تعدد الزوجات والحرب الإعلامية [1]


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

لقد اشتهر عند العلماء والعامة قولٌ وهو: (إن لحوم العلماء مسمومة) ومعنى هذا أنه إذا حَرُم على الإنسان أن يغتاب أخاه المسلم، أو يأكل لحمه، فلا شك أن حرمة العالم أجل من حرمة المسلم مطلقاً؛ لأنه جمع الإسلام والعلم، فهو يزيد على الرجل العامي بدرجة العلم، ولأن منصب العلماء بين الناس هو كمنصب الرسول؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورثوا العلم)، والعلماء هم ورثة الأنبياء، وهم الذين يبلغون رسالات الله، فيجب أن تصان أعراضهم؛ لأن النيل من عرض العالم قد يضر بدعوته، لذلك كان لحمه مسموماً، وقلّما تجد رجلاً طعن فيه أو نال منه إلا هتكه الله عز وجل.

فإذا كان لحم العالم مسموماً فلا شك أن لحم النبي أشد سماً، وأنه لا يجوز لأحدٍ قط أن يسب نبياً أو يغمزه تحت أي دعوى.

وعلماؤنا صنفوا بعض التصانيف في مثل هذا الباب، وأقدم من علمته صنف في هذا الباب أبو الحسن الحموي ، صنف كتاباً أسماه (تنزيه الأنبياء عما نسبه إليهم حثالة الأغبياء)، وللسيوطي أيضاً رسالة (تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء)، جاء فيها: أنه لا يجوز أن تصف نبياً بما يكون في العرف غير كريم، وإن كان كذلك.

فمثلاً: لو افترضنا أن رعي الغنم في بلدنا هذه مهنة حقيرة، فلا يجوز أن تقول: الرسول عليه الصلاة والسلام كان راعي غنم، نعم هو كان راعي غنم، لكن عندما ذكرت رعيه للغنم في هذه المنطقة كان ذلك وضعاً من شأنه صلى الله عليه وسلم، وإذا كانت مهنة النجارة محتقرة في مكانٍ ما، فلا يجوز لك في معرض الدفاع عن نفسك أن تقول: زكريا عليه السلام كان نجاراً؛ لأن الكلام سياقٌ وسباقٌ ولحاق، فلا تأت بجملة وحدها، فتجزئها وتترك أولها وآخرها.

نعم زكريا عليه السلام كان نجاراً كما في الحديث، لكنك إنما ذكرتها في معرض الدفاع عن نفسك وعن هذه المهنة، والعلماء إنما قالوا ذلك صيانةً لجناب النبوة؛ لأنهم هم المبلغون عن الله تبارك وتعالى.

التعريض بيعقوب عليه السلام بغرض الطعن في مشروعية تعدد الزوجات

حين يأتي الرجل يريد أن يدافع عن فكرة معينة، فلا يجوز له أن يدافع عنها بلمز أحد من الأنبياء، وحين يأتي رجل يكتب: أن تعدد الزوجات من أكبر المضار، ويستدل على ذلك بقصة يعقوب عليه السلام!

نقول له: ما علاقة يعقوب عليه السلام بالموضوع؟ فيتعلل بأنه كان متزوجاً من امرأتين، ثم حصل حقد بينهما، وانعكس هذا الحقد على الأبناء، فقام إخوة يوسف بإلقائه في الجب؛ لأن الإخوة من الأب يكرهون بعضهم بعضاً، كما أن الأب معرض لعدم تمكنه من أن يعدل، فإذا كان هذا حدث لنبي فما بالك بغيره؟

إن مثل هذا الكلام في وجود سلطان شرعي لابد وأن يحد قائله حد المفتري، لأنه كاذب؛ وهل الإخوة الأشقاء لا يقتل بعضهم بعضاً؟ فالعلة موجودة في الإخوة الأشقاء.

وهل يعقوب عليه السلام فضل يوسف على سائر أخوته تفضيلاً سائغاً أم تفضيلاً متكلفاً فيه، يطعن عليه به؟

إن الوالد يكون له وجهة نظر في بذل العطاء والحنان لولدٍ دون آخر، ولا يكون ذلك تفرقةً منه، ولا يعرف هذا إلا من رزق الولد.

