شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [4]


الحلقة مفرغة

التعبد والتأله أمر بدهي وفطري في العبد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلا يزال الشيخ ابن تيمية رحمه الله يتكلم في بيان أن العبودية لله تعالى لها حقائق عظيمة، وأنها تقتضي الفطرة والغريزة التي فطر الله الناس عليها، وأن الناس لا بد أن يتوجهوا إلى من يعظّمونه ويخشونه ويرجونه، والموفق من توجه إلى الله عز وجل، لكن من الناس من يتوجه إلى غير الله عز وجل، وذلك إما بالشرك أو بالبدعة أو نحو ذلك، وهو في هذا يقرر أن العبودية تقتضيها الفطرة، وأنها نزعة عند الإنسان، وأن الإنسان إذا لم يتعبد لله تعبّد لغيره، وأن هذا الانجذاب والتأله يعتبر من الأمور التي فُطر عليها الإنسان، أو بني عليها الكون كله، لكن هذا الإنسان الذي أعطي الحرية والقدرة والإرادة، وخيّر بين الخير والشر قد يتأله ويتعبد لغير الله عز وجل، وهذا ما سيبينه الشيخ من خلال هذا الفصل، ويبين حقيقة العبودية وبعض صورها، وكذلك نتائج وثمار العبودية الحقة لله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى:[ فصل: وهو مثل المقدمة لهذا الذي أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همّام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حي فهو كذلك له علم وعمل بإرادته، والإرادة هي المشيئة والاختيار، ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصّله، فإن حصل بفعل العبد فلا بد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلا بد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلا بد من الأسباب كالآلات.. ونحو ذلك، فلا بد لكل حي من إرادة، ولا بد لكل مريد من عون يحصل به مراده ].

يريد الشيخ بهذا أن يبين أن التعبّد والتأله -وهو من أعظم إرادات المكلفين- أمر بدهي وفطري غريزي، وأن الإنسان لا بد أن ينجذب بطبعه ما دام عنده إرادة وحرية، فهو همّام حارث، ولا بد لأي إنسان أن ينجذب بطبعه إلى ما ينفعه ويتوقى ما يضره، وهذا الانجذاب إن كان إلى الله عز وجل فهذه هي حقيقة العبودية، والتي فيها كمال العبادة وكمال الطمأنينة والأمن النفسي والروحي، والإنسان إذا كان همّه تحقيق العبودية لله عز وجل، وكان انجذاب قلبه وجوارحه إلى ما يرضي الله عز وجل فقد حقق اليقين والعمل والتوكل والاستعانة والامتثال والخضوع، ويكون بذلك قد امتثل أعلى معاني العبودية، وعند ذلك تطمئن نفسه ويرتاح قلبه، ويشعر بالأمن والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا انجذب إلى غير الله عز وجل وكله إلى تلك الأسباب، وإذا انجذب انجذاباً كاملاً إلى غير الله فقد أشرك، وإذا انجذب انجذاباً جزئياً بأن اعتمد أو مال إلى طلب النفع بالأسباب، فربما ينقص توحيده أو ينقص توكله، لكنه قد يقع في بدعة أو نقص في الإيمان أو رياء.. أو نحو ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، هذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان يجده في نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين:

منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه.

والمستعان: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذي يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض.

ومن المستعان ما يكون هو الغاية التي يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة، ومنه ما يكون تبعاً لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع.

فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها، هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامّاً، وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً، وسأل غير الله مطلقاً، مثل: عبّاد الشمس والقمر.. وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب.

وقد يكون خاصاً في المسلمين، مثل: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! إن أُعطي رضي، وإن منع سخط! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).

وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرءوساء.. ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد.. ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هي التي تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها، والمستعان هو مدعو ومسئول.

وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل وانقاد، وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيراً ممن يحب المال، أو يحب من يحصل له به العز والسلطان ].

