سلسلة مقتطفات من السيرة [20]


الحلقة مفرغة

أحمد الله رب العالمين، حمد عباده الشاكرين الذاكرين، حمداً يوافي نعم الله علينا ويكافئ مزيده، وصلاة وسلاماً على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم وبارك عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد:

فهذه -بمشيئة الله عز وجل- الحلقة العشرون في سلسلة حديثنا عن السيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليمات من رب الأرض والسماوات، وهي -بمشيئة الله- الحلقة السابعة في الحديث عن الركن الأساسي في الإسلام، وهو عمود الإسلام والركن الأول بعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وهو الركن الذي يسأل العبد أولاً عنه يوم القيامة، فإن وجد كاملاً قبل وسائر عمله، وإن وجد ناقصاً رد وسائر عمله، وهذا الركن هو الصلاة.

فاللهم اجعلنا من المحافظين عليها، ومن الخاشعين فيها، ومن الذين تقبلت -يا ربنا- صلاتهم وعبادتهم.

اللهم لا تدع لنا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا عسيراً إلا يسرته، ولا كرباً إلا أذهبته، ولا مجاهداً في سبيلك إلا نصرته، ولا مظلوماً إلا نصرته، ولا ظالماً إلا قصمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مسافراً إلا غانماً سالماً رددته.

اللهم احفظ لنا أبناءنا في مصر وفي غيرها يا أرحم الرحمين، واحفظ أبناء المسلمين في كل بقاع العالم يا أكرم الأكرمين، وانصر الأقليات الإسلامية في بقاع الأرض.

اللهم ارم الكافرين في الكافرين، وأخرجنا من بينهم سالمين.

اللهم لا تُسل قطرة دم مسلمة إلا في سبيلك، اللهم لا تُسل دماء المسلمين إلا في سبيلك، اللهم لا تُسل دماء المسلمين إلا في سبيلك.

اللهم انزع الغل والحقد والحسد من قلوب المسلمين على المسلمين، اللهم اجعلنا على المسلمين أذلة وعلى الكافرين أعزة، واغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك، ولا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، وولِّ أمورنا خيارنا، ولا تولِّ أمورنا شرارنا، وأصلح -يا مولانا- أحوالنا.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

اللهم تب على كل عاصٍ، واهد كل ضال، واشفِ كل مريض.

اللهم فرج كرب المكروبين، اللهم إنك تعلم أن في كل قلب واحد منا كرباً، ففرج -اللهم- كروبنا، وأذهب غمومنا، واقض اللهم ديوننا، واشرح لنا صدورنا، اللهم اشرح صدورنا، اللهم اشرح صدورنا، اللهم اشرح صدورنا، وآمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا.

يا أرحم الرحمين! ارحمنا، اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة، فإن لم نكن أهلاً لرحمتك فرحمتك أهل لأن تصل إلينا، واختم لنا منك بختام السعادة أجمعين.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

قبل الدخول في تكملة سنن الصلاة ومكروهاتها ومبطلاتها، أذكر حديثاً للصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وهو -إن شاء الله- حديث صحيح رواه الإمام أحمد ورواه ابن حبان ورواه الدارقطني ورواه ابن ماجه عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنهما عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فسنبدأ هذا الدرس بهذا الحديث العظيم، وكل كلام سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم يصلح أن يكون منهاج عمل، فالمسلم يأخذ كل حديث من أحاديث المعصوم صلى الله عليه وسلم منهاج عمل في حياته، وما تعبنا منذ أن تعبنا إلا عندما نسينا كلام الصادق الأمين محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قال: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك).

ولقد سأله أحد الصحابة يوماً فقال: (يا رسول الله إن جاءني رجل يريد أن يأخذ مالي ويريد أن ينتهك عرضي، فيريد أن يأخذ أرضي، أأقاتله؟ قال: قاتله، قال: فإن قتلته؟ قال: فهو في النار، قال: فإن قتلني؟ قال: فأنت شهيد).

