شرح العقيدة الطحاوية [98]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر ، إلا سعد بن عبادة ، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية، ولم يقل أحد من الصحابة قط: إن النبي صلى الله عليه وسلم نص على غير أبي بكر ؛ لا علي ، ولا العباس .. ولا غيرهما، كما قد قال أهل البدع!

وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن ، فقال: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر ؟ فقال: أو في شك صاحبك؟ نعم، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها.

وفي الجملة: فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر ، لم يذكر حجة دينية شرعية، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه، أو أحق بها، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه، وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم له، ففي الصحيحين، عن عمرو بن العاص : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه على جيش ذات السلاسل، فأتيته، فقلت: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قلت: من الرجال؟ قال: أبوها، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، وعد رجالاً).

وفيهما أيضاً، عن أبي الدرداء قال: (كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما صاحبكم فقد غامر، فسلم، وقال: إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى علي، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ، ثلاثاً، ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل: أثم هو؟ فقالوا: لا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، فجعل وجه النبي صلى الله عليه وسلم يتمعر، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر : صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟ مرتين، فما أوذي بعدها)، ومعنى: غامر: غاضب وخاصم، ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله.

وفي الصحيحين أيضاً، عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، -فذكرت الحديث إلى أن قالت-: واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فذهب إليهم أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، فذهب عمر يتكلم فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول: والله ما أردت بذلك إلا أني هيأت في نفسي كلاماً قد أعجبني، خشيت ألا يبلغه أبو بكر ، ثم تكلم أبو بكر ، فتكلم أبلغ الناس، فقال في كلامه: نحن الأمراء، وأنتم الوزراء، فقال حباب بن المنذر : لا والله لا نفعل، منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر : لا، ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء، هم أوسط العرب، وأعزهم أحساباً، فبايعوا عمر ، أو أبا عبيدة بن الجراح ، فقال عمر : بل نبايعك، فأنت سيدنا وخيرنا، وأحبنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ عمر بيده فبايعه، وبايعه الناس، فقال قائل: قتلتم سعد ، فقال عمر : قتله الله ].

والسنح: العالية، وهي حديقة من حدائق المدينة معروفة بها.

قوله: (ثم لـعمر بن الخطاب رضي الله عنه).

أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لـعمر رضي الله عنهما ].

يعني: نحن بصدد الحديث عن ترتيب الخلفاء الراشدين في الخلافة، لكن ينبغي أن يستصحب الترتيب الآخر، وهو أن ترتيبهم في الفضل جاء هكذا، ولم يكن بالضرورة أن يكون ترتيبهم في الخلافة ناتجاً عن ترتبيهم في الفضل، لكنه وقع هكذا، ولعل الصحابة رضي الله عنهم جميعاً سددوا ووفقوا في اختيار الأفضل فالأفضل فالأفضل، فكما أن الأربعة ترتيبهم في الأفضلية هكذا: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، فكذلك ترتيبهم في الخلافة جاء هكذا، وإن كان ليس ترتيب الخلافة من لوازم ترتيب الأفضلية، لكنه وقع كما قلت، وذلك من توفيق الله للصحابة رضي الله عنهم.

وكان الناس في وقت عثمان رضي الله عنه خاضوا في أيهما أفضل علي أو عثمان ، ولم يترددوا في أفضلية أبي بكر وعمر ، وبعد قتل عثمان رضي الله عنه، بقي الأمر محل نزاع، ثم استقر بعد ذلك باتفاق الصحابة وباتفاق التابعين وتابعيهم وأئمة السلف وإلى أفضلية الخلفاء الراشدين في الإمامة كأفضليتهم في الأفضلية المطلقة، وأن أفضلهم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي ، وانتهت المقولة التي كان عليها بعض السلف قديماً من تفضيل علي على عثمان ، مع اعترافهم بإمامة عثمان ، فإنهم كانوا يفضلون علياً على عثمان ، ثم تركوا هذا التفضيل بعد توارد النصوص؛ لأنه لما أثيرت القضية روى الصحابة رضي الله عنهم وروى رواة الحديث من الثقات ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هؤلاء الأربعة من الصحابة، فتبين للسلف اتفاقاً أن عثمان أفضل من علي ، وأن النصوص الواردة في أفضليته أكثر من النصوص الواردة في أفضلية علي وفي كل خير، ولا شك أنهم الخلفاء الراشدون، وأنهم خير الصحابة بإطلاق، وهم من العشرة المبشرين بالجنة, وتفضيل الفاضل لا يعني استنقاص المفضول.