يعني: الشيخ يقرر أن بعض من يحب المال ويجمعه ينتفع به على الوجه المشروع، وهذا لا يضره حب المال إذا كان حباً طبيعياً غريزياً، وهناك صنف آخر وهو أنه يجمع المال ثم ينتفع به، لكن قد لا يفيد نفسه، أو قد يبخل على نفسه وعلى من يعول، فهذا يكون غالباً قد أشرب في قلبه حب المال، حتى ربما يكون عبده من دون الله عز وجل، وهو يشعر أو لا يشعر، لذا فليس المقصود من ترك حبه أن ينسى المقصود منه، أعني: أن ينتفع الإنسان في دنياه بماله، لكن بعض الناس قد يصل عنده البخل والشح والتعلق بالمال وتقديس الذهب والفضة وما شابههما إلى حبس هذه الأموال وعدم إنفاقها حتى على نفسه.

أقسام الناس بالنسبة لعبادة الله والاستعانة به

قال رحمه الله تعالى: [ وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله.

فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة: فقد يكون محبوباً غير مستعان، وقد يكون مستعاناً غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران.

فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه، وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته، تبيّن أن قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] كلام جامع محيط أولاً وآخراً، لا يخرج عنه شيء، فصارت الأقسام أربعة:

إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلماً، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.

وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته، من الملوك والأغنياء والمشايخ.

وإما أن يستعينه وإن عبد غيره، مثل كثير من ذوي الأحوال، وذوي القدرة وذوي السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجئون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التي بعث الله بها رسوله.

والقسم الرابع: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعي قد ذُكر فيما بعد أيضاً، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان، لبيان أنه لا بد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام ].

الأقسام الأربعة التي ذكرها، الشيخ:

الأول: إما أن يعبد غير الله ويستعينه، وهذا قد وقع في الشرك؛ لأنه عبد غير الله واستعان بغير الله، لكن قد يستعين بالله عند الضرورة، وهذا لا ينفعه، وهذا كثير ما يقع فيه كثير من المشركين، فلا يستعمل الاستعانة بالله إلا عند الضرورة القصوى أو في حالة حصول الشدة، ومع ذلك يبقى على شركه.

الثاني: أن يعبد الله ويستعين بغيره، والمقصود بالاستعانة هنا ضعف التوكل على الله عز وجل، ويظهر لي أنه لا يقصد الشرك الخالص، وإنما يقصد ما يقع فيه بعض أهل البدع وبعض المفرطين الذين تستحوذ عليهم الشهوات، وهؤلاء غالباً ينسون الاستعانة بالله عز وجل، ويكثر اعتمادهم على غير الله في كثير من الأمور، وهذا يقع فيه كثير من الناس.

ثالثاً: أن يستعين بالله عز وجل وإن عبد غيره، وهذا يقع فيه كثير من عباد الصوفية والفلاسفة الجهلة، وكذلك عند بعض الذين يغلّبون جانب الشهوات أو جانب المطامع والمصالح.

رابعاً: الذين هم على الاستقامة، إذ إنهم يجمعون بين عبادة الله والاستعانة به، أي: بمعناها الكامل.

وأما قوله: (وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة)، فأيهما الغالب؟ أن العبادة تستلزم الاستعانة، فتكون العبادة هي الفاعل والاستعانة هي المفعول، وهذا الذي يظهر لي، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره خضع له وذل وانقاد وأحبه، لكن الشرع يرى أن الاستعانة تستلزم العبادة، مع أن العكس صحيح، فلو قيل: إن العبادة تستلزم الاستعانة، بمعنى: أن العبادة الحقيقية تستلزم الاستعانة صح التعبير، وإذا قلنا: الاستعانة تستلزم العبادة فربما يكون هنا أوجه؛ لأن الاستعانة الحقة لا ينتج عنها إلا حقيقة العبادة، فنقول: لو عكسنا صح ذلك، لكن ربما الشيخ قصد معنى آخر وهو ما ذكره، فجعل اللازم هو الاستعانة، والملزوم هو العبادة.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فلا يزال الشيخ ابن تيمية رحمه الله يتكلم في بيان أن العبودية لله تعالى لها حقائق عظيمة، وأنها تقتضي الفطرة والغريزة التي فطر الله الناس عليها، وأن الناس لا بد أن يتوجهوا إلى من يعظّمونه ويخشونه ويرجونه، والموفق من توجه إلى الله عز وجل، لكن من الناس من يتوجه إلى غير الله عز وجل، وذلك إما بالشرك أو بالبدعة أو نحو ذلك، وهو في هذا يقرر أن العبودية تقتضيها الفطرة، وأنها نزعة عند الإنسان، وأن الإنسان إذا لم يتعبد لله تعبّد لغيره، وأن هذا الانجذاب والتأله يعتبر من الأمور التي فُطر عليها الإنسان، أو بني عليها الكون كله، لكن هذا الإنسان الذي أعطي الحرية والقدرة والإرادة، وخيّر بين الخير والشر قد يتأله ويتعبد لغير الله عز وجل، وهذا ما سيبينه الشيخ من خلال هذا الفصل، ويبين حقيقة العبودية وبعض صورها، وكذلك نتائج وثمار العبودية الحقة لله عز وجل.

