تقويم الله لغزوة أحد [5]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد وصلنا في آيات تقويم غزوة أحد إلى قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155].

وقد بين الله سبحانه وتعالى هنا تعليقًا على حدث مهم حصل في غزوة أحد، وهو انهزام طائفة من المؤمنين، وتركهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مواجهة العدو بعد أن بايعوه على القتال، وهم لا شك يرغبون في الجنة، ويرغبون في الشهادة في سبيل الله، فيحتاج إلى بيان سبب ذلك، فما السر في انهزام هؤلاء وهم من المؤمنين الصادقين؟ كيف انهزموا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه، وهم يحبونه أشد مما يحبون أنفسهم؟ وهم يرغبون في الشهادة في سبيل الله، وكانوا يتمنون الموت من قبل أن يلقوه.

استزلال الشيطان لبعض الصحابة

والجواب عن هذا الحدث: بينه الله تعالى بقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]، فلم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولا هو نقص في شجاعتهم، ولا هو نقص في إيمانهم، ولكنه استزلال من الشيطان، فقد دخل عليهم الشيطان من ثغرة، وهي بعض ما كسبوه من قبل؛ أي: إن الشيطان يستضعف الإنسان بسبب ذنوبه السابقة، فيدخل عليه من ثغرات الذنوب، ومن هنا فإن الإيمان حصن الله يدخله المؤمن فيتحصن به من الشيطان والمكاره، ولكن هذا الحصن تعروه الثغرات، وهي خدوش الإيمان وهي السيئات، فإذا اقترف الإنسان كبيرة من كبائر الإثم أو فاحشة من الفواحش، فقد حصلت ثغرة في جدار إيمانه، وهكذا كلما زاد من السيئات، كلما انتقصت حصانة هذا الحصن، وحينئذٍ يدخل الشيطان إليه من تلك الثغرات التي سببها ما اقترف من السيئات؛ فلهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ[آل عمران:155]؛ أي: انهزموا.

(يوم التقى الجمعان)؛ أي: يوم التقى حزب الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وحزب الشيطان وهم المشركون.

إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]؛ أي: استدرجهم حتى وقعوا في الزلل، ويقال: زل الفارس عن ظهر الفرس، إذا سقط عنه، ومنه قول امرئ القيس:

كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

فالمقصود بذلك: أنهم وقعوا في مزلة- وهي فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من قبل الشيطان، فهو الذي استدرجهم إلى ذلك: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]، كيف يسلط عليهم الشيطان؟

سبب استزلال الشيطان لبعض الصحابة

جواب ذلك: بما اكتسبوا: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155]؛ أي: ببعض سيئاتهم السابقة التي اقترفوها، فكانت سبيلًا للشيطان عليهم حتى استزلهم إلى الوقوع في هذا الذنب، وهذا درس عظيم يدل أهل الإيمان على أن كل إنسان اختاره الله وشرفه بهذا الإيمان عليه أن يحصن إيمانه، وأن يحذر من الثغرات التي يدخل منها الشيطان، فإن كبائر الإثم والفواحش هي صدوع في جدار الإيمان، وبعدها الصغائر أيضًا سبب لاقتراف الكبائر، وبعد ذلك المكروهات سبب للوقوع في الصغائر، وبعد ذلك خلاف الأولى، فاقترافه سبب للدخول في المكروهات، وبعد ذلك عدم الورع عن الشبهات، فهو سبب للدخول في خلاف الأولى، فكل هذه الشريعة متدرجة؛ ولهذا فهي بمثابة الشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

فأكارع الإيمان هي عروق الشجرة، ولحاؤه؛ أي: قشرة الجذع، هي التي ترد عنه، فإذا اقتُطع شيء من هذه القشرة، دب اليبس في مكانه وما يقابله من الجذع، فيتأثر بذلك أصولها وأطرافها.

فالشجرة تتمدد، ولكن تمددها يتأثر بتأثر انقطاع الماء أو اليبس عن أطرافها، فإذا قطع عرق من عروقها أو قُشِّر بعض قشورها، فذلك سبب ليبس بعض أطرافها، وتراجع تمددها.

ولهذا كان على كل إنسان أن يحرص على إيمانه؛ حتى لا يكون عرضة للعب الشيطان به، فما منا أحد لديه ضمانة أن يموت على الإيمان، وكلنا يحرص على حسن الخاتمة، وهذا الحرص لا يمكن أن يكون مجرد التمني أو التظني، بل لابد أن يطابقه عمل، والذي يريد حسن الخاتمة لابد أن يحرص على تقوى الله، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والتقرب إليه بالأعمال الصالحة؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف).