قال رحمه الله تعالى: [ أي: ونثبت الخلافة بعد أبي بكر لـعمر رضي الله عنهما؛ وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه، واتفاق الأمة بعده عليه، وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تنكر، وأكثر من أن تذكر.

فقد روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: قلت لأبي: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني، أوما تعرف؟ فقلت؟ لا، قال: أبو بكر ، قلت: ثم من؟ قال: عمر ، وخشيت أن يقول: ثم عثمان ! فقلت: ثم أنت؟ فقال، ما أنا إلا رجل من المسلمين.

وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر).

وفي صحيح مسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (وضع عمر على سريره، فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه، قبل أن يرفع، وأنا فيهم، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي، فالتفت إليه، فإذا هو علي ، فترحم على عمر ، وقال: ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك، وايم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وذلك أني كنت كثيراً ما أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر ، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر ، فإن كنت لأرجو، أو لأظن أن يجعلك الله معهما).

وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه، في رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزعه من القليب، ثم نزع أبي بكر ، ثم استحالت الدلو غرباً، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن.

وفي الصحيحين من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده نساء من قريش يكلمنه، عالية أصواتهن -الحديث، وفيه-: فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إيه يا ابن الخطاب ! والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك).

وفي الصحيحين أيضاً، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول: (قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم)، قال ابن وهب : تفسير محدثون: ملهمون ].

قال رحمه الله تعالى: [ قوله: (ثم لـعثمان رضي الله عنه).