قال رحمه الله تعالى:[ فصل: وهو مثل المقدمة لهذا الذي أمامه، وهو أن كل إنسان فهو همّام حارث حساس متحرك بالإرادة، بل كل حي فهو كذلك له علم وعمل بإرادته، والإرادة هي المشيئة والاختيار، ولا بد في العمل الإرادي الاختياري من مراد وهو المطلوب، ولا يحصل المراد إلا بأسباب ووسائل تحصّله، فإن حصل بفعل العبد فلا بد من قدرة وقوة، وإن كان من خارج فلا بد من فاعل غيره، وإن كان منه ومن الخارج فلا بد من الأسباب كالآلات.. ونحو ذلك، فلا بد لكل حي من إرادة، ولا بد لكل مريد من عون يحصل به مراده ].

يريد الشيخ بهذا أن يبين أن التعبّد والتأله -وهو من أعظم إرادات المكلفين- أمر بدهي وفطري غريزي، وأن الإنسان لا بد أن ينجذب بطبعه ما دام عنده إرادة وحرية، فهو همّام حارث، ولا بد لأي إنسان أن ينجذب بطبعه إلى ما ينفعه ويتوقى ما يضره، وهذا الانجذاب إن كان إلى الله عز وجل فهذه هي حقيقة العبودية، والتي فيها كمال العبادة وكمال الطمأنينة والأمن النفسي والروحي، والإنسان إذا كان همّه تحقيق العبودية لله عز وجل، وكان انجذاب قلبه وجوارحه إلى ما يرضي الله عز وجل فقد حقق اليقين والعمل والتوكل والاستعانة والامتثال والخضوع، ويكون بذلك قد امتثل أعلى معاني العبودية، وعند ذلك تطمئن نفسه ويرتاح قلبه، ويشعر بالأمن والسعادة في الدنيا والآخرة، وإذا انجذب إلى غير الله عز وجل وكله إلى تلك الأسباب، وإذا انجذب انجذاباً كاملاً إلى غير الله فقد أشرك، وإذا انجذب انجذاباً جزئياً بأن اعتمد أو مال إلى طلب النفع بالأسباب، فربما ينقص توحيده أو ينقص توكله، لكنه قد يقع في بدعة أو نقص في الإيمان أو رياء.. أو نحو ذلك.

قال رحمه الله تعالى: [ فصار العبد مجبولاً على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده، هذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان يجده في نفسه، لكن المراد والمستعان على قسمين:

منه ما يراد لغيره، ومنه ما يراد لنفسه.

والمستعان: منه ما هو المستعان لنفسه، ومنه ما هو تبع للمستعان وآلة له، فمن المراد ما يكون هو الغاية المطلوب، فهو الذي يذل له الطالب ويحبه، وهو الإله المقصود، ومنه ما يراد لغيره، وهو بحيث يكون المراد هو ذلك الغير، فهذا مراد بالعرض.

ومن المستعان ما يكون هو الغاية التي يعتمد عليه العبد، ويتوكل عليه، ويعتضد به، ليس عنده فوقه غاية في الاستعانة، ومنه ما يكون تبعاً لغيره، بمنزلة الأعضاء مع القلب، والمال مع المالك، والآلات مع الصانع.

فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها، هو مستعانها، سواء كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا فقد يكون عامّاً، وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً، وسأل غير الله مطلقاً، مثل: عبّاد الشمس والقمر.. وغير ذلك الذين يطلبون منهم الحاجات، ويفزعون إليهم في النوائب.