أما في زمن الفتن فهناك حديث آخر لا يعارض هذا الحديث، يعني: الفاحشة ترتكب علناً، والناس يقتل بعضهم بعضاً، فلا يدري القاتل لم قَتل، ولا المقتول لم قُتل، فقد أمر صلى الله عليه وسلم فيه بأن تكسر السيوف والقسي وأمر بلزوم البيوت حتى تأتي المرء منيته أو يأتيه سهم غرب، ولما قيل له: (فإن دخل علي بيتي؟! قال: كن كخير ابني آدم) إذ قال لأخيه: لَئِنْ بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ [المائدة:28].

وهذا عندما تكثر الفتن وأنت لا تعرف الصواب أين هو، والغلط أين هو، تريد أن تزنها فلا توزن، فنسأل الله أن يفرج الكرب، وأن يزيل الغم، فليس لها من دون الله كاشفة.

لقد قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء فلا تراه إلا مقيتاً ممقتاً)، يعني: عندما ينزع الله الحياء من شخص يكون وقحاً يقول الكلمة ويرجع فيها مرة أخرى ولا يهمه ذلك، ويشتمك ولا يهمه ذلك، ويتطاول على الكبير والصغير.

فعندما ينزع الحياء من ابن آدم لا تجد هذا الإنسان إلا مقيتاً ممقتاً، يعني: غاضباً، ومغضوباً عليه، من الله ومن الناس.

وقال صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إني أحب عبدي فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل).

فهل سمعت من قبل عن حب إجباري؟! فالله عز وجل يلقي المحبة في نفس جبريل لك إذا كنت محبوباً، فنسأل الله أن يجعلنا من الذين أحبهم الله؛ لأن ذرة من محبة الله تجعلك أغنى إنسان، ولكن ليس بالأموال؛ فأصحاب الخليج كانت لديهم أموال، فكانت سبب نقمة.

وفي الحديث: (إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لفسد، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لفسد، وإن من عبادي من لا تصلحه إلا الصحة، ولو أسقمته لفسد، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم، ولو عافيته لفسد).

فالله عز وجل يعرف الذي ينفع هذا والذي ينفع هذا، ولذلك عندما يقول لك أخوك: لماذا أنت مضطهد لابنك محمود؟ فإنك تقول: أولادي كلهم عندي سواء، فيقول: الولد الكبير تعطيه العشرين والثلاثين جنيهاً، وهذا تعطيه الشيء القليل، فتقول: إن هذا الولد أراه يمشي مع بعض الأولاد، وأظنهم يشربون السجائر، وأنا لا أريد أن أكثر المال في جيبه من أجل ألا يتناول به ما يتناوله.

فأنت يا صاحب العقل المحدود -تعرف ما الذي يصلح ولدك وما الذي يفسده، فما بالك بالله؟! فهو الذي يعرف ما يصلحك.

إن معيار الناس لقياس الرجال هو المال، ولذا يروى أن رجلاً مر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال لهم: (ما تقولون في هذا؟ فقالوا: إن هذا حري إن خطب أن يجاب، وإن قال أن يسمع، وإن شفع أن يشفع. ثم مر آخر فقير، فقال: ما تقولون في هذا؟ فقالوا: إن هذا حري إن خطب ألا يجاب، وإن قال ألا يسمع، وإن شفع ألا يشفع. فقال صلى الله عليه وسلم: لهذا خير من ملء الأرض من هذا).

ويقول الناس:

إن الغني إذا تكلم كاذباً قالوا صدقت وما نطقت محالا

أما الفقير إذا تكلم صادقاً قالوا كذبت وأبطلوا ما قالا

إن الدراهم في المواطن كلها تكسو الرجال مهابة وجلالا

فهي اللسان لمن أراد فصاحة وهي السلاح لمن أراد قتالا

وقال سيدنا علي : حتى الكلاب إن رأت غنياً حركت أذنابها، وإن رأت فقيراً كشرت أنيابها.

