شرح كتاب الصيام من منار السبيل [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا يا رب العالمين!

قال الشيخ العلامة إبراهيم بن محمد بن سالم بن ضويان رحمه الله تعالى: [ (وصوم عشر ذي الحجة) لحديث ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر )، رواه البخاري ، وعن حفصة رضي الله عنها قالت: ( أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة )، رواه أحمد و النسائي ].

صيام أيام العشر تحديداً لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الأظهر في ذلك خلافه، كما جاء في حديث عائشة عليها رضوان الله.

وعلى كل فإن أيام العشر أيام فاضلة ولا خلاف في ذلك، وقد ذكر غير واحد من العلماء أن الأيام العشر هي أفضل من أيام رمضان، وأن ليالي رمضان هي أفضل من سائر الليالي، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر فضل العمل الصالح في الأيام العشر على غيرهن.

وهذا بالنسبة لمضاعفة العمل الصالح، ولكن نستطيع من جهة تفاضل الأيام أن نقول: إن العمل الصالح في عشر ذي الحجة في نهاره أفضل من غيره إلا الصوم، فالصوم في نهار رمضان أفضل من غيره؛ وذلك لأن الصوم إنما هو فرض وركن، والفرض والركن أفضل من غيره.

وليس لنا أن نطلق أن العمل بجميع أنواعه أفضل عند الله سبحانه وتعالى حتى الصيام من رمضان؛ وذلك لأنه ركن، ومقتضى التفضيل المطلق في هذا أنه يدخل فيه الصيام، أما توجيه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هنا في قوله: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله )، فهذا ظاهره إطلاق العمل الصالح.

نقول: إن النصوص الشرعية تطلق, والمراد بذلك التغليب، وذلك أن الأعمال الصالحة من النوافل، والصدقة، والعمرة، وما يكون من صلة الأرحام، وقراءة القرآن، وذكر الله، والدعاء وغير ذلك من الأعمال الصالحة، فالنصوص تعلق بالأغلب، ولو قيل بذلك لقيل بأن صيام النافلة أفضل من الفريضة، وهذا يخالف الأصول.

والحديث الوارد في فضل عشر ذي الحجة كاف في فضل الصيام فيها، وعدم ثبوت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعني العدم، ولا يعني عدم فضل الصيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يترك الشيء الفاضل لمقصد مفضول، أو ربما يترك الشيء الفاضل إلى فاضل آخر، ولا يعني أن الفاضل دون ذلك في المرتبة، والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى المقاصد كما ينظر إلى الأعمال.

الحكمة من تركه صلى الله عليه وسلم صيام العشر

والفضل الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو صيام عشر ذي الحجة على القول بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصم في ذلك مطلقاً؛ لأنه لا يريد أن يكلف على الأمة وأن يشق عليها، فهو ذكر العمل الصالح بعمومه.

ومن وجوه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يفعل جميع أعمال الخير والبر في عشر ذي الحجة لما أطاق قدراً لكثرتها وتنوعها، فأعمال البر فيها جهاد، وفيها عمرة، وفيها صدقة، وفيها صلة رحم، وفيها صيام، فاجتماعها في مثل هذه العشر من الأمور المحالة، لقلة هذه الأيام وضعف قدرة الإنسان التي آتاه الله عز وجل إياها أينما كان.

ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتفضيل وأمسك عن تعيين عمل بعينه, لبيان مجموع فضل الأعمال في هذه الأيام، وحتى لا يستمسك بعمل واحد ويستغنى به عن غيره من سائر الأعمال، وهذه من السياسة الشرعية التي تظهر في عمل النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً.

ولهذا نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأعمال يخفي عمله حتى لا يلتزم، لاختلاف حاجة الناس ومقاصدهم، وكذلك الكلفة عليهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو في سجوده ويطيل، ويرفع يديه ويطيل, ومع ذلك لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر ما يفعله نص ينص بدعائه في سجوده إلا أشياء يسيرة جداً من دعائه صلى الله عليه وسلم لا يوازي الزمن الذي دعا فيه.

فالنبي عليه الصلاة والسلام: دعا على الصفا والمروة طويلاً ثلاثاً, ولم يثبت من دعائه حرفاً, وإنما ثبت عنه الذكر من الحمد والتهليل والتكبير، وهذا الإخفاء مع تكراره من النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو لاختلاف حاجة الناس من جهة السؤال، فهذا يسأل الله الشفاء، وهذا يسأل الغناء من الفقر، وهذا يسأل كشف كرب وبلاء وغير ذلك من أنواع حاجات الناس، ولو جاء الدعاء في ذلك مخصوصاً لكان التزام الناس فيه ظاهر لمحبة الاقتداء.

وكذلك في طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند البيت لم يثبت أنه ذكر دعاء معيناً إلا ما جاء بين الركنين من قوله: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة )، وما جاء من التكبير عند الحجر.

وكذلك في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام عند الجمار ودعائه في عرفة، حيث كان يدعو النبي عليه الصلاة والسلام دعاء طويلاً في عرفة حتى سقط رداؤه عنه، وكان يدعو واقفاً، وكان يدعو على الراحلة.