فحنان الوالد حنان فطري خلقه الله فيه، وهو سبب لوجود ابنه في هذه الدنيا، وقد ترتب على هذا الفرق بين الولد والوالد في هذه المسألة أحكام شرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقاد للولد من والده) بمعنى: لو أن والداً قتل ابنه لا يقتل الوالد به، لكن لو أن الولد قتل الوالد يقتل.. ما هو الفرق؟

الفرق: أن الوالد لا يمكن أن يقتل ابنه إلا إذا زال عقله؛ لأن حنانه جبلي .. فطري .. مخلوق فيه، أما الولد فمسألة أن يقتل أباه مسألة سهلة، أو أن يعق أباه، أو أن يرى أباه يبكي قائلاً: يا بني! أطعني في هذا المعروف. بينما الولد شارد؛ لأن حبه تصنع وتكلف.

بعض المقتضيات الفطرية لدى الآباء للتمييز بين الأبناء في المعاملة والعطاء

أسوق مثالاً لأبين أن التفضيل بين الأولاد لا يكون ظلماً أحياناً.

سئلت أم: من هو أعز ولدك؟

قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والمسافر حتى يعود.

فالمقتضى لتمييز بعض الأبناء موجود في هذه الأحوال، وهو: البعد، والصغر، والمرض، فلو مرض ولدك الصغير فإن قلبك يتفطر عليه، لكن لو مرض ولدك الكبير، تقول له: تحمل، أنت رجل؛ لأن الولد الصغير لا يدرك معنى الألم فلا يمكنه الإفصاح عما يعتريه، ولا يعرف معنى الصبر، لكن إذا كبر الولد، فقل له: تحمل، (أشد الناس بلاءً الأنبياء..) فهو يفهم الكلام فيتأسى، بخلاف الصغير، ولذلك تجد حنانك وحزنك على الصغير أعظم من حزنك على الكبير.

فيوسف عليه السلام كان صغيراً إذ ذاك، وإخوته قالوا: (ونحن عصبة). أي: كبار وكثر.

وبعض الناس يقول: إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء.. والصواب أنهم غير أنبياء؛ لأن الأنبياء باتفاق أهل السنة -بل باتفاق علماء الإسلام جميعاً، بل باتفاق المبتدعة منهم- لا يرتكبون الكبائر لا قبل النبوة ولا بعد النبوة أبداً؛ لأنه إذا ارتكب نبيٌ جريمةً نكراء قبل النبوة يعير بها، فصيانةً لجناب النبوة لا يحفظ عليه كبيرة أبداً قبل النبوة فضلاً عن بعد النبوة، وهم أيضاً منزهون عن الصغائر على القول الراجح.

وإخوة يوسف فعلوا فعلين كلاهما كبير، لما قالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ [يوسف:9]، ولما قالوا: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] فهم أتوا بأمرين: عقوق، وهمٌّ بالقتل؛ فألقوه في الجب بقصد أن يموت، فكأنهم قتلوه، فإن الرجل لو ذهب لآخر وضربه ضربةً لأجل أن يموت فخر صريعاً فمضى الرجل، ثم أفاق المضروب بعد قليل؛ فإن الضارب يعامل معاملة القاتل في الآخرة؛ لأنه لما ضرب أراد أن يقتل، والنية في هذه المسائل معتبرة.

هل يعقوب عليه السلام لما تزوج بامرأتين لم يكن يعدل بين أولاده حتى كان هو السبب في قول الإخوة: اقتلوا يوسف؟

أنا لا أريد أن أفيض كثيراً في محاسن تعدد الزوجات؛ لأنه من محاسن الشرع، دعك من أهواء الناس، وهذا الكلام قد لا يرضي عامة النساء، لكن ما جاء الدين لإرضاء أهواء الناس، إنما نزل الدين مهيمناً على الكل، أليس الدين قيداً؟ ألسنا أسراء في يد الشريعة؟ بلى.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالمؤمن مسجون بالتكاليف الشرعية: افعل، لا تفعل، ليس هناك حلالٌ مطلق في الدنيا، كل ما يخطر ببالك أن تفعله لا تستطيع أن تفعله؛ لأنك في الدنيا كالمسجون تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أول رؤيا بعض الصحابة -أظنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو غيره- لما رأى نفسه مقيداً في المنام بقيد، فأولَ القيد بأنه الدين، يعني: دينه متين، الدين قيد، لا تستطيع أن تفعل كل الذي تريد دون ضابط، لأن ديننا جاء ليهيمن على الخلق لا ليتنزل على هوى كل إنسان.