فاحمد الذي سواك فأحسن خلقك، وأغناك من فضله، وقنعك بما آتاك، وإذا قنعك بما آتاك فأنت أغنى الأغنياء؛ لأن الحسن البصري قال: إن بيني وبين الأغنياء يوماً لا يوجد غيره، فالأمس مضى، والغد لا أخافه ويخافونه، فليس بيني وبينهم إلا اليوم، وأنا مشغول فيه بذكر الله.

ونعيم أهل الغنى والعز والجاه في الأمس مضى، وفقر وبؤس الفقراء مضى.

قال: والغد لست خائفاً منه، وأما الغني فخائف، يحسب للدولار حسابه، والوزير الجالس على الكرسي يخاف أن يسحب الكرسي من تحته، بل إن الذي يراقبك تجده يسهر إلى الفجر ليعلم أين ذهبت ومن أين أتيت، وأنت في نوم عميق.

بيان المراد بالحياء

فالله عز وجل إذا أراد بعبد هلاكاً -والعياذ بالله- نزع منه الحياء.

والحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، وأن تعد نفسك مع الموتى، وأن تؤثر ما يبقى على ما يفنى.

وإذا كان المسلم عنده إيمان فإن عنده حياء.

وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام)، وأنا سأضرب لك مثلاً: أدخلت المرأة المستشفى وأولادها الخمسة جالسون بجانبها يخافون أن تموت أو يحدث لها شيء، وذلك من باب البر بالأم، ففي هذه اللحظة تستغل حنان الأم فيها، وعندها بنت واحدة، فتقول لأولادها: اسمع يا محمود، اسمع يا أشرف، اسمع يا أحمد، اسمع يا عبد الغني، أنتم تعرفون أن فاطمة أختكم هي الورطة التي وسطكم، فيقولون: مري يا أماه! فتقول: إذا كنتم موافقين أن يكون ذهبي لأختكم، وكل الذي في الدولاب لأختكم أتوافقون على ذلك؟

فبالله عليك ماذا سيقول الأولاد في هذه اللحظة! لاشك أنهم سيوافقون حياء وإحراجاً، فهذه الفلوس والذهب والأشياء التي أخذتها فاطمة حرام، لأن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام؛ ولأنها استغلت سيف الحياء لتأخذ موافقة مشكوكاً في أمرها من أولادها وهم غير راضين.

(ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال له: دعه؛ فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)، والحياء شعبة من الإيمان، فمن كان عنده إيمان سيكون عنده حياء.

وقد كان في الزمن الماضي شيء اسمه: (حياء العذارى)، فعندما يذكر الزواج أمام بنت تحمر وتخضر وتصفر وتختبئ من أبيها، وأما الآن فإن البنت تجلس وتضع رجلاً على رجل وتفكر في فتى أحلامها، وتذكر الشروط، كأن يكون ممشوق القوام، وشعره أسود، ونحو ذلك.

ولكن في زمن حياء العذارى كان إذا تقدم الرجل لبنت يقول الأب لامرأته: جاء خاطب، فتدخل المرأة لتكلم البنت، هكذا كانت الأمور، وكل بيوتنا كانت هكذا، وكان الناس إذا دخل الواحد منهم بيت غيره يغض البصر، ويظل واقفاً، وهذه هي الآداب الإسلامية، أي أن أظل واقفاً في البيت الذي دخلت ضيفاً فيه حتى يشير صاحب البيت إلى الكرسي الذي أجلس فيه، فليس أنا الذي أختار الكرسي؛ لأن الضيف أسير إلى درجة أنني عندما أبيت في بيت صاحبي وأحب أن أصبح صائماً أستأذنه؛ لأنني أسير.