وهذه الأدعية ما جاءت ولا ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام وذلك لاختلاف حاجة الناس، وحتى لا تكلف الأمة بما لا تطيق، ولهذا يؤتى بتفضيل العمل عاماً ليؤخذ الإنسان بما هو أيسر له، فلا يتعرض الإنسان لقنوط، ولو أن النبي فعل الصيام فقط وكان الإنسان عاجزاً عن الصيام لظن أنه حرم فضل العشر، ولو فعل الصلاة مجردة بأن قام عليه الصلاة والسلام لياليها كلها وأطال في ذلك لوجد الإنسان الذي يعجز عن قيام الليل أن الفضل فاته وأصابه شيء من القنوط.

وفي مسألة الصدقة فمن الناس من هو غني ومن الناس من هو فقير، فإذا النبي عليه الصلاة والسلام تصدق وأكثر من الصدقة في العشر، وظهر هذا الفعل منه لكان فيه مشقة على الفقراء الذين لا يجدون من الأموال، أو ربما تكلفوا فأجحفوا في حق أنفسهم وفي حق أهليهم، لذا جاء الفضل في ذلك عاماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله ) ، فالعمل الصالح داخل في عمومه ويدخل في ذلك الصيام.

تفاضل العمل في أيام العشر

كيف يتفاضل العمل في أيام العشر؟ نقول: يتفاضل في أيام العشر كتفاضله في غير العشر، فالصلاة أفضل من الصيام، والزكاة أفضل من الصيام، والصيام أفضل من العمرة، وغير ذلك بحسب ترتيب فضائل الأعمال الواردة في الشريعة.

ولهذا نقول: إن الأصل في تفاضل الأعمال في الأزمنة والأمكنة بحسب تفاضلها من جهة الأصل في الشريعة، وما كان فاضلاً من الأعمال في خارج العشر فهو فاضل وأفضل من غيره مما كان دونه في غير العشر، وهكذا بحسب مراتب الأعمال.

ومن وجوه معرفة الفاضل من الأعمال: أن ما كان له جنس واجب فهو أفضل مما لا جنس له واجب، وهذا يختلف عيناً، ويختلف أيضاً كثرة وقلة.

فالصلاة فيها جنس واجب وهي الفريضة، والصلاة عدداً ووفرة وكثرة أكثر من الصيام وفرة وعدداً وكثرة، فكانت أفضل مما يأتي بعدها من الصيام والزكاة والعمرة والحج وغيرها.

وهناك من الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان ما لا يوجد من جنسه واجب، مثل السواك، أو التطيب، أو إماطة الأذى عن الطريق، أو بذل السلام على قول وغيرها، فهذه الأعمال في ذاتها فاضلة لكن لا جنس منها واجب.

ولهذا نقول: إنها تأتي في المرتبة الثانية في ذلك، وهذا ينظر فيه بحسب أحكام الشريعة من جهة الواجبات، وكلما كان الواجب آكد فإن أنواعه أفضل من غيرها وهكذا، فالله عز وجل يفضل العلماء على غيرهم بتتبعهم للعمل الصالح؛ لأنهم يعرفون أن هذا أعظم من غيره، فيقدمونه على غيره لأنه يأتي بحسنات أعظم من غيره. وإذا جهل الإنسان تفاضل العبادات عمل الأدنى وغفل عن الأعلى، أو عمل المفضول وترك الفاضل مع أنه يؤتيه كلفة ومشقة بأجر دون ذلك.

وبعض الناس لجهله وإغراقه بتتبع العمل الصالح لعاطفته يفعل المباح ويدع الواجب، وربما فعل المستحب والمتأكد وترك ما كان مفروضاً عليه، وهذا من تلبيس إبليس، فإنه يشبع رغبة الإنسان بالعمل الصالح والتقرب من الله بشيء أدنى ويدع المتأكد عليه حتى يطفئ جذوة الإيمان والاندفاع والإقبال على الله.

وأما حديث حفصة في صيام النبي عليه الصلاة والسلام لعشر ذي الحجة, فهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جاءت عدة أحاديث في صيامه عليه الصلاة والسلام ولا يثبت منها شيء.

والفضل الذي تركه النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك هو صيام عشر ذي الحجة على القول بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصم في ذلك مطلقاً؛ لأنه لا يريد أن يكلف على الأمة وأن يشق عليها، فهو ذكر العمل الصالح بعمومه.

ومن وجوه ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يفعل جميع أعمال الخير والبر في عشر ذي الحجة لما أطاق قدراً لكثرتها وتنوعها، فأعمال البر فيها جهاد، وفيها عمرة، وفيها صدقة، وفيها صلة رحم، وفيها صيام، فاجتماعها في مثل هذه العشر من الأمور المحالة، لقلة هذه الأيام وضعف قدرة الإنسان التي آتاه الله عز وجل إياها أينما كان.

ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتفضيل وأمسك عن تعيين عمل بعينه, لبيان مجموع فضل الأعمال في هذه الأيام، وحتى لا يستمسك بعمل واحد ويستغنى به عن غيره من سائر الأعمال، وهذه من السياسة الشرعية التي تظهر في عمل النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً.

ولهذا نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام في كثير من الأعمال يخفي عمله حتى لا يلتزم، لاختلاف حاجة الناس ومقاصدهم، وكذلك الكلفة عليهم، فالنبي عليه الصلاة والسلام يدعو في سجوده ويطيل، ويرفع يديه ويطيل, ومع ذلك لم يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام في أكثر ما يفعله نص ينص بدعائه في سجوده إلا أشياء يسيرة جداً من دعائه صلى الله عليه وسلم لا يوازي الزمن الذي دعا فيه.

