلفاء الراشدين، والذين أدركوا الخلفاء الراشدين الأربعة أو بعضهم من المدينة قرابة ثلاثين فقيهاً من المدنيين أدركوا الخلفاء الراشدين أو بعضهم.

أما بالنسبة للبلدان الأخرى فتجد البصرة يقربون من سبعة أو ثمانية، كذلك ما يتعلق بالكوفة وفي الشام ثلاثة أو أربعة، في اليمن لا يكاد يوجد أحد أدرك الخلفاء أو سمع من الخلفاء الراشدين، وهذا يدل على جلالة قدر أهل المدينة، فينبغي لطالب العلم أن يعتني بذلك، وهذا هو فرع عن العلم الذي جاء إلى هؤلاء الأئمة، فتجد كلما بعد الرجل عن معقل الإيمان ومعقل الوحي ضعف لديه في ذلك الأثر، واعتمد على الرأي لقلة الدليل، لهذا معرفة هذه الطبقة وهي طبقة التابعين وتمايزهم في هذا، وكذلك اختصاصهم مما يعطي طالب العلم ملكة في معرفة الترجيح، وأن الفقهاء عليهم رحمة الله في معرفة ترجيح الأدلة لا يعتمدون على الكثرة والقلة، وإنما يعتمدون على التميز والاختصاص، ولهذا قد تجد كثرة لدى قول يقولون: قال به فلان وفلان وفلان وفلان ويأتون بعشرة وعشرين، ولكن تجد مثلاً من المدينة اثنين وثلاثة وأربعة قالوا بهذا القول، فهؤلاء يقدمون غالباً على غيرهم، وذلك لأن هؤلاء اعتمدوا غالباً إما على عمل منقول، وإما على أثر لم ينقل، وذلك في الغالب هو أقوى من غيرهم.

لهذا نقول: إنه ينبغي لطالب العلم أن يعرف ذلك العمل، وذلك العمل ينبني عليه أن يُعرف الفقهاء المتميزون من فقهاء المدينة، سواءً كانوا من الفقهاء السبعة أو غيرهم، كـعبيد الله و سليمان بن يسار و خارجة و أبي بكر ، وكذلك القاسم بن محمد و عروة و سعيد بن المسيب ، هؤلاء هم الفقهاء السبعة من المدينة الذين عليهم مدار الترجيح، لكنهم يتباينون أيضاً في ذاتهم من جهة العناية بأبواب الدين، أبواب الدين متسعة يشق على الإنسان أن يستوعب المجموع، ولكن نجد أن الفقه من جهة مرده بمجموعه يرجع في هؤلاء إلى سعيد بن المسيب في الأغلب، وبعضهم يمتاز عليه في بعض المسائل إلا أنه مما يقطع به أن سعيد بن المسيب هو أقوى من سائر التابعين فيما يتعلق بأمور العقود والمعاملات، ومنهم من يهتم ببعض المسائل فيما يتعلق بالتفسير، فيما يتعلق مثلاً بالمواريث ونحو ذلك، هذا يحتاج إليه الإنسان مع قوة سبره، كلما سبر فتاوى هذا الفقيه تحصل لديه عنايته بباب من الأبواب، فتجد أنه يفتي مثلاً بمائة مسألة، تجد أن ثمانين منها أو تسعين منها مثلاً في الصلاة تجد أن تميزه وعنايته بأمر الصلاة، وهذا يعرف بالسبر وإن لم ينص عليه العلماء.

ومعرفة الاختصاص ومردها ومآلها في ذلك إلى كثرة ووفرة المروي في هذا، لهذا نقول: إن الإمام مالكاً رحمه الله من جهة إدراك عمل أهل المدينة هو أكثر الأئمة الأربعة إدراكاً لمعرفة عمل أهل المدينة؛ وذلك لأنه عمل معهم وورث العمل عنهم، ولهذا تجد الإمام مالكاً رحمه الله قلما يقع لديه الخطأ فيما يتعلق بالعمل التعبدي اليومي، في العمل التعبدي باعتبار أنه يتكرر، وأن ما يروى عنه مما يخالف الأدلة تجد أنه من الأعمال الحولية بما يتعلق مثلاً ببعض الأعمال، أو ما كان بعيداً عنه مما يتعلق بأحكام المناسك، كما يروى عنه في مسألة الرمل والاضطباع، أو في بعض الأمور الحولية مما يتعلق مثلاً بصيام ستة أيام من شوال، وغيرها من الأحكام الشرعية، أما ما كان من العمل اليومي فعمل الإمام مالك رحمه الله هو أقوى من غيره، وذلك أن تردد العمل وتردد عمل الإنسان في يومه وليلته يظهر فيه البيان لدى الإنسان، فإنه إذا لم يره اليوم رآه غداً خاصة فيما يتعلق بأمور الصلاة، ولهذا أقوى فقه الإمام مالك رحمه الله هو في اليوميات، وهو ما يتعلق بالصلوات الخمس والسنن الرواتب وقيام الليل، ويليه ما يتعلق بأمور العقود والمعاملات؛ لأنها تظهر في أحوال الناس وتنقل، وغالب هذه الأمور تؤخذ نقلاً ولا تؤخذ نصاً، وإن قل النص المرفوع عند الإمام مالك رحمه الله مقارنة بغيره، فالمرفوعات المنقولة عن الإمام أحمد رحمه الله عن النبي عليه الصلاة والسلام، وكذلك الشافعي هي أكثر عن مالك مع أن مالكاً هو مدني، وهو في بلد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الإمام مالكاً رحمه الله قوى العمل وجعل العمل مفسراً ومبيناً للنص، فاعتمد عليه.