حصول المقت بذهاب الحياء

إذاً: إذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع الحياء فلا تجده إلا مقيتاً ممقتاً، فالله عز وجل عندما يحب عبداً ينادي جبريل: يا جبريل! إني أحب عبدي فلاناً فأحبه، فيقع حب العبد عند جبريل، فينادي جبريل في الملائكة: يا ملائكة السماء، يا ملائكة الأرض! إن ربكم يحب عبده فلاناً وأنا أحبه فأحبوه، وذلك لأنه رئيس الملائكة، فهو الرئيس الذي يصدر أوامره للملائكة كلها.

فسيدنا جبريل يقول: (أحبوه)، فيحبونه، وبعد ذلك يوضع له القبول في الأرض.

ولذلك عندما من الله على سيدنا موسى قال له: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، أي أنه لا أحد يرى موسى إلا أحبه، إلى درجة أن فرعون كان يحبه وهو عدو له.

وحين أتوا به من الصندوق قذف الله حبه في قلب زوجته، فقالت: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9]، فقال لها فرعون: لك أنت وحدك، قال سيدنا الحبيب: (لو قال لها: قرة عين لي ولك لهداه الله)، ولكن قال لها: لك أنت وحدك.

مثل الرجل الصالح الذي أراد سفراً وامرأته حامل، فقال: اللهم إني أستودعتك ما في بطنها. وسافر، فرجع، فقالوا له: البقاء لله، فإن امرأتك قد ماتت. فقال: سأزور القبر، فذهب فسمع صوتاً بداخل القبر، فقال لهم: متى ماتت؟ فقالوا له: ماتت قبل يومين، ففتح القبر، فلقي الرضيع بجانب أمه الميتة، فأخذ الرضيع فصاح، فأغلق القبر فسمع صوتاً يقول: يا فلان! استودعت ربك ما في بطنها فوجدته؛ لأن وديعة الله لا تضيع.

فسيدنا موسى كان صغيراً لا يقدر على شيء، فقالوا: كيف نعمل به؟! فقال: اتركوه لا تقتلوه، وأحضروا من يرضعه. وكان الأمر قد صدر من السماء وهم لا يعلمون: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]، فأتت أخته فقالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، فقيل لها: ائتي بها الآن.

فأحضرت أم سيدنا موسى، فقيل لها: خذيه وأرضعيه، وكانوا من قبل يحضرون له مرضعات فيرفض، وحين أتت أمه التقم ثديها، فقال فرعون: أنا أشك في أن هذه أمه، فهل أنت أمه؟ فقالت له: نحن قوم لا يرفضنا الأطفال، فهاتوا أي ولد وضعوه على صدري. فكلما أتوا بولد رضيع ووضعوه على صدر أم سيدنا موسى يمسك بصدرها ويرضع، فقالوا: هذا صحيح.

وبعد قليل كبر سيدنا موسى ثم ضرب فرعون على وجهه، فشك فرعون، فقال: سأعمل له امتحاناً. فأحضر تمرة وجمرة لينظر أين سيضع يده، أعلى التمرة أم على الجمرة؟ فأراد موسى أخذ التمرة، فنزل جبريل فأخذ يد سيدنا موسى ووضعها على الجمرة، ومع ذلك لم يكن فرعون مطمئناً؛ لأنه رأى رؤيا تفسيرها أن ولداً من بني إسرائيل سيكون على يديه زوال ملك فرعون.

وبعد ذلك قالت أم موسى: إن كنتم تريدون إرضاعه فأحضروه عندي، فصرفوا لها مرتباً عالياً من القصر الملكي.

وهنا مسألة، وهي عندما ترضع زوجتك ابنك هل ستعطيها أجرة؟

إن الواجب عليك أن تعطيها أجرة فالإسلام يقول: من حقوق المرأة على زوجها أن تأخذ أجرة الرضاعة.

ففي الفقه أنني أعطي زوجتي أجر الرضاعة، وإذا لم تأخذ فإنه إذا مص الطفل من صدر أمه مصة كتب لها حسنة وحط عنها سيئة ورفع لها عند الله درجة.