حصر حق الزوج في التعدد بوجود ضرورة أو عيب في الزوجة

نحن في مسألة إنكار تعدد الزوجات صرنا كالنصارى بكل أسف، حتى إنك قد تجد رجلاً ينسب إلى الالتزام في هذا الباب -أيضاً- كالعوام، فحين يتزوج زوج ابنته بأخرى يأتيه قائلاً: لماذا تتزوج على ابنتي؟ هل ابنتي فيها عيب؟ هل ابنتي مقصرة في شيء؟ فنقول: هل الزواج الثاني لابد أن يكون عن تقصير من الأولى؟! أو بسبب علة فيها؟! من الذي قال ذلك؟

والله تبارك وتعالى يقول: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [النساء:3] والكلام السابق رد لهذا، إذا لم يرد ذكر للعلة فلو قال الرجل: أريد الزواج بالثانية بلا علة، فالزواج بها يشرح صدري، ويقربني من ربي، ويمكنني من أن أتمتع بالمتعة الحلال، وهذا هو مقتضى اللفظ: (انكحوا ما طاب لكم) فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].

لكن حين يأتي هؤلاء وينزعون الكلمة من السياق، ويقدمون للناس أحكاماً مبتورة: أن الزواج الثاني لا يكون إلا لعلة، ولابد من استشارة الزوجة الأولى في الزواج؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل ذلك!! وأنا لا أدري أهذا كذبٌ على الله عز وجل أم جهلٌ، وكلاهما مر، هل النبي صلى الله عليه وسلم لما أبى أن ينكح علي بن أبي طالب على ابنته إلا أن يطلقها كان من هذا الباب؟ لا.

إن استدلالهم بهذا الحديث يذكرني بمن يقول: إن مكر النساء وكيدهن أعظم من كيد الشيطان، فتقول له: كيف يكون ذلك ولا يوجد أعدى من الشيطان الرجيم؟ يقول لك: يا أخي! هذا في القرآن، قال الله عز وجل: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وقال بالنسبة للشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، فبين أن كيدهن عظيم، وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، واضح جداً من القرآن.

وليس الأمر كما يزعم؛ لأنه إنما استل هذه الجملة من السياق، واستلال الجملة من السياق بغير نظرٍ إلى السباق واللحاق جريمةٌ في حق المعنى، ففي قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] نقول: نعم، إذا قورن كيدهن بكيد الرجال؛ لأن الناس ما هم إلا رجلٌ وامرأة، فإذا قورن كيد الرجال بكيد النساء كان كيدهن عظيماً فعلاً، لكن كيد الشيطان.. لماذا كان ضعيفاً؟ عندما تقرأ السياق يتضح المقام، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] (ضعيفاً)؛ لأنه مقابل بكيد الله، فصار ضعيفاً لذلك الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:76]، وهو معهم وناصرهم، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [النساء:76]، أي: يا أيها الذين آمنوا -الذين مولاهم الله- قاتلوا أولياء الشيطان؛ لأن الله مع الذين آمنوا، والشيطان مع الذين كفروا، فصار هناك مقابلة فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]؛ لأنه مقابل بكيد الله عز وجل، فما معنى أن نأخذ شطر آية مع شطر آية أخرى ونضربهما ببعض؟!

حين يأتي الرجل يريد أن يدافع عن فكرة معينة، فلا يجوز له أن يدافع عنها بلمز أحد من الأنبياء، وحين يأتي رجل يكتب: أن تعدد الزوجات من أكبر المضار، ويستدل على ذلك بقصة يعقوب عليه السلام!

نقول له: ما علاقة يعقوب عليه السلام بالموضوع؟ فيتعلل بأنه كان متزوجاً من امرأتين، ثم حصل حقد بينهما، وانعكس هذا الحقد على الأبناء، فقام إخوة يوسف بإلقائه في الجب؛ لأن الإخوة من الأب يكرهون بعضهم بعضاً، كما أن الأب معرض لعدم تمكنه من أن يعدل، فإذا كان هذا حدث لنبي فما بالك بغيره؟

إن مثل هذا الكلام في وجود سلطان شرعي لابد وأن يحد قائله حد المفتري، لأنه كاذب؛ وهل الإخوة الأشقاء لا يقتل بعضهم بعضاً؟ فالعلة موجودة في الإخوة الأشقاء.