ولا نقول: إن وجود النصوص لدى الإمام مالك من جهة الأصل أقل من غيره، بل لديه نصوص واكتفى بالبينات الفاصلة في هذا الباب، ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يعتني بفقه الإمام مالك رحمه الله على نحو هذا التسلسل.

نبتدئ بأول هذه المدارس وهي مدرسة المدينة، وابتداؤها بالإمام مالك رحمه الله:

المدرسة الأولى: هي مدرسة الإمام مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي وهو إمام أهل المدينة، الإمام مالك رحمه الله جمع فقه أهل المدينة واستوعبها، ولم يكد يخرج الإمام مالك رحمه الله في أخذه للعلم عن أهل المدينة، وتجد غيره أخذوا العلم من المدينة وغيرها، فارتحلوا إلى المدينة، وارتحلوا إلى غيرها كحال الإمام أحمد عليه رحمة الله، وكذلك الشافعي ، وكذلك أبو حنيفة عليه رحمة الله.

اعتماد الإمام مالك في مذهبه على عمل أهل المدينة

والإمام مالك أخذ العلم عن فقهاء المدينة، واهتم بالأثر المنقول والعمل المحكي عن الأئمة الأجلاء في هذا الأمر، وإنما صنف الإمام مالك رحمه الله كتابه الموطأ على هذا الأمر، وذلك أنه اعتمد على العمل أصلاً وجاء بما يعضد ذلك العمل، وقلما يدع الإمام مالك العمل، وقد ترك عمل أهل المدينة للنص في مواضع يسيرة قد أشار إليها ابن عبد البر في مواضعها في كتابه الاستذكار، وإلا فالأصل أنه لا يخرج عن ذلك، ولهذا لما كان الإمام مالك يعتمد على عمل المدينة من جهة الأصل، ويجعل النصوص دالة عليه نجد أن الإمام مالك رحمه الله هو أكثر الأئمة الأربعة أصولاً، أصول الإمام مالك هي أكثر من غيره، لماذا؟ لأنه من جهة الأصل يعتمد على أصل أهل المدينة، وهذا الأصل يعتمد على أصول أخرى، وهذه الأصول مما يقدم ولا يتقدم عليه أحد وهذه الأصول هي الكتاب والسنة، وكذلك يليه بعد ذلك الإجماع ثم القياس، ثم ما يتعلق بالاستصحاب والمصالح المرسلة، وما جاء بعد ذلك من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قاعدة سد الذرائع وغيرها من القواعد، فيرى أن عمل المدينة هو يعتمد على هذه القواعد، ولهذا كثرت القواعد حتى قيل إن قواعد الإمام مالك رحمه الله هي أكثر من قواعد الأئمة الأربعة مجتمعين، وهذا الإطلاق وإن كان فيه نظر إلا أنه يدل على أن الإمام مالكاً رحمه الله اعتنى بأمر القواعد، وإن لم يحكها نصاً إلا أنه يجري عليها من جهة العمل.

منزلة موطأ الإمام مالك بين كتب الحديث

صنف الإمام مالك رحمه الله كتابه الموطأ، وأخذ الفقه عن أئمة أهل المدينة، منهم من كان أخذه عنه مباشرة، ومنهم من أخذ عنه بواسطة، ومجموع هؤلاء ما يتعلق بالفقهاء السبعة من أهل المدينة الذين تقدم الكلام عليهم.