فالنبي عليه الصلاة والسلام: دعا على الصفا والمروة طويلاً ثلاثاً, ولم يثبت من دعائه حرفاً, وإنما ثبت عنه الذكر من الحمد والتهليل والتكبير، وهذا الإخفاء مع تكراره من النبي عليه الصلاة والسلام إنما هو لاختلاف حاجة الناس من جهة السؤال، فهذا يسأل الله الشفاء، وهذا يسأل الغناء من الفقر، وهذا يسأل كشف كرب وبلاء وغير ذلك من أنواع حاجات الناس، ولو جاء الدعاء في ذلك مخصوصاً لكان التزام الناس فيه ظاهر لمحبة الاقتداء.

وكذلك في طواف النبي عليه الصلاة والسلام عند البيت لم يثبت أنه ذكر دعاء معيناً إلا ما جاء بين الركنين من قوله: ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة )، وما جاء من التكبير عند الحجر.

وكذلك في دعاء النبي عليه الصلاة والسلام عند الجمار ودعائه في عرفة، حيث كان يدعو النبي عليه الصلاة والسلام دعاء طويلاً في عرفة حتى سقط رداؤه عنه، وكان يدعو واقفاً، وكان يدعو على الراحلة.

وهذه الأدعية ما جاءت ولا ثبتت عن النبي عليه الصلاة والسلام وذلك لاختلاف حاجة الناس، وحتى لا تكلف الأمة بما لا تطيق، ولهذا يؤتى بتفضيل العمل عاماً ليؤخذ الإنسان بما هو أيسر له، فلا يتعرض الإنسان لقنوط، ولو أن النبي فعل الصيام فقط وكان الإنسان عاجزاً عن الصيام لظن أنه حرم فضل العشر، ولو فعل الصلاة مجردة بأن قام عليه الصلاة والسلام لياليها كلها وأطال في ذلك لوجد الإنسان الذي يعجز عن قيام الليل أن الفضل فاته وأصابه شيء من القنوط.

وفي مسألة الصدقة فمن الناس من هو غني ومن الناس من هو فقير، فإذا النبي عليه الصلاة والسلام تصدق وأكثر من الصدقة في العشر، وظهر هذا الفعل منه لكان فيه مشقة على الفقراء الذين لا يجدون من الأموال، أو ربما تكلفوا فأجحفوا في حق أنفسهم وفي حق أهليهم، لذا جاء الفضل في ذلك عاماً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله: ( ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله ) ، فالعمل الصالح داخل في عمومه ويدخل في ذلك الصيام.

كيف يتفاضل العمل في أيام العشر؟ نقول: يتفاضل في أيام العشر كتفاضله في غير العشر، فالصلاة أفضل من الصيام، والزكاة أفضل من الصيام، والصيام أفضل من العمرة، وغير ذلك بحسب ترتيب فضائل الأعمال الواردة في الشريعة.

ولهذا نقول: إن الأصل في تفاضل الأعمال في الأزمنة والأمكنة بحسب تفاضلها من جهة الأصل في الشريعة، وما كان فاضلاً من الأعمال في خارج العشر فهو فاضل وأفضل من غيره مما كان دونه في غير العشر، وهكذا بحسب مراتب الأعمال.

ومن وجوه معرفة الفاضل من الأعمال: أن ما كان له جنس واجب فهو أفضل مما لا جنس له واجب، وهذا يختلف عيناً، ويختلف أيضاً كثرة وقلة.

فالصلاة فيها جنس واجب وهي الفريضة، والصلاة عدداً ووفرة وكثرة أكثر من الصيام وفرة وعدداً وكثرة، فكانت أفضل مما يأتي بعدها من الصيام والزكاة والعمرة والحج وغيرها.

وهناك من الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان ما لا يوجد من جنسه واجب، مثل السواك، أو التطيب، أو إماطة الأذى عن الطريق، أو بذل السلام على قول وغيرها، فهذه الأعمال في ذاتها فاضلة لكن لا جنس منها واجب.

ولهذا نقول: إنها تأتي في المرتبة الثانية في ذلك، وهذا ينظر فيه بحسب أحكام الشريعة من جهة الواجبات، وكلما كان الواجب آكد فإن أنواعه أفضل من غيرها وهكذا، فالله عز وجل يفضل العلماء على غيرهم بتتبعهم للعمل الصالح؛ لأنهم يعرفون أن هذا أعظم من غيره، فيقدمونه على غيره لأنه يأتي بحسنات أعظم من غيره. وإذا جهل الإنسان تفاضل العبادات عمل الأدنى وغفل عن الأعلى، أو عمل المفضول وترك الفاضل مع أنه يؤتيه كلفة ومشقة بأجر دون ذلك.

وبعض الناس لجهله وإغراقه بتتبع العمل الصالح لعاطفته يفعل المباح ويدع الواجب، وربما فعل المستحب والمتأكد وترك ما كان مفروضاً عليه، وهذا من تلبيس إبليس، فإنه يشبع رغبة الإنسان بالعمل الصالح والتقرب من الله بشيء أدنى ويدع المتأكد عليه حتى يطفئ جذوة الإيمان والاندفاع والإقبال على الله.

وأما حديث حفصة في صيام النبي عليه الصلاة والسلام لعشر ذي الحجة, فهذا لا يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث جاءت عدة أحاديث في صيامه عليه الصلاة والسلام ولا يثبت منها شيء.

قال رحمه الله: [ (وآكدها يوم عرفة وهو كفارة سنتين) لحديث أبي قتادة رضي الله عنه مرفوعاً: ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة، وصوم عاشوراء يكفر سنة ماضية )، رواه الجماعة إلا البخاري و الترمذي ، ويليه في الآكدية يوم التروية ].