أي: ونثبت الخلافة بعد عمر لـعثمان رضي الله عنهما، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه، وأمر الشورى، والمبايعة لـعثمان في صحيحه، فأحببت أن أسردها، كما رواها بسنده: عن عمرو بن ميمون قال: رأيت عمر رضي الله عنه قبل أن يصاب بالمدينة بأيام، ووقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف ، فقال: كيف فعلتما؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: حملناها أمراً هي له مطيقة؛ ما فيها كثير فضل، قال: انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق؟ قالا: لا، فقال عمر : لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً، قال: فما أتت عليه أربعة حتى أصيب، قال: إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب، وكان إذا مر بين الصفين قال: استووا، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبر، وربما قرأ سورة يوسف، أو النحل، أو نحو ذلك في الركعة الأولى، حتى يجتمع الناس، فما هو إلا أن كبر، فسمعته يقول: قتلني، أو أكلني الكلب، حين طعنه، فطار العلج بسكين ذات طرفين، لا يمر على أحد يميناً ولا شمالاً إلا طعنه، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً، مات منهم سبعة، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين طرح عليه برنساً، فلما ظن أنه مأخوذ نحر نفسه، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه، فمن يلي عمر فقد يرى الذي أرى، وأما نواحي المسجد، فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون: سبحان الله.. سبحان الله! فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة، فلما انصرفوا، قال: يا ابن عباس انظر من قتلني؟ فجال ساعة، ثم جاء فقال: غلام المغيرة ، قال: الصنع؟ قال: نعم، قال: قاتله الله! فلقد أمرت به معروفاً! الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة، وكان العباس أكثرهم رقيقاً، فقال: إن شئت فعلت؟ أي: إن شئت قتلنا؟ قال: كذبت! بعدما تكلموا بلسانكم، وصلوا قبلتكم، وحجوا حجكم؟ فاحتمل إلى بيته، فانطلقنا معه، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ، فقائل يقول: لا بأس عليه، وقائل يقول: أخاف عليه، فأتي بنبيذ فشربه، فخرج من جوفه، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جوفه، فعرفوا أنه ميت، فدخلنا عليه، وجاء الناس يثنون عليه، وجاء رجل شاب، فقال: أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك، من صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدم في الإسلام ما قد علمت، ثم وليت فعدلت، ثم شهادة، قال: وددت أن ذلك كان كفافاً لا علي ولا لي، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض، قال: ردوا علي الغلام، قال: يا ابن أخي! ارفع ثوبك، فإنه أنقى لثوبك، وأتقى لربك، يا عبد الله بن عمر ! انظر ما علي من الدين؟ فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفاً ونحوه، قال: إن وفى لي مال آل عمر فأده من أموالهم، وإلا فسل في بني عدي بن كعب، فإن لم تف أموالهم، فسل في قريش، ولا تعدهم إلى غيرهم، فأد عني هذا المال، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين، فقل: يقرأ عليك عمر السلام، ولا تقل: أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه، فسلم واستأذن، ثم دخل عليها، فوجدها قاعدة تبكي، فقال: يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه، قالت: كنت أريده لنفسي، ولأوثرن به اليوم على نفسي، فلما أقبل، قيل: هذا عبد الله قد جاء، قال: ارفعوني، فأسنده رجل إليه، قال: ما لديك؟ قال: الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت، قال: الحمد لله، ما كان شيء أحب إلي من ذلك، فإذا أنا قضيت فاحملوني، ثم سلم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فأدخلوني، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء تسرب معها، فلما رأيناها قمنا، فولجت عليه، فبكت عنده ساعة، واستأذن الرجال، فولجت داخلاً لهم، فسمعنا بكاءها من الداخل، فقالوا: أوص يا أمير المؤمنين، استخلف، قال: ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فسمى علياً ، وعثمان ، والزبير ، وطلحة ، وسعداً ، وعبد الرحمن ، وقال: يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له، فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة.

وقال: أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين، أن يعرف لهم حقهم، ويحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً، الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم، أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأوصيه بأهل الأمصار خيراً، فإنهم ردء الإسلام، وجباة الأموال، وغيظ العدو؛ ألا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم، وأوصيه بالأعراب خيراً، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام، أن يؤخذ من حواشي أموالهم، وأن ترد على فقرائهم، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله، أن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.

فلما قبض خرجنا به، فانطلقنا نمشي، فسلم عبد الله بن عمر ، قال: يستأذن عمر بن الخطاب ، قالت: أدخلوه فأدخل، فوضع هنالك مع صاحبيه، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط، فقال عبد الرحمن بن عوف : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، قال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، وقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن ، فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه، فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إلي؟ والله علي ألا آلو عن أفضلكم؟ قالا: نعم، فأخذ بيد أحدهما، فقال: لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والقدم في الإسلام ما قد علمت، فبالله عليك، لئن أمرتك لتعدلن؟ ولئن أمرت عليك لتسمعن ولتطيعن؟ ثم خلا بالآخر، فقال له مثل ذلك، فلما أخذ الميثاق، قال: ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه، وبايع له علي ، وولج أهل الدار فبايعوه.