أخذ الإمام مالك عليه رحمة الله باستيعاب هذا الفقه ونشره، ودونه في كتابه الموطأ، وكتابه الموطأ جمع فيه المرفوع، وجمع فيه الموقوف، ومجموع ما في الموطأ صحيح، وهو من جهة الصحة والنقاوة يقدم على الصحيحين، ولكن التفت العلماء إلى الصحيحين لاعتبارات كثيرة منها أن المرفوعات في الموطأ قليلة، وأن المرفوعات في الصحيحين كثيرة جداً، كذلك فإن الأبواب التي أغفلها الإمام مالك كثيرة جداً، والعمدة في ذلك على أحاديث لم يذكرها الإمام مالك رحمه الله، وهذه الأحاديث إنما جمعها البخاري و مسلم واستوعباها في كتابيهما الصحيحين، واشتهرا وهما أصح الكتاب بعد كتاب الله على خلاف عند العلماء في كتاب الإمام مالك إلا أن بعض العلماء يقولون: إن كتاب الإمام مالك لم يتمحض في المرفوع، ولهذا لا يجعلونه كتاب حديث متمحضاً، وإنما فيه الموقوف، وفيه المرفوع، وفيه الرأي، ولهذا تجد بعض العلماء يطلقون عبارة أن أصح الكتب بعد كلام الله عز وجل هو البخاري و مسلم ويريدون من ذلك الوحي المتمحض، وأما الإمام مالك رحمه الله فموطأه قد جمع بين هذا وهذا.

نسبة الروايات المختلفة عن الإمام مالك

الإمام مالك رحمه الله من جهة فقهه ورأيه له آراء، وهو أقل الأئمة الأربعة تعدداً لأقواله، وأكثر الأئمة الأربعة تعدداً لأقواله هو الإمام أحمد رحمه الله، ثم يليه بعد ذلك أبو حنيفة من جهة الكثرة، وسبب قلة الأقوال عن الإمام مالك رحمه الله أنه أخذ القول ولم يأته غيره، وهو في بلد النبي، ثم إذا كان في بلد النبي والفقهاء من جهة الشيوخ لديه، فهو لم ينتقل إلى أحد، وإنما أخذ من أهل بلده، فهذا أدعى إلى ثباته، بخلاف غيره ممن كان بعيداً فإنه أخذ من عدة بلدان، ثم يأته وافدون يأخذ عنهم فيتجدد لديه من النصوص ما ليس لغيره، كذلك فإن النوازل في المدينة أقل من غيرها، وذلك لأن النوازل في غيرها في البصرة والكوفة ونحو ذلك مما استجد في حواضر الإسلام من المعاملات وكذلك النوازل في المواريث والجهاد والحدود والتعزيرات لكثرة مثلاً المعاصي والفسوق وغير ذلك مما يحدث في أطراف البلدان الإسلامية، بخلاف ما يحدث للبلدان، ولهذا تجد المنقول عن الإمام مالك في هذا إنما هي أقوال في مجملات.

الإمام مالك رحمه الله هو أقل الأئمة روايات، ولهذا إذا أردت أن تلتمس له في مسألة قولين فلا تكاد تجد ما هو أكثر من ذلك بخلاف غيره، ربما يوجد له قولان، وربما ثلاثة، وربما ما هو أكثر من هذا، أما الإمام مالك رحمه الله فأكثر أقواله هو القول الواحد، ويوجد له قولان.

مظان وجود آراء الإمام مالك وأقواله

والإمام مالك رحمه الله تلقى عنه أصحابه مذهبه، منهم من أخذ عنه الموطأ، ومنهم من أخذ عنه رأيه في خارج الموطأ، ويأتي الكلام على هذا، لكن من جهة تلقي مذهب الإمام مالك رحمه الله ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن يتفقه بمعرفة فقه الإمام مالك أن يتدرج بمعرفة عمل أهل المدينة على ما تقدم من التسلسل السابق.

أولاً: بمعرفة الفقهاء المدنيين من الفقهاء السبعة وغيرهم؛ لأن لهم أثراً على الإمام مالك رحمه الله، كذلك بمعرفة الشيوخ الذين تأثر بهم الإمام مالك رحمه الله تأثراً مباشراً، وهؤلاء كثر، وأظهرهم هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن ربيعة الرأي و خارجة ، وهؤلاء هم أكثر الذين تأثر بهم الإمام مالك رحمه الله.