وهل يعقوب عليه السلام فضل يوسف على سائر أخوته تفضيلاً سائغاً أم تفضيلاً متكلفاً فيه، يطعن عليه به؟

إن الوالد يكون له وجهة نظر في بذل العطاء والحنان لولدٍ دون آخر، ولا يكون ذلك تفرقةً منه، ولا يعرف هذا إلا من رزق الولد.

فحنان الوالد حنان فطري خلقه الله فيه، وهو سبب لوجود ابنه في هذه الدنيا، وقد ترتب على هذا الفرق بين الولد والوالد في هذه المسألة أحكام شرعية، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقاد للولد من والده) بمعنى: لو أن والداً قتل ابنه لا يقتل الوالد به، لكن لو أن الولد قتل الوالد يقتل.. ما هو الفرق؟

الفرق: أن الوالد لا يمكن أن يقتل ابنه إلا إذا زال عقله؛ لأن حنانه جبلي .. فطري .. مخلوق فيه، أما الولد فمسألة أن يقتل أباه مسألة سهلة، أو أن يعق أباه، أو أن يرى أباه يبكي قائلاً: يا بني! أطعني في هذا المعروف. بينما الولد شارد؛ لأن حبه تصنع وتكلف.

أسوق مثالاً لأبين أن التفضيل بين الأولاد لا يكون ظلماً أحياناً.

سئلت أم: من هو أعز ولدك؟

قالت: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والمسافر حتى يعود.

فالمقتضى لتمييز بعض الأبناء موجود في هذه الأحوال، وهو: البعد، والصغر، والمرض، فلو مرض ولدك الصغير فإن قلبك يتفطر عليه، لكن لو مرض ولدك الكبير، تقول له: تحمل، أنت رجل؛ لأن الولد الصغير لا يدرك معنى الألم فلا يمكنه الإفصاح عما يعتريه، ولا يعرف معنى الصبر، لكن إذا كبر الولد، فقل له: تحمل، (أشد الناس بلاءً الأنبياء..) فهو يفهم الكلام فيتأسى، بخلاف الصغير، ولذلك تجد حنانك وحزنك على الصغير أعظم من حزنك على الكبير.

فيوسف عليه السلام كان صغيراً إذ ذاك، وإخوته قالوا: (ونحن عصبة). أي: كبار وكثر.

وبعض الناس يقول: إن إخوة يوسف عليه السلام كانوا أنبياء.. والصواب أنهم غير أنبياء؛ لأن الأنبياء باتفاق أهل السنة -بل باتفاق علماء الإسلام جميعاً، بل باتفاق المبتدعة منهم- لا يرتكبون الكبائر لا قبل النبوة ولا بعد النبوة أبداً؛ لأنه إذا ارتكب نبيٌ جريمةً نكراء قبل النبوة يعير بها، فصيانةً لجناب النبوة لا يحفظ عليه كبيرة أبداً قبل النبوة فضلاً عن بعد النبوة، وهم أيضاً منزهون عن الصغائر على القول الراجح.

وإخوة يوسف فعلوا فعلين كلاهما كبير، لما قالوا: اقْتُلُوا يُوسُفَ [يوسف:9]، ولما قالوا: إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف:8] فهم أتوا بأمرين: عقوق، وهمٌّ بالقتل؛ فألقوه في الجب بقصد أن يموت، فكأنهم قتلوه، فإن الرجل لو ذهب لآخر وضربه ضربةً لأجل أن يموت فخر صريعاً فمضى الرجل، ثم أفاق المضروب بعد قليل؛ فإن الضارب يعامل معاملة القاتل في الآخرة؛ لأنه لما ضرب أراد أن يقتل، والنية في هذه المسائل معتبرة.

هل يعقوب عليه السلام لما تزوج بامرأتين لم يكن يعدل بين أولاده حتى كان هو السبب في قول الإخوة: اقتلوا يوسف؟

أنا لا أريد أن أفيض كثيراً في محاسن تعدد الزوجات؛ لأنه من محاسن الشرع، دعك من أهواء الناس، وهذا الكلام قد لا يرضي عامة النساء، لكن ما جاء الدين لإرضاء أهواء الناس، إنما نزل الدين مهيمناً على الكل، أليس الدين قيداً؟ ألسنا أسراء في يد الشريعة؟ بلى.

إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالمؤمن مسجون بالتكاليف الشرعية: افعل، لا تفعل، ليس هناك حلالٌ مطلق في الدنيا، كل ما يخطر ببالك أن تفعله لا تستطيع أن تفعله؛ لأنك في الدنيا كالمسجون تماماً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما أول رؤيا بعض الصحابة -أظنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أو غيره- لما رأى نفسه مقيداً في المنام بقيد، فأولَ القيد بأنه الدين، يعني: دينه متين، الدين قيد، لا تستطيع أن تفعل كل الذي تريد دون ضابط، لأن ديننا جاء ليهيمن على الخلق لا ليتنزل على هوى كل إنسان.

نحن في مسألة إنكار تعدد الزوجات صرنا كالنصارى بكل أسف، حتى إنك قد تجد رجلاً ينسب إلى الالتزام في هذا الباب -أيضاً- كالعوام، فحين يتزوج زوج ابنته بأخرى يأتيه قائلاً: لماذا تتزوج على ابنتي؟ هل ابنتي فيها عيب؟ هل ابنتي مقصرة في شيء؟ فنقول: هل الزواج الثاني لابد أن يكون عن تقصير من الأولى؟! أو بسبب علة فيها؟! من الذي قال ذلك؟

والله تبارك وتعالى يقول: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ [النساء:3] والكلام السابق رد لهذا، إذا لم يرد ذكر للعلة فلو قال الرجل: أريد الزواج بالثانية بلا علة، فالزواج بها يشرح صدري، ويقربني من ربي، ويمكنني من أن أتمتع بالمتعة الحلال، وهذا هو مقتضى اللفظ: (انكحوا ما طاب لكم) فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].

لكن حين يأتي هؤلاء وينزعون الكلمة من السياق، ويقدمون للناس أحكاماً مبتورة: أن الزواج الثاني لا يكون إلا لعلة، ولابد من استشارة الزوجة الأولى في الزواج؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل ذلك!! وأنا لا أدري أهذا كذبٌ على الله عز وجل أم جهلٌ، وكلاهما مر، هل النبي صلى الله عليه وسلم لما أبى أن ينكح علي بن أبي طالب على ابنته إلا أن يطلقها كان من هذا الباب؟ لا.

إن استدلالهم بهذا الحديث يذكرني بمن يقول: إن مكر النساء وكيدهن أعظم من كيد الشيطان، فتقول له: كيف يكون ذلك ولا يوجد أعدى من الشيطان الرجيم؟ يقول لك: يا أخي! هذا في القرآن، قال الله عز وجل: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28]، وقال بالنسبة للشيطان: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]، فبين أن كيدهن عظيم، وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، واضح جداً من القرآن.

وليس الأمر كما يزعم؛ لأنه إنما استل هذه الجملة من السياق، واستلال الجملة من السياق بغير نظرٍ إلى السباق واللحاق جريمةٌ في حق المعنى، ففي قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [يوسف:28] نقول: نعم، إذا قورن كيدهن بكيد الرجال؛ لأن الناس ما هم إلا رجلٌ وامرأة، فإذا قورن كيد الرجال بكيد النساء كان كيدهن عظيماً فعلاً، لكن كيد الشيطان.. لماذا كان ضعيفاً؟ عندما تقرأ السياق يتضح المقام، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76] (ضعيفاً)؛ لأنه مقابل بكيد الله، فصار ضعيفاً لذلك الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [النساء:76]، وهو معهم وناصرهم، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:257] ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ [النساء:76]، أي: يا أيها الذين آمنوا -الذين مولاهم الله- قاتلوا أولياء الشيطان؛ لأن الله مع الذين آمنوا، والشيطان مع الذين كفروا، فصار هناك مقابلة فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا [النساء:76]؛ لأنه مقابل بكيد الله عز وجل، فما معنى أن نأخذ شطر آية مع شطر آية أخرى ونضربهما ببعض؟!




استمع المزيد من الشيخ أبو إسحاق الحويني - عنوان الحلقة اسٌتمع
أسئلة وأجوبة[1] 2835 استماع
التقرب بالنوافل 2822 استماع
حديث المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده 2762 استماع
لماذا نتزوج 2703 استماع
انتبه أيها السالك 2693 استماع
سلي صيامك 2665 استماع
منزلة المحاسبه الدرس الاول 2648 استماع
إياكم والغلو 2626 استماع
تأملات فى سورة الدخان 2615 استماع
أمريكا التي رأيت 2595 استماع