فهنا بيَّن أن من كان يريد حسن الخاتمة، وأن يموت على الإيمان، فعليه أن يحافظ على هذه الصلاة، فهي الضمان والعهد الذي يحول بين إيمانه وبين الانتقاض؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

فإذا خدش شيء من الصلاة اقتضى ذلك الاستدراج في أصل الإيمان، فتيبس أطرافه وأكارعه، ثم لا يزال ينقص حتى يتراجع بالكلية.

ومن هنا على كل إنسان منا أن يعلم أن الحسنة تدعو إلى الحسنة، وأن السيئة تدعو إلى السيئة، فإذا أخلصت فقمت في الليل والناس نيام، فذكرت الله وتوضأت وصليت ركعتين، فهذه الحسنة سيوفقك الله بها لحسنة أكبر منها، فتوفق مثلًا للدعوة في سبيل الله، فإذا أخلصت في ذلك وفقت للحج المبرور، فإذا أخلصت في ذلك وفقت للجهاد في سبيل الله، وهكذا، فهذا التدرج بالحسنات، كل حسنة تدعو الإنسان إلى حسنة أكبر منها، وفي مقابله السيئات، فكل سيئة تدعو إلى سيئة أخرى أكبر منها، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولهذا قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155].

والجواب عن هذا الحدث: بينه الله تعالى بقوله: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]، فلم يفعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم، ولا هو نقص في شجاعتهم، ولا هو نقص في إيمانهم، ولكنه استزلال من الشيطان، فقد دخل عليهم الشيطان من ثغرة، وهي بعض ما كسبوه من قبل؛ أي: إن الشيطان يستضعف الإنسان بسبب ذنوبه السابقة، فيدخل عليه من ثغرات الذنوب، ومن هنا فإن الإيمان حصن الله يدخله المؤمن فيتحصن به من الشيطان والمكاره، ولكن هذا الحصن تعروه الثغرات، وهي خدوش الإيمان وهي السيئات، فإذا اقترف الإنسان كبيرة من كبائر الإثم أو فاحشة من الفواحش، فقد حصلت ثغرة في جدار إيمانه، وهكذا كلما زاد من السيئات، كلما انتقصت حصانة هذا الحصن، وحينئذٍ يدخل الشيطان إليه من تلك الثغرات التي سببها ما اقترف من السيئات؛ فلهذا قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ[آل عمران:155]؛ أي: انهزموا.

(يوم التقى الجمعان)؛ أي: يوم التقى حزب الله، وهو النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، وحزب الشيطان وهم المشركون.

إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]؛ أي: استدرجهم حتى وقعوا في الزلل، ويقال: زل الفارس عن ظهر الفرس، إذا سقط عنه، ومنه قول امرئ القيس:

كميت يزل اللبد عن حال متنه كما زلت الصفواء بالمتنزل

فالمقصود بذلك: أنهم وقعوا في مزلة- وهي فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من قبل الشيطان، فهو الذي استدرجهم إلى ذلك: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ[آل عمران:155]، كيف يسلط عليهم الشيطان؟

جواب ذلك: بما اكتسبوا: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155]؛ أي: ببعض سيئاتهم السابقة التي اقترفوها، فكانت سبيلًا للشيطان عليهم حتى استزلهم إلى الوقوع في هذا الذنب، وهذا درس عظيم يدل أهل الإيمان على أن كل إنسان اختاره الله وشرفه بهذا الإيمان عليه أن يحصن إيمانه، وأن يحذر من الثغرات التي يدخل منها الشيطان، فإن كبائر الإثم والفواحش هي صدوع في جدار الإيمان، وبعدها الصغائر أيضًا سبب لاقتراف الكبائر، وبعد ذلك المكروهات سبب للوقوع في الصغائر، وبعد ذلك خلاف الأولى، فاقترافه سبب للدخول في المكروهات، وبعد ذلك عدم الورع عن الشبهات، فهو سبب للدخول في خلاف الأولى، فكل هذه الشريعة متدرجة؛ ولهذا فهي بمثابة الشجرة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

فأكارع الإيمان هي عروق الشجرة، ولحاؤه؛ أي: قشرة الجذع، هي التي ترد عنه، فإذا اقتُطع شيء من هذه القشرة، دب اليبس في مكانه وما يقابله من الجذع، فيتأثر بذلك أصولها وأطرافها.