وهذا في صيام يوم عرفة وهو أفضل الأيام كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن في أن عرفة أفضل الأيام، وكذلك الدعاء في عرفة هو أفضل الدعاء.

تكفير الحسنات للسيئات

ويظهر فضل العمل بعظم أثره على الإنسان، فمن آثاره: أن الله عز وجل يكفر بتلك العبادة السيئات، وأقواها تكفيراً أعلاها منزلة وفضلاً على الإنسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر تكفير الأعمال الصالحة للسيئات كما في الحديث: ( الصلوات الخمس كفارة لما بينهن، والعمرة إلى العمرة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) .

فإذا كان العمل الصالح أشد تكفيراً للسيئات التي يأتيها الإنسان فإنه أعظم عند الله سبحانه وتعالى أجراً؛ لأن الحسنة العظيمة تكفر السيئة العظيمة.

هنا قاعدة في مسألة التكفير عند قوله صلى الله عليه وسلم: ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة )، فإنه قد يأتي على العام الواحد أكثر من مكفر، ولكن ما هي العلة والحكمة في أن الله عز وجل يكفر للإنسان بصيام عرفة عامين السنة الماضية والسنة الباقية؟ ثم يصوم الإنسان يوم عرفة الماضي فيكفر الله عز وجل له السنة الماضية والسنة الباقية، فيكون مر على السنة الواحدة تكفيران، كذلك عاشوراء يكفر الله عز وجل به السنة فيأتي في ذلك ثلاث تكفيرات لعام واحد.

والعلة في ذلك أن من العمل الصالح ما لا يقوى على تكفير بعض السيئات لعظمها، فثمة موبقات وثمة مهلكات وثمة كبائر، فالذنوب على مراتب، الشرك بالله سبحانه وتعالى وهذا أعظم الذنوب عند الله سبحانه وتعالى، ويكفي في عظمته أن الله عز وجل لا يغفر لصاحبه إلا أن يتوب، وذلك بأنواعه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، والعلماء يجعلون الشرك الأصغر في منزلة بين الكبائر والكفر.

ثم يأتي بعد ذلك الموبقات وهي أحد أنواع الكبائر، وهي ما جاءت في حديث أبي هريرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، ثم بعد ذلك يأتي الذنوب والكبائر وهي دون الموبقات، إذاً فالكبائر على نوعين: موبقات، وما دونها، فالموبقات هي المهلكات وذلك لشدة خطرها ووصول عاقبتها على الإنسان، وثمة كبائر دون ذلك مرتبة.

والكبائر تعرف عند العلماء بجملة من القرائن والأوصاف: من هذه القرائن ما جعل الله عز وجل على فاعلها حداً في الدنيا مثل: السرقة، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، وغير ذلك، فهذه من الكبائر؛ لأن الله عز وجل جعل عليها حداً.

أو توعد صاحبها بالعذاب يوم القيامة بالنص، فإن هذا قرينة على كونها من الكبائر.

أو وصف صاحبها بأنه ملعون، أو لعن الله من فعل كذا وكذا، كالنمام، والمغتاب، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، وغير ذلك مما وصف الله سبحانه وتعالى أو نبيه عليه الصلاة والسلام به بعض الأفعال.

ويدخل في هذا الباب الإسبال للخيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) .

إذاً فثمة موبقات مهلكات تكون من الإنسان لا يقوى عليها بعض العمل الصالح؛ لأن ثمة مدافعة ومقاومة بين العمل الصالح والعمل السيئ، أيها يكفر الأخرى؟ فالأعظم والأقوى يكفر تلك.

أما بالنسبة للعمل الصالح في تكفيره للسيئات فهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، أي: أن الله سبحانه وتعالى يغفر لعبده من السيئات بمقدار الحسنات التي يأتيها، فربما سنة واحدة يؤديها الإنسان لا تأتي على كبيرة، فإذا جاء بسنة أخرى وثالثة ورابعة تعاظم مع بعضها فأتت على الكبيرة، وإلا فالأصل أنه لا يأتي على الكبيرة من الكبائر إلا ما كان من العمل الصالح من الفرائض العظيمة، ومن العمل الصالح من النوافل ما يعظمه الله سبحانه وتعالى تعظيماً حتى يأتي على السيئات.

محو السيئات للحسنات

والمتقرر عند أهل السنة بالاتفاق أن الحسنات تكفر السيئات، أما عكس ذلك هل السيئة تمحو الحسنة وتكفرها؟ فقد اختلف أهل السنة في هذا على قولين:

ذهب جمهور أهل السنة إلى أن السيئة لا تمحو الحسنة، وقالوا: هذا مقتضى رحمة الله عز وجل ولطفه، ومقتضى إن رحمة الله عز وجل سبقت غضبه، ثم أن ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة على ذكر تكفير الحسنات للسيئات.

القول الثاني: قول لبعض أهل السنة وهو قول المعتزلة أنه يكون ثمة تكفير، وأن السيئة تمحو الحسنة، وهذا هو الصواب، وهو الذي تعضده الأدلة.

وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه شيئاً من العمل الصالح الذي تمحوه السيئة كرفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].

وبعض العلماء يحمل ذلك على الكفر، أي: أن الإنسان إذا رفع صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معظم أو كان مستهزئاً به فإن ذلك من موجبات الكفر، ولكن نقول: إن هذه الآية إنما نزلت في خيار الصحابة عليهم رضوان الله تعالى تحذيراً لهم.