فالحاصل أن الله إذا أحب عبداً وضع له القبول في الأرض، وكذلك إذا أبغض عبداً فإنه يبغضه جبريل، وتبغضه الملائكة، ثم توضع له البغضاء في الأرض، فكل واحد يقول: إن فلاناً هذا دمه ثقيل على قلبي، لا أحبه أبداً.

فاللهم اجعلنا من الذين تحبهم، واجعلنا من المتاحبين فيك يا أرحم الرحمين.

أثر ذهاب الحياء على نزع الأمانة

يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء فلا تراه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا لقيته مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لا تراه إلا خائناً مخوناً).

والأمانة كلمة واسعة، فالوضوء أمانة، والصلاة أمانة، والعبادة كلها أمانة، والكلمة أمانة، والدين والإسلام عندك أمانة، فالواجب أن تحافظ عليه مثل ابن من أبنائك.

وعمرك أمانة، وزوجتك أمانة، وأولادك أمانة، وجارك أمانة، والبيت -إذا كنت مستأجراً- أمانة، والعمل أمانة، والآلة التي تعمل عليها أمانة، وكل الجوارح أمانة، والله عز وجل سوف يسألني: ماذا صنعت في هذه الأمانات؟

فإذا أراد الله بعبده هلاكاً نزع منه الحياء، ثم تنزع منه الأمانة، فلا تلقاه إلا خائناً مخوناً، والخائن قال فيه صلى الله عليه وسلم: (خمسة من أهل النار ... وذكر منهم الخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه)، يعني: إن كان الشيء صغيراً فإنه يخونك فيه أيضاً.

أثر ذهاب الحياء على نزع الرحمة

قال صلى الله عليه وسلم: (فإن لم تلقه إلا خائناً مخوناً نزعت منه الرحمة).

فتخيل واحداً ليس عنده رحمة، فلا يقبل رأي آخر، ولا يقبل من أحد أن يعارضه.

قال صلى الله عليه وسلم: (فإذا نزعت منه الرحمة فلا تلقاه إلا رجيماً ملعناً) فهو شخص ليس عنده رحمة بالناس ولا بالفقير ولا بالأرملة ولا باليتيم ولا بالمسلم ولا بامرأته ولا بأولاده.

والمسلم كله رحمة، قال تعالى في نبيه: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].

وانظر إلى رحمة سيدنا الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد قال لـعمر في عبد الله بن أبي : (يا عمر لو أعلم أن الله سيغفر له إذا زدت على سبعين لاستغفرت له).

وفي المحشر يذهب الناس يوم القيامة إلى آدم، فيقولون: (يا آدم! أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك منه روحه، وأسجد لك الملائكة، يا آدم! اشفع لنا عند ربنا. فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى نوح، فيأتونه فيقول: لقد غضب ربي اليوم غضباً لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب بعده مثله، اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم ثم موسى ثم عيسى وكلهم يقول ذلك ويذكر ذنباً خلا عيسى عليه السلام، فيقول لهم عيسى: اذهبوا إلى أخي محمد عليه الصلاة والسلام، فيأتونه فيقول: أنا لها. ثم ينطلق فيسجد تحت العرش، ويحمد الله بمحامد يلهمها، فيقول الله عز وجل: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فيقول: يا رب! أمتي. فيفصل الله بين الخلائق).

أثر ذهاب الحياء على الطرد من رحمة الله وخلع ربقة الإسلام

فإذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء، فيكون مقيتاً ممقتاً، ثم تنزع منه الأمانة، فيكون خائناً مخوناً، فعندما تلقاه خائناً مخوناً تنزع منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لا تجده إلا رجيماً ملعناً، فيطرد -والعياذ بالله- من رحمة الله، فإذا لم تلقه إلا رجيماً ملعناً نزع الله منه ربقة الإسلام -والعياذ بالله رب العالمين- فيموت على شر حال، فاللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها يا رب العالمين.