وقد يكون خاصاً في المسلمين، مثل: من غلب عليه حب المال، أو حب شخص، أو حب الرياسة، حتى صار عبد ذلك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم! تعس عبد الدينار! تعس عبد الخميصة! تعس عبد الخميلة! إن أُعطي رضي، وإن منع سخط! تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش).

وكذلك من غلب عليه الثقة بجاهه وماله، بحيث يكون عنده مخدومه من الرءوساء.. ونحوهم، أو خادمه من الأعوان والأجناد.. ونحوهم، أو أصدقاؤه أو أمواله، هي التي تجلب المنفعة الفلانية وتدفع المضرة الفلانية، فهو معتمد عليها ومستعين بها، والمستعان هو مدعو ومسئول.

وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره، خضع له وذل وانقاد، وأحبه من هذه الجهة وإن لم يحبه لذاته، لكن قد يغلب عليه الحال حتى يحبه لذاته، وينسى مقصوده منه، كما يصيب كثيراً ممن يحب المال، أو يحب من يحصل له به العز والسلطان ].

يعني: الشيخ يقرر أن بعض من يحب المال ويجمعه ينتفع به على الوجه المشروع، وهذا لا يضره حب المال إذا كان حباً طبيعياً غريزياً، وهناك صنف آخر وهو أنه يجمع المال ثم ينتفع به، لكن قد لا يفيد نفسه، أو قد يبخل على نفسه وعلى من يعول، فهذا يكون غالباً قد أشرب في قلبه حب المال، حتى ربما يكون عبده من دون الله عز وجل، وهو يشعر أو لا يشعر، لذا فليس المقصود من ترك حبه أن ينسى المقصود منه، أعني: أن ينتفع الإنسان في دنياه بماله، لكن بعض الناس قد يصل عنده البخل والشح والتعلق بالمال وتقديس الذهب والفضة وما شابههما إلى حبس هذه الأموال وعدم إنفاقها حتى على نفسه.

قال رحمه الله تعالى: [ وأما من أحبه القلب وأراده وقصده، فقد لا يستعينه ويعتمد عليه إلا إذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه، كاستشعار المحب قدرة المحبوب على وصله.

فإذا استشعر قدرته على تحصيل مطلوبه استعانه وإلا فلا، فالأقسام ثلاثة: فقد يكون محبوباً غير مستعان، وقد يكون مستعاناً غير محبوب، وقد يجتمع فيه الأمران.

فإذا علم أن العبد لا بد له في كل وقت وحال من منتهى يطلبه هو إلهه، ومنتهى يطلب منه هو مستعانه، وذلك هو صمده الذي يصمد إليه في استعانته وعبادته، تبيّن أن قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] كلام جامع محيط أولاً وآخراً، لا يخرج عنه شيء، فصارت الأقسام أربعة:

إما أن يعبد غير الله ويستعينه وإن كان مسلماً، فالشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل.

وإما أن يعبده ويستعين غيره، مثل كثير من أهل الدين، يقصدون طاعة الله ورسوله وعبادته وحده لا شريك له، وتخضع قلوبهم لمن يستشعرون نصرهم، ورزقهم، وهدايتهم، من جهته، من الملوك والأغنياء والمشايخ.

وإما أن يستعينه وإن عبد غيره، مثل كثير من ذوي الأحوال، وذوي القدرة وذوي السلطان الباطن أو الظاهر، وأهل الكشف والتأثير، الذين يستعينونه ويعتمدون عليه ويسألونه ويلجئون إليه، لكن مقصودهم غير ما أمر الله به ورسوله، وغير اتباع دينه وشريعته التي بعث الله بها رسوله.

والقسم الرابع: الذين لا يعبدون إلا إياه، ولا يستعينون إلا به، وهذا القسم الرباعي قد ذُكر فيما بعد أيضاً، لكنه تارة يكون بحسب العبادة والاستعانة، وتارة يكون بحسب المستعان، فهنا هو بحسب المعبود والمستعان، لبيان أنه لا بد لكل عبد من معبود مستعان، وفيما بعد بحسب عبادة الله واستعانته، فإن الناس فيها على أربعة أقسام ].