وعن حميد بن عبد الرحمن: أن المسور بن مخرمة أخبره: أن الذين ولاهم عمر اجتمعوا وتشاوروا، قال لهم عبد الرحمن : لست الذي أنافسكم عن هذا الأمر، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم، فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن ، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم، مال الناس إلى عبد الرحمن ، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي، حتى إذا كانت تلك الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان ، قال المسور بن مخرمة : طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل، فضرب الباب حتى استيقظت، فقال: أراك نائماً؟! فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم، انطلق فادع لي الزبير وسعداً ، فدعوتهما له، فشاورهما ثم دعاني، فقال: ادع لي علياً ، فدعوته، فناجاه حتى ابهار الليل، ثم قام علي من عنده وهو على طمع، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً، ثم قال: ادع لي عثمان ، فدعوته، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح، فلما صلى الناس الصبح، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافقوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ، ثم قال: أما بعد، يا علي ، إني قد نظرت في أمر الناس، فلم أرهم يعدلون بـعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلاً، فقال لـعثمان : أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن ، وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار، وأمراء الأجناد والمسلمون.

ومن فضائل عثمان رضي الله عنه الخاصة: كونه ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه.

وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعاً في بيته كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر ، فأذن له وهو على تلك الحالة فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحالة فتحدث، ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة رضي الله عنها: دخل أبو بكر فلم تهش له ولم تباله، ثم دخل عمر فلم تهش ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك؟ فقال: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة).

وفي الصحيح: (لما كان يوم بيعة الرضوان، وأن عثمان رضي الله عنه كان قد بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: هذه يد عثمان ، فضرب بها على يده، فقال: هذه لـعثمان).

قوله: (ثم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه).

أي: ونثبت الخلافة بعد عثمان لـعلي رضي الله عنهما.

لما قتل عثمان وبايع الناس علياً ، صار إماماً حقاً واجب الطاعة، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة، كما دل عليه حديث سفينة المقدم ذكره، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء).

وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ابنه ستة أشهر.

وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه، وهو خير ملوك المسلمين، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهما الخلافة، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه، ثم بعد ستة أشهر فوض الأمر إلى معاوية ، وظهر صدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين)، والقصة معروفة في موضعها.

فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه بمبايعة الصحابة، سوى معاوية مع أهل الشام.

والحق مع علي رضي الله عنه، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والافتراء على عثمان وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة، كـعلي ، وطلحة ، والزبير ، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض، ممن بعدت داره من أهل الشام، ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون سوء ].

جاء في بعض النسخ: (ويحمي الله عثمان أن يظن بالأكابر ظنون سوء) وكلا العبارتين صحيحتين، إن كان الخطاب المقصود به عثمان ، فلا شك أن عثمان رضي الله عنه لا يمكن أن يظن بالناس تلك الظنون التي نسبت إليه، لكن العبارة الموجودة أقرب: (ومحبي عثمان تظن بالأكابر ظنون السوء) يعني: أنهم كانوا بعيدين عن المدينة ولا يعرفون ماذا حدث، ويظنون أن الصحابة قصروا في حق عثمان ، ولم تبلغهم الأخبار على وجهها، فأبوا أول الأمر مبايعة علي حتى يقتص لـعثمان ، والقضية اجتهادية بين المسلمين، لم يكن فيها قصد الهوى أو الفرقة كما هو معروف.

قال رحمه الله تعالى: [ وبلغ عنهم أخباراً منها ما هو كذب، ومنها ما هو محرف، ومنها ما لم يعرف وجهه، وانضم إلى ذلك أهواء قوم يحبون العلو في الأرض، وكان في عسكر علي رضي الله عنه من أولئك الطغاة الخوارج، الذين قتلوا عثمان من لم يعرف بعينه، ومن تنتصر له قبيلته، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله، ورأى طلحة والزبير أنه إن لم يُنْتَصَرْ للشهيد المظلوم، ويقمع أهل الفساد والعدوان، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه، فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ، ولا من طلحة والزبير ، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين، ثم جرت فتنة صفين لرأي؛ وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم، أو لا يتمكن من العدل عليهم، وهم كافون، حتى يجتمع أمر الأمة، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر، كما طغوا على الشهيد المظلوم ].