فالشجرة تتمدد، ولكن تمددها يتأثر بتأثر انقطاع الماء أو اليبس عن أطرافها، فإذا قطع عرق من عروقها أو قُشِّر بعض قشورها، فذلك سبب ليبس بعض أطرافها، وتراجع تمددها.

ولهذا كان على كل إنسان أن يحرص على إيمانه؛ حتى لا يكون عرضة للعب الشيطان به، فما منا أحد لديه ضمانة أن يموت على الإيمان، وكلنا يحرص على حسن الخاتمة، وهذا الحرص لا يمكن أن يكون مجرد التمني أو التظني، بل لابد أن يطابقه عمل، والذي يريد حسن الخاتمة لابد أن يحرص على تقوى الله، والخوف من عقابه، ورجاء ثوابه، والتقرب إليه بالأعمال الصالحة؛ ولهذا أخرج مسلم في الصحيح، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإنهن من سنن الهدى، وإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى، ولعمري لو أن كل أحد منكم صلى في بيته كما يفعل هذا المتخلف لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق، ولقد رأيت الرجل يهادى بين الرجلين حتى يدرج في الصف).

فهنا بيَّن أن من كان يريد حسن الخاتمة، وأن يموت على الإيمان، فعليه أن يحافظ على هذه الصلاة، فهي الضمان والعهد الذي يحول بين إيمانه وبين الانتقاض؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حد ما بين العبد والكفر والشرك ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر).

فإذا خدش شيء من الصلاة اقتضى ذلك الاستدراج في أصل الإيمان، فتيبس أطرافه وأكارعه، ثم لا يزال ينقص حتى يتراجع بالكلية.

ومن هنا على كل إنسان منا أن يعلم أن الحسنة تدعو إلى الحسنة، وأن السيئة تدعو إلى السيئة، فإذا أخلصت فقمت في الليل والناس نيام، فذكرت الله وتوضأت وصليت ركعتين، فهذه الحسنة سيوفقك الله بها لحسنة أكبر منها، فتوفق مثلًا للدعوة في سبيل الله، فإذا أخلصت في ذلك وفقت للحج المبرور، فإذا أخلصت في ذلك وفقت للجهاد في سبيل الله، وهكذا، فهذا التدرج بالحسنات، كل حسنة تدعو الإنسان إلى حسنة أكبر منها، وفي مقابله السيئات، فكل سيئة تدعو إلى سيئة أخرى أكبر منها، نسأل الله السلامة والعافية؛ ولهذا قال: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155].

ومع ذلك بشر الله هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم بأمر مهم، وهو أن الله قد عفا عنهم فرارهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو لا شك كبيرة عظيمة، ولكن تداركهم الله برحمته ومغفرته، فعفا عنهم، وهذا يؤخذ منه درس عظيم آخر، وهو أن الإنسان لو اقترف السيئات، فإنه يبقى دائمًا على أمل مغفرة الله تعالى؛ فالقنوط من رحمة الله ليس من شأن أهل الإيمان، وقد قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ[الحجر:56].

وقال: وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ[يوسف:87].

حسن الظن بصحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج أهل السنة في ذلك

ومن هنا فيبقى الإنسان على كل حال حسن الظن بالله تعالى، وهو يؤمل مغفرته ورضوانه، ثم من هذا الدرس أيضًا: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرون بأن يظن بهم أحسن الظنون، وأن يلتمس لهم الأعذار، وألا يظن بهم ظن السوء؛ فهم أقرب هذه الأمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولاهم بشفاعته، ولهم سابقتهم في الإسلام وبلاؤهم فيه، وكل ذلك يكفر سيئاتهم، فنحن نعلم أنهم غير معصومين، ولكننا نعلم أن سيئاتهم لها كثير من الدواعي لمغفرتها، فقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتهم له، وجهادهم معه، ودفاعهم عنه، وسبقهم في الإسلام، وجهادهم، ونفقتهم من قبل الفتح، كل ذلك يجعلهم أولى بالمغفرة والرضوان، فنحن نواليهم جميعًا، ولا نعادي أحدًا منهم، ونترضى عنهم جميعًا، ونسأل الله أن يرضى عنهم، وأن يبعثنا معهم، وأن يحشرنا في زمرتهم.