وفي قول الله سبحانه وتعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، فالصدقة التي يفعلها الإنسان ويمتن بها فيقول: أنا أعطيت فلاناً كذا أو أعطيتك في يوم كذا أو أراد إرجاعها أو نحو ذلك فهذا مما يبطلها، فالمن سيئة يفعلها الإنسان.

ويعضد ذلك ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت لأم زيد بن أرقم لما تبايع بالعينة وهي نوع من أنواع الربا قالت: أخبريه أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب؛ وذلك لأن الربا من الموبقات المهلكات، والجهاد هو من الطاعات والحسنات العظيمة، فهذه لعظمها وشدة مقامها في أبواب الذنوب والكبائر يأتي على ذلك العمل.

وهذا يأتي كثيراً في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا فلا صلاة له، من فعل كذا فلا حج له، وكذلك يظهر هذا في بعض الأعمال ولو كانت يسيرة فربما تبطل العمل العظيم، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من سد الطريق فلا جهاد له )، وذلك لما نزل النبي عليه الصلاة والسلام وتزاحم الناس حتى سدوا الطرق في غزوة من الغزوات.

وفي هذا نقول: إن الحسنة تمحو السيئة، وكذلك السيئة تمحو الحسنة، ولكن الأصل أن الحسنات أقوى من السيئات من جهة التكفير، وهذا هو سبب منة الله سبحانه وتعالى على عباده بأن جعل المكفرات تتعدد على زمن واحد فتأتي على عمل واحد، فيأتي للعام الواحد ثلاث مكفرات: إذا صام الإنسان في عرفة فإنه يكفر ذلك العام والعام الباقي، ويكفر الله عز وجل بعاشوراء عاماً ماضياً، ويكفر الله سبحانه وتعالى أيضاً بعرفة التالية ذلك العام، فيأتي حينئذ العام والتكفير فيه مكرراً، وربما كان في العام الواحد ثلاث مكفرات في صيام يومين، فكيف إذا انضاف إلى ذلك ما هو من المكفرات الأخرى من رمضان إلى رمضان، والمكفرات الأسبوعية كالجمعة، أو الوقتية كالصلوات الخمس، أو الحولية كالحج، أو ما كان متباعداً غير منضبط بزمن كالعمرة وغير ذلك، فهذا أيضاً فضل من الله سبحانه وتعالى يأتي على سيئات الإنسان.

ويظهر فضل العمل بعظم أثره على الإنسان، فمن آثاره: أن الله عز وجل يكفر بتلك العبادة السيئات، وأقواها تكفيراً أعلاها منزلة وفضلاً على الإنسان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر تكفير الأعمال الصالحة للسيئات كما في الحديث: ( الصلوات الخمس كفارة لما بينهن، والعمرة إلى العمرة، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) .

فإذا كان العمل الصالح أشد تكفيراً للسيئات التي يأتيها الإنسان فإنه أعظم عند الله سبحانه وتعالى أجراً؛ لأن الحسنة العظيمة تكفر السيئة العظيمة.

هنا قاعدة في مسألة التكفير عند قوله صلى الله عليه وسلم: ( صوم يوم عرفة يكفر سنتين ماضية ومستقبلة )، فإنه قد يأتي على العام الواحد أكثر من مكفر، ولكن ما هي العلة والحكمة في أن الله عز وجل يكفر للإنسان بصيام عرفة عامين السنة الماضية والسنة الباقية؟ ثم يصوم الإنسان يوم عرفة الماضي فيكفر الله عز وجل له السنة الماضية والسنة الباقية، فيكون مر على السنة الواحدة تكفيران، كذلك عاشوراء يكفر الله عز وجل به السنة فيأتي في ذلك ثلاث تكفيرات لعام واحد.

والعلة في ذلك أن من العمل الصالح ما لا يقوى على تكفير بعض السيئات لعظمها، فثمة موبقات وثمة مهلكات وثمة كبائر، فالذنوب على مراتب، الشرك بالله سبحانه وتعالى وهذا أعظم الذنوب عند الله سبحانه وتعالى، ويكفي في عظمته أن الله عز وجل لا يغفر لصاحبه إلا أن يتوب، وذلك بأنواعه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، والعلماء يجعلون الشرك الأصغر في منزلة بين الكبائر والكفر.

ثم يأتي بعد ذلك الموبقات وهي أحد أنواع الكبائر، وهي ما جاءت في حديث أبي هريرة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، ثم بعد ذلك يأتي الذنوب والكبائر وهي دون الموبقات، إذاً فالكبائر على نوعين: موبقات، وما دونها، فالموبقات هي المهلكات وذلك لشدة خطرها ووصول عاقبتها على الإنسان، وثمة كبائر دون ذلك مرتبة.

والكبائر تعرف عند العلماء بجملة من القرائن والأوصاف: من هذه القرائن ما جعل الله عز وجل على فاعلها حداً في الدنيا مثل: السرقة، والزنا، والقذف، وشرب الخمر، وغير ذلك، فهذه من الكبائر؛ لأن الله عز وجل جعل عليها حداً.

أو توعد صاحبها بالعذاب يوم القيامة بالنص، فإن هذا قرينة على كونها من الكبائر.

أو وصف صاحبها بأنه ملعون، أو لعن الله من فعل كذا وكذا، كالنمام، والمغتاب، والنامصة والمتنمصة، والواشمة والمستوشمة، وغير ذلك مما وصف الله سبحانه وتعالى أو نبيه عليه الصلاة والسلام به بعض الأفعال.