فإذا قال الإمام مالك عليه العمل في المدينة، فإنه يريد ما عليه ربيعة و خارجة ؛ لأن ربيعة و خارجة لا يخرجان عن مجموع عمل فقهاء أهل المدينة، لهذا إذا أراد طالب العلم أن يعرف رأي الإمام مالك رحمه الله فعليه أن ينظر في أقواله، فإذا وجد له قولين فعليه أن يلتمس في ذلك المرجحات في هذا، والمرجحات في هذا هو مجموع شيوخ الإمام مالك و آرائهم، فوفرة آراء شيوخ الإمام مالك من الفقهاء كثيرة جداً، وهي موجودة في المدونات التي اعتنت بالآثار، وهذه المدونات التي اعتنت بالآثار مما جمع فقه المدينة وغيرها هي كثيرة جداً، ومما جمع ذلك هذه المصنفات كمصنف ابن أبي شيبة ، ومصنف عبد الرزاق ، ومعرفة السنن والآثار للبيهقي ، وكتاب الأم للشافعي ، ومسائل الإمام أحمد الكثيرة المترامية مما ينقل عنه أصحابه مليئة بالآثار في هذا الباب، وذلك كمسائل ابن هانئ ومسائل صالح ومسائل عبد الله ، وكذلك مسائل حنبل ومسائل الأثرم ، وغيرها من المسائل كمسائل الفضل بن زياد مما يروى عن الإمام أحمد، وهي مليئة بآثار فقهاء المدينة وغيرهم، وكذلك الكتب التي جاءت بعد ذلك مثل كتب أبي بكر بن المنذر ككتاب الأوسط، وكذلك الإشراف وكذلك في الاختلاف كتب الإمام الشافعي رحمه الله، وكتب ابن عبد البر مثل كتابه التمهيد والاستذكار وغيرها، فهذه مما يعتني أصحابها بالآثار، إضافة للذي يعتني بفقه أولئك مما تقدم الإشارة إليه في مواضع آيات الأحكام، كتب التفسير التي اعتنت بنقل تفسير الأحكام عن فقهاء المدينة وغيرهم، وذلك كتفسير ابن جرير الطبري وتفسير عبد بن حميد ، وتفسير ابن المنذر ، وكذلك أحكام القرآن للشافعي ، وتفسير البغوي ، وغيرها من كتب التفسير التي اعتنت بالمأثور كتفسير ابن أبي حاتم وغيرهم.

كيفية معرفة الراجح من أقوال الإمام مالك عند تعدد الروايات

لهذا ينبغي لطالب العلم أن يعرف المدرسة التي تلقى منها الإمام مالك حتى يرجح بين قولين، وثمة طريقة في الترجيح مشهورة عند أكثر المتأخرين لأقوال الإمام مالك، وهي أنه ينظر في ترجيح أحد قولي الإمام مالك على الآخر، ويقول: وهذا هو الأصح عن الإمام مالك بناءً على رجحان الدليل عليه، وربما هذا الدليل لم يكن في المدينة، أو ربما لم يكن عند الإمام مالك ، أو لم يكن صحيحاً أيضاً، فيجعل هذا مرجحاً لأحد القولين، نحن نقول: نحن في ترجيحنا لقول الإمام مالك لا نرجح الصواب، وإنما نرجح من أقوال الإمام مالك ما هو الأصح عنه، فترجيح الأصح من أقوال الإمام مالك لا يعني ترجيح الصحيح، ولهذا ينبغي لطالب العلم أن يفرق بين هذين.

من أعظم أو أقوى المرجحات في أقوال الإمام مالك رحمه الله أن يعتمد الإنسان ما دونه الإمام مالك بيده، وما دونه بيده هو كتابه الموطأ، وهو العمدة في معرفة أقواله، وماذا يستفاد من موطأ الإمام مالك ؟ يستفاد من موطأ الإمام مالك منطوق ومفهوم، ما كان منطوقاً في كلام الإمام مالك رحمه الله مما نص عليه من آرائه، أما ما كان مفهوماً في هذا فهو باب واسع، وهذا مما يتكلم عليه الفقهاء في أبواب النص مما يتعلق بالنص المرفوع في ظاهر النص ومنطوقه ونصه ومفهومه ودلالة الخطاب وغير ذلك، ولكن نحن نتكلم على باب المفهوم، فما أورده الإمام مالك رحمه الله في كتابه الموطأ من نص مرفوع أو موقوف، وجاء عن الإمام مالك رحمه الله روايتان فما ذكره دليلاً لأحد الروايتين في كتابه الموطأ فهو مرجح لأحد الروايتين على غيرهما، لهذا نقول: إن الإمام مالكاً يورد في كتابه الموطأ الأدلة التي يذهب إليها ولو لم يفتي بذلك، ولهذا لطالب العلم أن يذكر أو يرجح قولاً لـمالك؛ لأنه ذكر دليله في كتابه الموطأ.

ثم يلي بعد ذلك مرتبة ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله من المنقول عنه.