وبهذا ينفصل أهل السنة عن أهل البدعة، فأهل البدعة لا يوالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفصلون فيهم، فمنهم من يكفرهم، ومنهم من يطعن فيهم، ومنهم من يلعنهم، نسأل الله السلامة والعافية.

وقد سمع مالك بن أنس رحمه الله رجلًا من الخوارج يلعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال: أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا. قال: أفأنت من الذين آووا ونصروا؟ قال: لا. قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].

التجاوز عن عثرات وزلات السلف

ومن هذا الدرس أيضًا: أن سلفنا الصالح إذا درسنا تاريخهم، فعلينا أن نتجاوز عن العثرات، وألا نقف عندها كثيرًا، وأن نبحث في الوجوه الناصعة والعمل الصالح الكثير الطيب، فنتعلق به، وألا نتعلق بتلك الهنوات والهفوات؛ فهي لا تعد في سبيل ما قدموا، ومن هنا قال ابن القيم رحمه الله: (زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).

فلا مقارنة بيننا وبين سلفنا الصالح؛ ولذلك لابد أن نلتمس لهم أحسن المخارج، وأن نظن بهم أحسن الظنون، وإذا وجدنا خطأً لبعضهم حتى لو كان من القرون المتأخرة، لو كان من أجدادنا وآبائنا فوجدناه وقع في خطأ من الأخطاء الكبيرة، علينا أن نقارن ذلك أيضًا بما قدمه من الأعمال الصالحة، فإنهم لم يكونوا يأكلون الربا، ولم يكونوا يوالون اليهود، ولم يكونوا يناصرون المبطلين، وقد نجوا من كثير مما يقع فيه كثير منا اليوم؛ فلذلك تلتمس لهم الأعذار، ويظن بهم ظن الخير.

ومثل ذلك: كل من عرف بالخير من الداعين إلى الله، أو العلماء، أو الصالحين، أو الذين عرفوا بأي وجه من أوجه الخير، يعلم أن ما قدموه من الخير هو أكبر من تلك الهنوات والهفوات التي وقعوا فيها، والله تعالى يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويكفر الكبائر بالتوبة؛ ولذلك فأعمالهم الصالحة تقتضي منا رجاء أن يغفر الله لهم وأن يتجاوز عنهم.

ترك تقويم الرجال بالزلات والنظر للخواتيم

كذلك من هذا الدرس: أن علينا أن نعلم أن تقويم الرجال ليس بهذه الزلات، فالعبرة بالخواتم، فكثير هم أولئك الذين إذا ذكر عندهم أحد من أعلام هذه الأمة، قالوا: فيه وفيه، فيذكرون بعض ما فيه من الزلات والأخطاء، وينسون زلات أنفسهم، ولا يعلمون أن الله تعالى عندما ذكر ذنب هؤلاء العظيم، قال بعده: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155]، فالتمس لهم العذر، ثم قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155]، هل بعد هذا كلام؟

لا يمكن أن يذكر هذا الذنب بعد أن عافاه الله سبحانه وتعالى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بوصفين عظيمين في هذا المقام، وهما يناسبان القرح والمصيبة، فإذا جاءت المصائب فإن القرآن يأتي لتثبيت المؤمنين، وتقوية شخصياتهم، في أوقات الضعف يأتي ذكر صفات الله المشجعة لأهل الإيمان، فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

هنا لم يقل: (إن الله شديد العقاب) بل جاء بهذين الوصفين العظيمين اللذين يعيدان إلى المؤمن رغبته في الله، واتصاله به، وقوة شخصيته وتمام عزيمته؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155]، وقد سبق أن المغفرة: هي ستر الذنب في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، والحلم معناه: عدم المبادرة إلى الأخذ بالحق، فالحليم هو من لا يبادر إلى الأخذ بالحق، والله سبحانه وتعالى من تمام كرمه أن يحلم عن المسيئين، فلا يؤاخذهم بحقه، ويمهل به؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