فالله عز وجل إذا أراد بعبد هلاكاً -والعياذ بالله- نزع منه الحياء.

والحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى، وأن تعد نفسك مع الموتى، وأن تؤثر ما يبقى على ما يفنى.

وإذا كان المسلم عنده إيمان فإن عنده حياء.

وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام)، وأنا سأضرب لك مثلاً: أدخلت المرأة المستشفى وأولادها الخمسة جالسون بجانبها يخافون أن تموت أو يحدث لها شيء، وذلك من باب البر بالأم، ففي هذه اللحظة تستغل حنان الأم فيها، وعندها بنت واحدة، فتقول لأولادها: اسمع يا محمود، اسمع يا أشرف، اسمع يا أحمد، اسمع يا عبد الغني، أنتم تعرفون أن فاطمة أختكم هي الورطة التي وسطكم، فيقولون: مري يا أماه! فتقول: إذا كنتم موافقين أن يكون ذهبي لأختكم، وكل الذي في الدولاب لأختكم أتوافقون على ذلك؟

فبالله عليك ماذا سيقول الأولاد في هذه اللحظة! لاشك أنهم سيوافقون حياء وإحراجاً، فهذه الفلوس والذهب والأشياء التي أخذتها فاطمة حرام، لأن ما أخذ بسيف الحياء فهو حرام؛ ولأنها استغلت سيف الحياء لتأخذ موافقة مشكوكاً في أمرها من أولادها وهم غير راضين.

(ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يعظ أخاه في الحياء، فقال له: دعه؛ فإن الحياء لا يأتي إلا بخير)، والحياء شعبة من الإيمان، فمن كان عنده إيمان سيكون عنده حياء.

وقد كان في الزمن الماضي شيء اسمه: (حياء العذارى)، فعندما يذكر الزواج أمام بنت تحمر وتخضر وتصفر وتختبئ من أبيها، وأما الآن فإن البنت تجلس وتضع رجلاً على رجل وتفكر في فتى أحلامها، وتذكر الشروط، كأن يكون ممشوق القوام، وشعره أسود، ونحو ذلك.

ولكن في زمن حياء العذارى كان إذا تقدم الرجل لبنت يقول الأب لامرأته: جاء خاطب، فتدخل المرأة لتكلم البنت، هكذا كانت الأمور، وكل بيوتنا كانت هكذا، وكان الناس إذا دخل الواحد منهم بيت غيره يغض البصر، ويظل واقفاً، وهذه هي الآداب الإسلامية، أي أن أظل واقفاً في البيت الذي دخلت ضيفاً فيه حتى يشير صاحب البيت إلى الكرسي الذي أجلس فيه، فليس أنا الذي أختار الكرسي؛ لأن الضيف أسير إلى درجة أنني عندما أبيت في بيت صاحبي وأحب أن أصبح صائماً أستأذنه؛ لأنني أسير.

إذاً: إذا أراد الله بعبد هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع الحياء فلا تجده إلا مقيتاً ممقتاً، فالله عز وجل عندما يحب عبداً ينادي جبريل: يا جبريل! إني أحب عبدي فلاناً فأحبه، فيقع حب العبد عند جبريل، فينادي جبريل في الملائكة: يا ملائكة السماء، يا ملائكة الأرض! إن ربكم يحب عبده فلاناً وأنا أحبه فأحبوه، وذلك لأنه رئيس الملائكة، فهو الرئيس الذي يصدر أوامره للملائكة كلها.

فسيدنا جبريل يقول: (أحبوه)، فيحبونه، وبعد ذلك يوضع له القبول في الأرض.

ولذلك عندما من الله على سيدنا موسى قال له: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:39]، أي أنه لا أحد يرى موسى إلا أحبه، إلى درجة أن فرعون كان يحبه وهو عدو له.