الأقسام الأربعة التي ذكرها، الشيخ:

الأول: إما أن يعبد غير الله ويستعينه، وهذا قد وقع في الشرك؛ لأنه عبد غير الله واستعان بغير الله، لكن قد يستعين بالله عند الضرورة، وهذا لا ينفعه، وهذا كثير ما يقع فيه كثير من المشركين، فلا يستعمل الاستعانة بالله إلا عند الضرورة القصوى أو في حالة حصول الشدة، ومع ذلك يبقى على شركه.

الثاني: أن يعبد الله ويستعين بغيره، والمقصود بالاستعانة هنا ضعف التوكل على الله عز وجل، ويظهر لي أنه لا يقصد الشرك الخالص، وإنما يقصد ما يقع فيه بعض أهل البدع وبعض المفرطين الذين تستحوذ عليهم الشهوات، وهؤلاء غالباً ينسون الاستعانة بالله عز وجل، ويكثر اعتمادهم على غير الله في كثير من الأمور، وهذا يقع فيه كثير من الناس.

ثالثاً: أن يستعين بالله عز وجل وإن عبد غيره، وهذا يقع فيه كثير من عباد الصوفية والفلاسفة الجهلة، وكذلك عند بعض الذين يغلّبون جانب الشهوات أو جانب المطامع والمصالح.

رابعاً: الذين هم على الاستقامة، إذ إنهم يجمعون بين عبادة الله والاستعانة به، أي: بمعناها الكامل.

وأما قوله: (وما أكثر ما تستلزم العبادة الاستعانة)، فأيهما الغالب؟ أن العبادة تستلزم الاستعانة، فتكون العبادة هي الفاعل والاستعانة هي المفعول، وهذا الذي يظهر لي، فمن اعتمد عليه القلب في رزقه ونصره ونفعه وضره خضع له وذل وانقاد وأحبه، لكن الشرع يرى أن الاستعانة تستلزم العبادة، مع أن العكس صحيح، فلو قيل: إن العبادة تستلزم الاستعانة، بمعنى: أن العبادة الحقيقية تستلزم الاستعانة صح التعبير، وإذا قلنا: الاستعانة تستلزم العبادة فربما يكون هنا أوجه؛ لأن الاستعانة الحقة لا ينتج عنها إلا حقيقة العبادة، فنقول: لو عكسنا صح ذلك، لكن ربما الشيخ قصد معنى آخر وهو ما ذكره، فجعل اللازم هو الاستعانة، والملزوم هو العبادة.

قال رحمه الله تعالى: [ فصل: في وجوب اختصاص الخالق بالعبادة والتوكل عليه، فلا يعمل إلا له، ولا يرجى إلا هو، هو سبحانه الذي ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بنفس قدرته عليك ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلاً، وما فعل بك لا يقدر عليه غيره.

ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضرر فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره، وهو الذي يدفع الضرر لا يدفعه غيره، كما قال تعالى: أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَكُمْ يَنصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك:20-21].

وهو سبحانه ينعم عليك، ويحسن إليك بنفسه، فإن ذلك موجب ما تسمى به، ووصف به نفسه، إذ هو الرحمن الرحيم، الودود المجيد، وهو قادر بنفسه، وقدرته من لوازم ذاته، وكذلك رحمته وعلمه وحكمته، لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه، بل هو الغني عن العالمين وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم:7-8].

وفي الحديث الصحيح الإلهي: (يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، ولو كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي شيئاً).. إلى آخر الحديث.

فالرب سبحانه غني بنفسه، وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه، واجب له من لوازم نفسه، لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره، بل أفعاله من كماله: كمُل ففعل، وإحسانه وجوده من كماله، لا يفعل شيئاً لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه، بل كل ما يريده فعله، فإنه فعّال لما يريد، وهو سبحانه بالغ أمره، فكل ما يطلب فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده لا يعينه أحد، ولا يعوقه أحد، لا يحتاج في شيء من أموره إلى معين، وما له من المخلوقين ظهير، وليس له ولي من الذل ].




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [10] 3228 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [6] 2912 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [1] 2635 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [9] 2454 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [3] 2395 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [12] 2356 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [15] 2342 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [13] 2156 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [7] 2145 استماع
شرح باب توحيد الألوهية من فتاوى ابن تيمية [5] 2068 استماع