ومن هنا فيبقى الإنسان على كل حال حسن الظن بالله تعالى، وهو يؤمل مغفرته ورضوانه، ثم من هذا الدرس أيضًا: أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جديرون بأن يظن بهم أحسن الظنون، وأن يلتمس لهم الأعذار، وألا يظن بهم ظن السوء؛ فهم أقرب هذه الأمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأولاهم بشفاعته، ولهم سابقتهم في الإسلام وبلاؤهم فيه، وكل ذلك يكفر سيئاتهم، فنحن نعلم أنهم غير معصومين، ولكننا نعلم أن سيئاتهم لها كثير من الدواعي لمغفرتها، فقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحبتهم له، وجهادهم معه، ودفاعهم عنه، وسبقهم في الإسلام، وجهادهم، ونفقتهم من قبل الفتح، كل ذلك يجعلهم أولى بالمغفرة والرضوان، فنحن نواليهم جميعًا، ولا نعادي أحدًا منهم، ونترضى عنهم جميعًا، ونسأل الله أن يرضى عنهم، وأن يبعثنا معهم، وأن يحشرنا في زمرتهم.

وبهذا ينفصل أهل السنة عن أهل البدعة، فأهل البدعة لا يوالون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويفصلون فيهم، فمنهم من يكفرهم، ومنهم من يطعن فيهم، ومنهم من يلعنهم، نسأل الله السلامة والعافية.

وقد سمع مالك بن أنس رحمه الله رجلًا من الخوارج يلعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه، فقال: أأنت من المهاجرين الأولين؟ قال: لا. قال: أفأنت من الذين آووا ونصروا؟ قال: لا. قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان، فقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].

ومن هذا الدرس أيضًا: أن سلفنا الصالح إذا درسنا تاريخهم، فعلينا أن نتجاوز عن العثرات، وألا نقف عندها كثيرًا، وأن نبحث في الوجوه الناصعة والعمل الصالح الكثير الطيب، فنتعلق به، وألا نتعلق بتلك الهنوات والهفوات؛ فهي لا تعد في سبيل ما قدموا، ومن هنا قال ابن القيم رحمه الله: (زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).

فلا مقارنة بيننا وبين سلفنا الصالح؛ ولذلك لابد أن نلتمس لهم أحسن المخارج، وأن نظن بهم أحسن الظنون، وإذا وجدنا خطأً لبعضهم حتى لو كان من القرون المتأخرة، لو كان من أجدادنا وآبائنا فوجدناه وقع في خطأ من الأخطاء الكبيرة، علينا أن نقارن ذلك أيضًا بما قدمه من الأعمال الصالحة، فإنهم لم يكونوا يأكلون الربا، ولم يكونوا يوالون اليهود، ولم يكونوا يناصرون المبطلين، وقد نجوا من كثير مما يقع فيه كثير منا اليوم؛ فلذلك تلتمس لهم الأعذار، ويظن بهم ظن الخير.

ومثل ذلك: كل من عرف بالخير من الداعين إلى الله، أو العلماء، أو الصالحين، أو الذين عرفوا بأي وجه من أوجه الخير، يعلم أن ما قدموه من الخير هو أكبر من تلك الهنوات والهفوات التي وقعوا فيها، والله تعالى يكفر الصغائر باجتناب الكبائر، ويكفر الكبائر بالتوبة؛ ولذلك فأعمالهم الصالحة تقتضي منا رجاء أن يغفر الله لهم وأن يتجاوز عنهم.

كذلك من هذا الدرس: أن علينا أن نعلم أن تقويم الرجال ليس بهذه الزلات، فالعبرة بالخواتم، فكثير هم أولئك الذين إذا ذكر عندهم أحد من أعلام هذه الأمة، قالوا: فيه وفيه، فيذكرون بعض ما فيه من الزلات والأخطاء، وينسون زلات أنفسهم، ولا يعلمون أن الله تعالى عندما ذكر ذنب هؤلاء العظيم، قال بعده: إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمْ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا[آل عمران:155]، فالتمس لهم العذر، ثم قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ[آل عمران:155]، هل بعد هذا كلام؟

لا يمكن أن يذكر هذا الذنب بعد أن عافاه الله سبحانه وتعالى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بوصفين عظيمين في هذا المقام، وهما يناسبان القرح والمصيبة، فإذا جاءت المصائب فإن القرآن يأتي لتثبيت المؤمنين، وتقوية شخصياتهم، في أوقات الضعف يأتي ذكر صفات الله المشجعة لأهل الإيمان، فقال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