ويدخل في هذا الباب الإسبال للخيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار ) .

إذاً فثمة موبقات مهلكات تكون من الإنسان لا يقوى عليها بعض العمل الصالح؛ لأن ثمة مدافعة ومقاومة بين العمل الصالح والعمل السيئ، أيها يكفر الأخرى؟ فالأعظم والأقوى يكفر تلك.

أما بالنسبة للعمل الصالح في تكفيره للسيئات فهذا ظاهر في قول الله جل وعلا: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ [هود:114]، أي: أن الله سبحانه وتعالى يغفر لعبده من السيئات بمقدار الحسنات التي يأتيها، فربما سنة واحدة يؤديها الإنسان لا تأتي على كبيرة، فإذا جاء بسنة أخرى وثالثة ورابعة تعاظم مع بعضها فأتت على الكبيرة، وإلا فالأصل أنه لا يأتي على الكبيرة من الكبائر إلا ما كان من العمل الصالح من الفرائض العظيمة، ومن العمل الصالح من النوافل ما يعظمه الله سبحانه وتعالى تعظيماً حتى يأتي على السيئات.

والمتقرر عند أهل السنة بالاتفاق أن الحسنات تكفر السيئات، أما عكس ذلك هل السيئة تمحو الحسنة وتكفرها؟ فقد اختلف أهل السنة في هذا على قولين:

ذهب جمهور أهل السنة إلى أن السيئة لا تمحو الحسنة، وقالوا: هذا مقتضى رحمة الله عز وجل ولطفه، ومقتضى إن رحمة الله عز وجل سبقت غضبه، ثم أن ظواهر الأدلة من الكتاب والسنة على ذكر تكفير الحسنات للسيئات.

القول الثاني: قول لبعض أهل السنة وهو قول المعتزلة أنه يكون ثمة تكفير، وأن السيئة تمحو الحسنة، وهذا هو الصواب، وهو الذي تعضده الأدلة.

وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر في كتابه شيئاً من العمل الصالح الذي تمحوه السيئة كرفع الصوت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2].

وبعض العلماء يحمل ذلك على الكفر، أي: أن الإنسان إذا رفع صوته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معظم أو كان مستهزئاً به فإن ذلك من موجبات الكفر، ولكن نقول: إن هذه الآية إنما نزلت في خيار الصحابة عليهم رضوان الله تعالى تحذيراً لهم.

وفي قول الله سبحانه وتعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى [البقرة:264]، فالصدقة التي يفعلها الإنسان ويمتن بها فيقول: أنا أعطيت فلاناً كذا أو أعطيتك في يوم كذا أو أراد إرجاعها أو نحو ذلك فهذا مما يبطلها، فالمن سيئة يفعلها الإنسان.

ويعضد ذلك ما جاء عن عائشة عليها رضوان الله تعالى أنها قالت لأم زيد بن أرقم لما تبايع بالعينة وهي نوع من أنواع الربا قالت: أخبريه أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله إلا أن يتوب؛ وذلك لأن الربا من الموبقات المهلكات، والجهاد هو من الطاعات والحسنات العظيمة، فهذه لعظمها وشدة مقامها في أبواب الذنوب والكبائر يأتي على ذلك العمل.

وهذا يأتي كثيراً في الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا فلا صلاة له، من فعل كذا فلا حج له، وكذلك يظهر هذا في بعض الأعمال ولو كانت يسيرة فربما تبطل العمل العظيم، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( من سد الطريق فلا جهاد له )، وذلك لما نزل النبي عليه الصلاة والسلام وتزاحم الناس حتى سدوا الطرق في غزوة من الغزوات.

وفي هذا نقول: إن الحسنة تمحو السيئة، وكذلك السيئة تمحو الحسنة، ولكن الأصل أن الحسنات أقوى من السيئات من جهة التكفير، وهذا هو سبب منة الله سبحانه وتعالى على عباده بأن جعل المكفرات تتعدد على زمن واحد فتأتي على عمل واحد، فيأتي للعام الواحد ثلاث مكفرات: إذا صام الإنسان في عرفة فإنه يكفر ذلك العام والعام الباقي، ويكفر الله عز وجل بعاشوراء عاماً ماضياً، ويكفر الله سبحانه وتعالى أيضاً بعرفة التالية ذلك العام، فيأتي حينئذ العام والتكفير فيه مكرراً، وربما كان في العام الواحد ثلاث مكفرات في صيام يومين، فكيف إذا انضاف إلى ذلك ما هو من المكفرات الأخرى من رمضان إلى رمضان، والمكفرات الأسبوعية كالجمعة، أو الوقتية كالصلوات الخمس، أو الحولية كالحج، أو ما كان متباعداً غير منضبط بزمن كالعمرة وغير ذلك، فهذا أيضاً فضل من الله سبحانه وتعالى يأتي على سيئات الإنسان.

قال رحمه الله: [ويليه في الآكدية يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة لحديث: ( صوم يوم التروية كفارة سنة )، الحديث رواه أبو الشيخ بن الثواب ، و ابن النجار عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ].

صيام اليوم الثامن ويوم عرفة داخل في صيام العشر، أما تخصيصه بصيام فلا يثبت في ذلك شيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه داخل في أبواب أفضلية عشر ذي الحجة، والعمل الصالح على ما تقدم في الخبر أحب إلى الله سبحانه وتعالى من العمل في غيره.