المدارس التي اعتنت برواية مذهب الإمام مالك

أصحاب الإمام مالك رحمه الله على طوائف، أشهر هاتين المدرستين في مدرسة الإمام مالك رحمه الله مدرستان: المدرسة الأولى: هي مدرسة المدنيين، والمدرسة الثانية هي مدرسة المصريين، وثمة مدرسة وهي مدرسة المغاربة وهي المدرسة الثالثة، وهي شمال أفريقيا، ثم الأندلس وما تفرع عن ذلك في بلدان المغرب، ويأتي الكلام على ذلك.

مدرسة الإمام مالك رحمه الله في المدينة هي أقوى المدارس، لماذا؟ لأنها أطول أخذاً عن الإمام مالك وأوفر، وإن كانت المرويات عن أصحاب الإمام مالك رحمه الله في المدينة هي أقل من المرويات عن أصحاب الإمام مالك في مصر؛ وذلك لأن أصحاب الإمام مالك في مصر دونوا أقوال الإمام مالك وفتاويه، ولم يدون أصحابه المدنيون مثلهم كما دونوا وإنما نقلوا عنه أشياء، ولهذا اشتهرت واستفاضت مدرسة المصريين على مدرسة المدنيين بوفرة المنقول في ذلك، ومما اشتهر عنه كتابه المدونة المنقول عن الإمام مالك .

الإمام مالك رحمه الله لم يكتب المدونة، وإنما هي مسائل وفتاوى نقلها عنه عبد الرحمن بن القاسم نقلها لـعبد السلام بن سعيد بن حبيب ، وهو سحنون نقلها عنه ودونها سحنون عن عبد الرحمن بن القاسم مما سمعه من الإمام مالك رحمه الله.

لهذا نقول: ينبغي لطالب العلم إذا أراد معرفة الأرجح والأدق في أقوال الإمام مالك أن يميز المدرستين من أصحاب الإمام مالك في المدينة ممن بقي في المدينة، فهؤلاء هم أدق بمعرفة قوله.

وثمة أئمة أخذوا مدرسة الإمام مالك ، ثم جددوا مدرسة جديدة، وذلك كأصحابه، كـمحمد بن إدريس الشافعي ويأتي الكلام عليه بإذن الله تعالى، ثم إذا لم يجد من المرجحات عن أصحاب الإمام مالك في المدينة، فلينظر في أقوال أصحابه في مصر.

أصحاب الإمام مالك في مصر

أصحاب الإمام مالك في مصر: أول من نقل فقه الإمام مالك في مصر هو عبد الرحيم بن الخالد و عثمان بن الحكم ، ونقلوا شيئاً يسيراً إلا أنهم لم يدونوه عنه، وجاء بعد ذلك ممن أخذ عن الإمام مالك رحمه الله عبد الله بن وهب المصري وعبد الرحمن بن القاسم و أشهب بن عبد العزيز ، و أصبغ و محمد بن عبد الله بن الحكم وأبوه عبد الله بن الحكم ، هؤلاء هم أشهر أصحاب الإمام مالك رحمه الله في مصر، وأشهر هؤلاء هم عبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم وهما إماما المدرسة، وهم من نشرا مدرسة الإمام مالك رحمه الله في مصر، وكان في مصر لا يعرف إلا قول الإمام مالك رحمه الله.

أخذ عبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم مباشرة من الإمام مالك وأخذوا أيضاً بواسطة، أخذوا بواسطة من بعض أصحابه الذين قدموا قبل ذهابهم إليه بمصر، وانتقلوا إليه بالمدينة فأخذوا عنه، فأخذ عنه عبد الرحمن بن القاسم وعبد الرحمن بن القاسم أكثر أخذاً من عبد الله بن وهب عن الإمام مالك رحمه الله، وعبد الرحمن بن القاسم إنما أخذ عن الإمام مالك أكثر؛ لأنه دام عنده أكثر، فأخذ عنه الفقه أكثر، و عبد الله بن وهب أخذ عنه الحديث أكثر، ولهذا يوصف عبد الله بن وهب بالعلم، ويوصف عبد الرحمن بن القاسم بالفقه، فكان نتاج لقاء عبد الرحمن بن القاسم بالإمام مالك رحمه الله هو كتاب المدونة التي دونها سحنون عليه رحمة الله، فكانت هذه المدونة هي جملة من المسائل مما سأل عبد الرحمن بن القاسم الإمام مالكاً عليه رحمة الله، ولهذا نقول: إذا وجد قولان للإمام مالك قول قاله في المدينة، ونقله عنه أصحابه في المدينة، وقول نقله عنه أهل مصر، فالمترجح في ذلك هو ما قاله في المدينة، وذلك لأمور منها ما تقدم الإشارة إليه أن أهل المدينة هم أدوم وأبقى عند الإمام مالك وأدرى بقوله، وأما الآفاقيون الذين جاءوا إلى الإمام مالك فأخذوا منه على سبيل الاعتراض.