وحين أتوا به من الصندوق قذف الله حبه في قلب زوجته، فقالت: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ [القصص:9]، فقال لها فرعون: لك أنت وحدك، قال سيدنا الحبيب: (لو قال لها: قرة عين لي ولك لهداه الله)، ولكن قال لها: لك أنت وحدك.

مثل الرجل الصالح الذي أراد سفراً وامرأته حامل، فقال: اللهم إني أستودعتك ما في بطنها. وسافر، فرجع، فقالوا له: البقاء لله، فإن امرأتك قد ماتت. فقال: سأزور القبر، فذهب فسمع صوتاً بداخل القبر، فقال لهم: متى ماتت؟ فقالوا له: ماتت قبل يومين، ففتح القبر، فلقي الرضيع بجانب أمه الميتة، فأخذ الرضيع فصاح، فأغلق القبر فسمع صوتاً يقول: يا فلان! استودعت ربك ما في بطنها فوجدته؛ لأن وديعة الله لا تضيع.

فسيدنا موسى كان صغيراً لا يقدر على شيء، فقالوا: كيف نعمل به؟! فقال: اتركوه لا تقتلوه، وأحضروا من يرضعه. وكان الأمر قد صدر من السماء وهم لا يعلمون: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ [القصص:12]، فأتت أخته فقالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]، فقيل لها: ائتي بها الآن.

فأحضرت أم سيدنا موسى، فقيل لها: خذيه وأرضعيه، وكانوا من قبل يحضرون له مرضعات فيرفض، وحين أتت أمه التقم ثديها، فقال فرعون: أنا أشك في أن هذه أمه، فهل أنت أمه؟ فقالت له: نحن قوم لا يرفضنا الأطفال، فهاتوا أي ولد وضعوه على صدري. فكلما أتوا بولد رضيع ووضعوه على صدر أم سيدنا موسى يمسك بصدرها ويرضع، فقالوا: هذا صحيح.

وبعد قليل كبر سيدنا موسى ثم ضرب فرعون على وجهه، فشك فرعون، فقال: سأعمل له امتحاناً. فأحضر تمرة وجمرة لينظر أين سيضع يده، أعلى التمرة أم على الجمرة؟ فأراد موسى أخذ التمرة، فنزل جبريل فأخذ يد سيدنا موسى ووضعها على الجمرة، ومع ذلك لم يكن فرعون مطمئناً؛ لأنه رأى رؤيا تفسيرها أن ولداً من بني إسرائيل سيكون على يديه زوال ملك فرعون.

وبعد ذلك قالت أم موسى: إن كنتم تريدون إرضاعه فأحضروه عندي، فصرفوا لها مرتباً عالياً من القصر الملكي.

وهنا مسألة، وهي عندما ترضع زوجتك ابنك هل ستعطيها أجرة؟

إن الواجب عليك أن تعطيها أجرة فالإسلام يقول: من حقوق المرأة على زوجها أن تأخذ أجرة الرضاعة.

ففي الفقه أنني أعطي زوجتي أجر الرضاعة، وإذا لم تأخذ فإنه إذا مص الطفل من صدر أمه مصة كتب لها حسنة وحط عنها سيئة ورفع لها عند الله درجة.

فالحاصل أن الله إذا أحب عبداً وضع له القبول في الأرض، وكذلك إذا أبغض عبداً فإنه يبغضه جبريل، وتبغضه الملائكة، ثم توضع له البغضاء في الأرض، فكل واحد يقول: إن فلاناً هذا دمه ثقيل على قلبي، لا أحبه أبداً.

فاللهم اجعلنا من الذين تحبهم، واجعلنا من المتاحبين فيك يا أرحم الرحمين.




استمع المزيد من د. عمر عبد الكافي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة مقتطفات من السيرة [15] 2686 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [23] 2530 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [16] 2142 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [12] 2125 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [8] 2055 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [17] 2050 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [19] 2031 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [18] 2010 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [24] 1980 استماع
سلسلة مقتطفات من السيرة [11] 1943 استماع