وبعض العلماء ذكر في ذلك قاعدة وهي: أن العمل الصالح إذا كان قريباً من متأكد أو كان قريباً من واجب فإنه يتأكد، كسنن الرواتب فإن آكد النوافل تكون قبل الفرائض، ولكن نقول: هذا جاء به نص وتشريع، وما لم يكن فيه نص فالأصل فيه أنه يبقى على حاله, فيبقى صيام عشر ذي الحجة على فضلها مما دل عليه الدليل.

وصيام عشر ذي الحجة هي من الأيام المطلقة، ولا حرج على الإنسان أن يجعل قضاء رمضان أو ما كان عليه من الصيام الواجب مما أوجبه الله عليه من صيام الكفارات، أو ما كان على الإنسان من نذور صوم، أو كان يصوم عن ميت مات عن صيام فأراد أن يصوم عنه على خلاف في هذه المسألة، ربما يأتي الكلام عليها، فنقول حينئذ: إن ذلك لا حرج فيه، فيجزئه عن صيام الواجب صيامه في هذه العشر، فيؤتى بإذن الله سبحانه وتعالى الفضلين.

وهذا فضل من الله عز وجل ومنة، وتقدم عن عمر بن الخطاب أنه كان يؤخر قضاء رمضان إلى عشر ذي الحجة وذلك لفضلها، وتأخير عمر بن الخطاب لقضاء رمضان إلى عشر ذي الحجة يؤخذ منه معنى: إما أنه كان يصوم ستاً من شوال ويؤخر القضاء فيحتج به على هذا الاحتمال لقول من قال بمشروعية الصيام قبل قضاء رمضان، وفيه معنى آخر على قول وهو: أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى لم يكونوا يعتادون صيام ست من شوال.

وعلى هذا كان يصوم ويؤخر ما كان عليه من الفرض، أو كان لا يصوم النافلة وكان يؤخر القضاء فيما بعد ذلك، وكلا الأمرين محتمل، وربما ما جاء عن ابن عمر يؤيد ما جاء عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه ما أدركهم يفعلون ذلك.

وأما بالنسبة لصيام يوم عرفة للحاج فهل يصوم الحاج صيام عرفة أم لا؟ نقول: لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوم عرفة في حجه، ولا حث النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من أصحابه على صيامه في الحج.

وأما بالنسبة للفضل الوارد في أن صيام يوم عرفة يكفر السنتين: السنة الماضية، والسنة الباقية، فهل في هذا عموم يشمل حتى الحاج أم لا؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين: من العلماء من قال بمشروعية الصيام حتى في الحج، استدلوا بعموم الدليل ولا استثناء في ذلك، وأما أن النبي عليه الصلاة والسلام في ظاهر أمره لم يصم لا يدل ذلك على عدم المشروعية، فربما ترك ذلك للمشقة.

ومنهم من يقول: إن عدم الذكر لا يدل على العدم، ولكن نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصم بعرفة، وقد ذهب إلى القول بالعموم عائشة عليها رضوان الله، فقد ثبت عنها في الصحيح من حديث القاسم بن محمد عن عائشة بنت أبي بكر أنها صامت يوم عرفة في حجها.

القول الثاني: قالوا بعدم مشروعية صيام يوم عرفة للحاج، واستدلوا بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يصمه فخصص فعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله.

والذي يظهر لي والله أعلم أن الصيام في يوم عرفة للحاج على حالين:

الحالة الأولى: إذا كان الإنسان في يوم عرفة نشيطاً قوياً لا يضره الصيام عن القيام بعمل عرفة من الذكر والاجتهاد بالدعاء فإن السنة في ذلك أن يصوم.

والحالة الثانية: إذا غلب على ظنه أنه يضعف بالصيام، فلا يؤدي المشروع له في عرفة من الدعاء، والذكر، والابتهال، والتضرع لله سبحانه وتعالى، فالسنة له أن لا يصوم، لماذا قلنا بهذا التقسيم؟ لأن الإنسان بين أجرين: أولاً: النص في ذلك عام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل صيام يوم عرفة ولا يخصص ذلك إلا بمخصص بين، وأما ترك النبي عليه الصلاة والسلام للعمل فهو إما ترك للعمل تخصيصاً، أو تركه رأفة وشفقة؛ لأنه لو صام لصام الناس معه، والناس يأتون على رواحلهم وفي شمس حارة وفي فلاة، والماء معهم قليل، ويأتون من كل فج عميق، وفيهم الكبير، وفيهم الصغير، وفيهم العاجز، وفيهم المريض، وفيهم الضعيف، ومنهم من هو الخادم، ومنهم من يسوق الإبل وغير ذلك، ففيهم ناس على مراتبهم، فلو شرع النبي عليه الصلاة والسلام الصيام لهلك كثير من الناس.

فالناس يغشى عليهم وهم في طعام وشراب في مثل هذه المواضع، فكيف لو شرع لهم الصيام، فالنبي عليه الصلاة والسلام شرع ذلك دفعاً لما يعرض لكثير من الناس من مفسدة في هذا.