التعريف بكتاب المدونة في فقه المالكية

المدونة للإمام مالك هي أوسع مدونة في مذهب الإمام مالك أخذت عنه الفقه مباشرة، وهي نظير كتاب الأم للإمام الشافعي رحمه الله، مع الفرق في هذا فإن الإمام الشافعي دون كتابه الأم إما بنفسه أو بإملائه مباشرة بخلاف المدونة، فإنها دونت عن الإمام مالك رحمه الله، وربما لم يعلم عليه رحمة الله أن يكون ذلك مصنفاً بعده على هيئته التي كانت عندنا بخلاف كتاب الأم.

المدونة أصبحت هي العمدة، وعليها تفرعت كتب المالكية في هذا العصر، وما سبقه من عصور، وعليها خرج المالكيون وبحثوا ونظروا وشرحوا وبينوا وفصلوا ودللوا أيضاً، بل إن المختصرات المتداولة في مذهب الإمام مالك رحمه الله مردها إلى المدونة في مذهب الإمام مالك رحمه الله، حتى إن مصنفها في ذلك هو سحنون الذي يلقب بـمالك الصغير باعتبار أن له فضلاً على الإمام مالك بجمعه لفقهه في هذا الكتاب، حتى أنها أشهر من مختصر خليل وهو من أشهر المختصرات في هذا، بل أيضاً الرسالة لـابن أبي زيد هي أراد الإنسان أن يتتبعها يجد أنها خرجت من رحم المدونة، فمختصر خليل اختصره من مختصر ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب أخذه من مختصر المدونة للبرادعي ، ومختصر المدونة للبرادعي أخذه من تهذيب المدونة لـابن أبي زيد القيرواني ، وابن أبي زيد القيرواني أخذ كتابه هذا من المدونة، فأصل ذلك هو المدونة، وهي المرد.

التفريق بين مذهب الإمام مالك وبين ما خرجه أصحابه بناء على أصوله

وينبغي أن نعلم أن طالب العلم إذا أراد أن يعرف قول الإمام مالك فهذا شيء، وإذا أراد أن يعرف قول أصحابه فذلك شيء آخر، فأصحابه توسعوا بنقل فقهه عليه رحمة الله، وذلك بتخريج بعض المسائل على أصوله العامة، أصوله العامة ما يتعلق بعمل أهل المدينة، كذلك بعض الشيوخ الذين عرفت عنهم الفتوى ونحو ذلك، كذلك ربما جاء في بعض المسائل مما لم ينقل عن الإمام مالك رحمه الله في المدونة، ونقل في غيرها فجاءوا بقول لم يقل به الإمام مالك رحمه الله، وظهر بعد ذلك ما يخالفه أو ما يخالف الدليل.

لهذا نقول: ينبغي أن يفرق بين تحديد قول الإمام مالك ، وبين تحديد مذهب المالكية، فمذهب الإمام مالك شيء، وهو أن يتتبعه الإنسان في عمل أهل المدينة، ثم ينظر في قول الإمام مالك فيما كان في موطأه، كذلك ما كان في المدونة، كذلك ما كان يجري على قواعده وأصوله مما تقدم الإشارة إلى شيء منه، فيعضد ذلك بشيء من المرجحات مما كان من فقهاء المدينة السبعة.

أما ما كان من الكتب التي دونت بعد ذلك، فكانت عمدة في هذا الباب هي كما تقدم أم هذه المدونات وهي مدونة الإمام مالك رحمه الله حتى إن الكتب التي أخذت منها مباشرة واختصرتها قيل: إنها أحد عشر مختصراً لمدونة الإمام مالك ، أشهر هذه المختصرات هو مختصر البرادعي، ومختصر ابن أبي زمنين، اختصر المدونة وهو أشهر المختصرات حتى قال القاضي عياض رحمه الله على مختصر المدونة لـابن أبي زمنين، قال: إنه أقوى المختصرات في اتفاق، يعني: باتفاق العلماء من المالكية وهو أدقها.

عناية المالكية بالمدونة شرحاً واختصاراً

ثم جاء بعد ذلك من اعتنى بالمدونة من جهة الشرع، وكان المسار في ذلك على مسارين، أناس يختصرون وأناس يشرحون كعادة كثير من الكتب، هناك من اعتنى بالشرح، وهناك من اعتنى بالاختصار، أفضل هذه الشروح للمدونة كتاب البيان والتحصيل هو شرح لمدونة الإمام مالك ، فكان يأتي بالعبارة ثم يقوم بشرحها، ولها مقدمة أيضاً لمؤلفها سماها بالمقدمات، وهي مقدمة للبيان والتحصيل، ذكر فيها جملة من الأصول، وكذلك المنهج، وشيء من المناظرة في بعض المسائل الفقهية.