هنا لم يقل: (إن الله شديد العقاب) بل جاء بهذين الوصفين العظيمين اللذين يعيدان إلى المؤمن رغبته في الله، واتصاله به، وقوة شخصيته وتمام عزيمته؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155]، وقد سبق أن المغفرة: هي ستر الذنب في الدنيا، وعدم المؤاخذة به في الآخرة، والحلم معناه: عدم المبادرة إلى الأخذ بالحق، فالحليم هو من لا يبادر إلى الأخذ بالحق، والله سبحانه وتعالى من تمام كرمه أن يحلم عن المسيئين، فلا يؤاخذهم بحقه، ويمهل به؛ فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

كذلك من هذا الموقف تؤخذ عبر أخرى تقتضي أن القرائن التي تتصل بالذنوب خمسة أقسام، وهي أشد ضررًا على الإيمان من اقتراف الذنب نفسه:

إكبار الذنب وتعظيمه

فأولها: إكبار الذنب وتعظيمه حتى يظن الإنسان أنه أكبر من مغفرة الله، فهذا سبب للقنوط من رحمة الله، وقد حذر الله منه.

احتقار الذنب وعدم الاهتمام بالتوبة منه

والثاني: احتقار الذنب حتى لا يقدره الإنسان ولا يهتم بالتوبة منه، وهذا أمن لمكر الله، وقد قال ابن مسعود: (إن ذنب المنافق كذباب نزل على أنفه فنفاه بيده هكذا، وذنب المؤمن كجبل فوق رأسه يخاف أن يقع عليه).

الإصرار على الذنب

والثالث: الإصرار على الذنب، فإن الإصرار على الذنب يقتضي إزالة الحياء من الله سبحانه وتعالى من القلب، فالإصرار على الذنب: أن يفعله الإنسان في الصباح، فيقدم الملائكة تقريرًا فيه إلى الله: يا رب عبدك فلان اقترف الذنب الفلاني، ثم في المساء يقدمون تقريرًا آخر، وفي صباح اليوم الآخر، وفي مسائه: يا رب، عبدك فلان ما زال مصرًّا على الذنب الذي فعل، فيزول حياؤه من الله بالكلية، نسأل الله السلامة العافية.

وهذا منافٍ لاستمراء الإيمان ومحبته؛ فأهل الإيمان إذا وقعوا في الذنوب، بادروا إلى التوبة، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ[الأعراف:201-202].

أي: إن أهل التقوى إذا مسهم طائف من الشيطان، والطائف: بمثابة الريح، نسيم الريح الذي يأتي فجأة، (إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا) أي: ذكروا الله، (فإذا هم مبصرون).

وإخوانهم: أي: إخوان الشياطين، يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون.

وفي القراءة السبعية الأخرى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَيفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ[الأعراف:201]، والطيف: ما يرى في المنام، وهو في مدة يسيرة جدًّا، فالثانية الواحدة يرى فيها الإنسان رؤيا طويلة؛ فلذلك استزلال الشيطان بالمؤمنين الصادقين لابد أن يكون بمثابة الطيف الذي يرى في المنام، أو الطائف الذي يأتي من النسيم، فهو يسير قليل، ومع ذلك قد يوقعه في معصية، لكن يبادر بعدها إلى التوبة، فيمحو الله عنه تلك السيئة.

الجهر بالذنب

ثم بعد هذا: الرابع: الجهر بالذنب، فهو دعوة إليه؛ لأن الإنسان ما لم يرَ الذنب فهو بمأمن عنه، فإذا رآه وتكررت عليه رؤيته، فذلك داعٍ لمواقعته، وكثرة المساس تزيل الإحساس.

الجرأة على الذنب والجسارة عليه

ثم بعد هذا: الخامس: هو الجرأة على الذنب، والجسارة عليه، بأن يكون الإنسان لا يحس بأن بينه وبين المعصية حاجزا، فهو يقع فيها ويبادر إليها كأنه لا يحس بالعقوبة، ولا يحس برقابة الله عليه، وهذا جسور على الذنب، فقد خمدت جذوة الإيمان في قلبه، وإذا خمدت الجذوة فذلك مقتضٍ من الإنسان المبادرة إلى المعصية- نسأل الله السلامة والعافية- فلذلك قال: وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ[آل عمران:155].

فأولها: إكبار الذنب وتعظيمه حتى يظن الإنسان أنه أكبر من مغفرة الله، فهذا سبب للقنوط من رحمة الله، وقد حذر الله منه.




استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
تقويم الله لغزوة أحد [2] 3654 استماع
تقويم الله لغزوة أحد [1] 3400 استماع
تقويم الله لغزوة أحد [4] 3154 استماع
تقويم الله لغزوة أحد [3] 1742 استماع