وإنما قلنا بالتقسيم بين هذين الأمرين؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل فضل الحج -والحج عرفة- تكفيراً لما مضى من الذنوب كلها، وصيام يوم عرفة تكفيراً لعامين، ففي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، يعني: ما بين الولادة وما بين الحج كله مكفر إذا تقبل الله سبحانه وتعالى من عبده حجه، إذاً فقوله: (ولم يرفث ولم يفسق) خرج من الذنوب كلها، هذا تكفير لعام أو لعامين أو للعمر كله؟ هو تكفير للعمر كله. ويوم عرفة إنما هو تكفير لعامين: تكفير للسنة الباقية، وللسنة الماضية، أي: للسنة الماضية من جهة الصيام.

إذاً: أيهما أولى بالرعاية وأن يأتي الإنسان فيه بالعمل الصالح بأكمله؟ هو أن يأتي الإنسان بالوقوف بعرفة تاماً كما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التضرع نشيطاً، وإذا كان الصيام يعطل العمل في يوم عرفة بسبب التغافل أو النوم، وعدم إدراك شيء من يوم عرفة لا من ذكر، ولا من دعاء، ولا من صلاة، أو غير ذلك من الأعمال الصالحة التي يؤديها الإنسان.

فحينئذ نقول له: إن عدم الصيام في ذلك أفضل ليحفظ الإنسان ما هو أعظم من ذلك، وإذا قدر أن يجمع بين الأمرين بلا مشقة فنقول حينئذ: نحفظ له كحكم خاص الجمع بين الأمرين: بين التكفير للعمر كله، وتكفير العامين.

وأما اجتماع المكفرات على زمن واحد فقد دل على ذلك الدليل، وهذا هو الأظهر وهو الذي فيما يبدو فعلته عائشة عليها رضوان الله تعالى كما جاء في الصحيح في صيام يوم عرفة في عرفة، فصامت يوم عرفة كما جاء في حديث القاسم بن محمد ، وأفطرت لما دفع الرجال، فنظرت فلما كانوا بعيدين عنها نزعت خمارها من على وجهها ثم أفطرت عليها رضوان الله تعالى.

فنأخذ من ذلك مشروعية الصيام لمن كان قادراً، ومن شق عليه فالحفاظ على أعمال عرفة بعرفة أولى من صيامهم.

قال رحمه الله: [ (وكره إفراد رجب) بالصوم لما روى أحمد عن خرشة بن الحر قال: رأيت عمر يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام ويقول: كلوا فإنما هو شهر كانت تعظمه الجاهلية، وبإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا رأى الناس وما يعدونه لرجب كرهه وقال: صوموا منه وأفطروا ].

وأما بالنسبة لرجب فلم يثبت في فضله عمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا دعاء، ولا ذكر معين، والأحاديث الواردة في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرة.

وقد نص غير واحد من الأئمة على أنه لا يثبت في فضل رجب حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, جاء ذلك عن جماعة من الأئمة كالإمام النووي ، و ابن تيمية ، و ابن رجب وغيرهم من الأئمة.

فرجب كانت تعظمه الجاهلية وورد أن فيه أحادث عظيمة، ولهذا يقولون: عش رجباً ترى عجباً، ولم يكن في ذلك شيء من الأحداث من جهة الثبوت، ولم يثبت فيه عمل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا مناسبة فاضلة دل الدليل عليها بالقطع، ومن ذلك الإسراء والمعراج، يقولون: إن الإسراء والمعراج كان في آخره في السابع والعشرين، وقيل قبيل ذلك أو بعده، ولم يثبت في هذا شيء. نعم جاء في ذلك حديث مرسل من حديث القاسم بن محمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل ضعيف.

وعلى كل نقول: إنه لم يثبت في فضل رجب حديث، وقد صنف غير واحد من الأئمة في هذا كــــأبي إسماعيل الهروي صنف في الأحاديث الواردة في فضل رجب وبين ضعفها، وأنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل رجب حديث، ولا في ليلة معينة ولا في جميعه.

وأما بالنسبة لصيامه فإنه لما كان من موروث الجاهلية تعظيم رجب بقي لديهم استحباب العمل الصالح فيه والبحث عن شيء منه، فربما كانوا يصومون ذلك، ولهذا كان ينهى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى عن الصيام فيه حتى لا يشابه الرجبية الذين يعظمون رجب بعمل صالح من غير دليل بين فيه.

ولهذا ابن عمر عليه رضوان الله تعالى يقول: صوموا منه وأفطروا، يعني: إذا أراد الإنسان أن يصوم منه فالسنة أن يصوم وأن يفطر منه حتى يبين أنه لا مزية له عن غيره.

وهنا من السياسة الشرعية أن الإنسان إذا كان في بيئة أو في زمن يعظم الناس فيه العمل في زمان أو في مكان بغير دليل، فلا حرج عليه أن لا يؤدي العبادة فيه؛ لأن حفظ دين الناس من الابتداع والإحداث أولى من أن يحفظ الإنسان عبادة كان يؤديها، كحال الإنسان الذي اعتاد مثلاً على صلاة الضحى ولا يدعها أبداً فناسب وقت صلاة الضحى وجوده في موضع تعظمه الناس من جهة الصلاة فيه، ولا دليل على تعظيمه، فالسنة له أن يدع الصلاة ولا يؤديها حتى لا يوافق أعمال المبتدعة فيؤيدهم في ذلك أو يكثر سوادهم، ولهذا عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى كان يضرب أكف المترجبين حتى يضعوها في الطعام, لا كراهة لجنس الصيام وإنما حتى لا يلبس على الناس في ذلك دينهم.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [5] 2041 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [2] 1781 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [3] 1340 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [6] 1207 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [4] 1192 استماع
شرح كتاب الصيام من منار السبيل [1] 1030 استماع