وهناك من الأئمة من اعتنى باختصار المدونة، وهي على ما تقدم الكلام عليه، وأشهر هذه المختصرات هي ثلاثة مختصرات: المختصر الأول هو مختصر ابن الحاجب، ومختصر ابن الحاجب أخذه عن مختصر المدونة كما تقدم لـلبرادعي، ومختصر المدونة قيل: إنه أخذه من الرسالة، وقيل: إنه أخذه من المدونة مباشرة، ومختصر ابن الحاجب جاء عنه مختصر خليل، ويسميه المغاربة بمختصر سيدي خليل، وهذا من باب الإجلال، وبعد ذلك يأتي متن ابن عاشر، وهذه المختصرات أو المتون الثلاثة هي أشهر المتون في مذهب المالكية مما اختصر.

وهذه المختصرات ينبغي أن نتكلم على مسألة مهمة فيها؛ لأنه يعتني بعض طلبة العلم بالأخذ عن هذه المختصرات، وهي أن طالب العلم إذا وجد همة ونشاطاً ينبغي عليه أن يأخذ من الأصل؛ لأن هذه الكتب هي من جهة أصلها مردها إلى ذلك الأصل، حتى إن بعض الفقهاء من المالكية يقولون: إن هذه المختصرات استغلقت حتى لا نستطيع أن نفهم قول المصنف، حتى يقول الحجوي عليه رحمة الله، وهو من أئمة المالكية يقول: إن المدونة عن الإمام مالك رحمه الله لا تحتاج إلى بيان، تفهم من نفسها، وأما مختصر خليل فإننا لا نفهمه ولو فهمناه لم نقطع أن خليلاً أراد هذا المختصر.

والمدونة ثلاثة أسفار، ولا نستطيع أن نفهم مختصر خليل إلا بستة أسفار للزرقاني وثمانية أسفار للرهوني ، لهذا مختصر خليل في مذهب الإمام مالك إذا أراد الإنسان أن ينظر فيه يجد فيه استغلاقاً شديداً من جهة العبارة مع وفرة كثيرة في المسائل.

ولهذا لو نظر الإنسان نظراً فاحصاً يجد أنه يسير سيراً صحيحاً سهلاً في المدونة أكثر مما يسير في غيرها، أو أن يأخذ شيئاً من المختصرات في هذا، الرسالة لـابن أبي زيد القيرواني تلي هذه المصنفات من جهة الدقة والضبط عند المتأخرين، فتجد عمدة المتأخرين هي هذه الكتب الثلاثة خاصة المغاربة والرسالة تأتي بعد ذلك مرتبة، ومنهم من يقدمها على غيرها، ولكن هذا هو الأشهر في تقديم مختصر خليل على غيره خاصة عند المتأخرين.

ومن المالكية من يتعصب للمذهب حتى يقول اللاقاني وهو من أئمة المالكية يقول: نحن خليليون، إن ضل خليل ضللنا، ومراده في ذلك أن عمدتنا هو هذا الكتاب في مذهب الإمام مالك رحمه الله، وهذا من الخطأ الذي ينبغي أن يبتعد عنه المحرر للدليل القاصد الصواب؛ لأنه يقصد في ذلك سلامة الترجيح عن الإمام مالك رحمه الله، فالإمام مالك نهى عن تقليده، وكذلك الإمام أحمد عليه رحمة الله نهى عن تقليده، فجاء عن

والإمام مالك أخذ العلم عن فقهاء المدينة، واهتم بالأثر المنقول والعمل المحكي عن الأئمة الأجلاء في هذا الأمر، وإنما صنف الإمام مالك رحمه الله كتابه الموطأ على هذا الأمر، وذلك أنه اعتمد على العمل أصلاً وجاء بما يعضد ذلك العمل، وقلما يدع الإمام مالك العمل، وقد ترك عمل أهل المدينة للنص في مواضع يسيرة قد أشار إليها ابن عبد البر في مواضعها في كتابه الاستذكار، وإلا فالأصل أنه لا يخرج عن ذلك، ولهذا لما كان الإمام مالك يعتمد على عمل المدينة من جهة الأصل، ويجعل النصوص دالة عليه نجد أن الإمام مالك رحمه الله هو أكثر الأئمة الأربعة أصولاً، أصول الإمام مالك هي أكثر من غيره، لماذا؟ لأنه من جهة الأصل يعتمد على أصل أهل المدينة، وهذا الأصل يعتمد على أصول أخرى، وهذه الأصول مما يقدم ولا يتقدم عليه أحد وهذه الأصول هي الكتاب والسنة، وكذلك يليه بعد ذلك الإجماع ثم القياس، ثم ما يتعلق بالاستصحاب والمصالح المرسلة، وما جاء بعد ذلك من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك قاعدة سد الذرائع وغيرها من القواعد، فيرى أن عمل المدينة هو يعتمد على هذه القواعد، ولهذا كثرت القواعد حتى قيل إن قواعد الإمام مالك رحمه الله هي أكثر من قواعد الأئمة الأربعة مجتمعين، وهذا الإطلاق وإن كان فيه نظر إلا أنه يدل على أن الإمام مالكاً رحمه الله اعتنى بأمر القواعد، وإن لم يحكها نصاً إلا أنه يجري عليها من جهة العمل.

صنف الإمام مالك رحمه الله كتابه الموطأ، وأخذ الفقه عن أئمة أهل المدينة، منهم من كان أخذه عنه مباشرة، ومنهم من أخذ عنه بواسطة، ومجموع هؤلاء ما يتعلق بالفقهاء السبعة من أهل المدينة الذين تقدم الكلام عليهم.

أخذ الإمام مالك عليه رحمة الله باستيعاب هذا الفقه ونشره، ودونه في كتابه الموطأ، وكتابه الموطأ جمع فيه المرفوع، وجمع فيه الموقوف، ومجموع ما في الموطأ صحيح، وهو من جهة الصحة والنقاوة يقدم على الصحيحين، ولكن التفت العلماء إلى الصحيحين لاعتبارات كثيرة منها أن المرفوعات في الموطأ قليلة، وأن المرفوعات في الصحيحين كثيرة جداً، كذلك فإن الأبواب التي أغفلها الإمام مالك كثيرة جداً، والعمدة في ذلك على أحاديث لم يذكرها الإمام مالك رحمه الله، وهذه الأحاديث إنما جمعها البخاري و مسلم واستوعباها في كتابيهما الصحيحين، واشتهرا وهما أصح الكتاب بعد كتاب الله على خلاف عند العلماء في كتاب الإمام مالك إلا أن بعض العلماء يقولون: إن كتاب الإمام مالك لم يتمحض في المرفوع، ولهذا لا يجعلونه كتاب حديث متمحضاً، وإنما فيه الموقوف، وفيه المرفوع، وفيه الرأي، ولهذا تجد بعض العلماء يطلقون عبارة أن أصح الكتب بعد كلام الله عز وجل هو البخاري و مسلم ويريدون من ذلك الوحي المتمحض، وأما الإمام مالك رحمه الله فموطأه قد جمع بين هذا وهذا.

الإمام مالك رحمه الله من جهة فقهه ورأيه له آراء، وهو أقل الأئمة الأربعة تعدداً لأقواله، وأكثر الأئمة الأربعة تعدداً لأقواله هو الإمام أحمد رحمه الله، ثم يليه بعد ذلك أبو حنيفة من جهة الكثرة، وسبب قلة الأقوال عن الإمام مالك رحمه الله أنه أخذ القول ولم يأته غيره، وهو في بلد النبي، ثم إذا كان في بلد النبي والفقهاء من جهة الشيوخ لديه، فهو لم ينتقل إلى أحد، وإنما أخذ من أهل بلده، فهذا أدعى إلى ثباته، بخلاف غيره ممن كان بعيداً فإنه أخذ من عدة بلدان، ثم يأته وافدون يأخذ عنهم فيتجدد لديه من النصوص ما ليس لغيره، كذلك فإن النوازل في المدينة أقل من غيرها، وذلك لأن النوازل في غيرها في البصرة والكوفة ونحو ذلك مما استجد في حواضر الإسلام من المعاملات وكذلك النوازل في المواريث والجهاد والحدود والتعزيرات لكثرة مثلاً المعاصي والفسوق وغير ذلك مما يحدث في أطراف البلدان الإسلامية، بخلاف ما يحدث للبلدان، ولهذا تجد المنقول عن الإمام مالك في هذا إنما هي أقوال في مجملات.

الإمام مالك رحمه الله هو أقل الأئمة روايات، ولهذا إذا أردت أن تلتمس له في مسألة قولين فلا تكاد تجد ما هو أكثر من ذلك بخلاف غيره، ربما يوجد له قولان، وربما ثلاثة، وربما ما هو أكثر من هذا، أما الإمام مالك رحمه الله فأكثر أقواله هو القول الواحد، ويوجد له قولان.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2704 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2468 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2312 استماع
العالِم والعالَم 2305 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2294 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2125 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2097 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2097 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2071 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2038 استماع