يعني: أن علياً رضي الله عنه لا يستطيع تحقيق مطلب أهل الشام الذين أرادوا الاقتصاص من قتلة عثمان ؛ لأن علياً رضي الله عنه والذين خرجوا معه من المدينة أعرف من أهل الشام بتفاصيل القضية وبملابساتها، وبأحوال الجيش الذي مع علي ، والذي منه قتلة عثمان ، ومنهم من لا يعرف بعينه، ومنهم له أحوال لا يمكن معها إقامة القصاص ما لم تجتمع كلمة المسلمين على إمام واحد، فينفذ أمره.

فالمسألة مسألة وجهة نظر، فكل من الصحابة ومن كان في الجيش في الجملة يريد مطلباً يرى أنه هو الشرعي، وأنه الذي به يكون الحق، لكن لا يخلو من بين هؤلاء وبين هؤلاء من يريد الفتنة، ولله الأمر من قبل ومن بعد، لكن ليس من الصحابة، وهذا مما يجب أن يفهم، لم يثبت ولن يثبت أن أحداً من الصحابة كان صاحب هوى أو له مطلب أو سلطان، لم يكن أحد منهم يريد ذلك، لكن ممن التفوا حولهم من قتلة عثمان ، ومن الشيعة السبئية والخوارج وأهل النفاق، وقليلي الفقه في الدين، وحدثاء الأسنان الذين تأخذهم العواطف ولا يقدرون الأمور بقدرها، وليس عندهم تجارب في علاج هذه الأمور، ولم يعرفوا القضية بتفاصيلها، ولم يعرفوا أصول الشرع، وكيف تحكم الأمور الكبار، وكيف تصرف المصالح العظمى، في كل هذه الجيوش من لا يدرك هذه الأمور، فـعلي بن أبي طالب يعرف هذا جيداً، وإلا فهو أغير على عثمان من أكثر ممن يدعي أنه منتصر له ممن ليسوا من الصحابة، وكان علي من المدافعين عنه، لكن لم يأذن عثمان بأن يدافع عنه علي بنفسه، فلما يأس، وعزم عثمان على الصحابة رضي الله عنهم بألا يفعلوا شيئاً تجاه الثوار، لم يستطيع علي بن أبي طالب أن يفعل شيئاً بنفسه، لكنه أرسل ولديه الحسن والحسين إلى دار عثمان للدفاع عنه.

إذاً: لا شك أن الصحابة كانوا مجتهدين وكانوا متأولين في الفتنة التي حصلت، وكان كل منهم يريد الحق، والدليل على ذلك أنه علموا النصوص التي في الفتنة في أثناء الفتنة رفعوا أيديهم منها؛ فلما بلغ الزبير وطلحة حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الفتنة، والذي تبين لهما فيه أنه فتنة انصرفا، وذلك حين عرفا أن علياً محق، فلما انصرفا لحقهما أصحاب الفتنة أو مغذي الفتنة، فقتلوا الزبير في الصحراء، وطلحة في أرض المعركة بعد أن كف عن القتال، وهذا مما يدل على أن الفتنة يغذيها غير الصحابة.

فإذاً: ليس للصحابة فيها هوى ولا فرقة، ولم يحدث -بحمد الله- أن أحداً من الصحابة كان صاحب فرقة أو هوى، ولم يتبين ذلك ولا حتى بمجرد القرائن، أما الأقاصيص والحكايات فلا يبن عليها شيء، ولا يعتمد عليها؛ لأنها مجرد افتراءات وأكاذيب.

أما قوله: (وهم كافون، حتى يجتمع أمر الأمة). يعني: كافون عن البيعة، حتى يتم جمع الأمة على إمام واحد متفق عليه.

قال رحمه الله تعالى: [ وعلي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد المهدي الذي تجب طاعته، ويجب أن يكون الناس مجتمعين عليه، اعتقد أن الطاعة والجماعة الواجبتين عليهم تحصل بقتالهم، بطلب إمام، أن لو أصر عليهم بما اعتقد أنه يحصل به أداء الواجب، ولم يعتقد أن التأليف لهم كتأليف المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده مما يسوغ، فحمله ما رآه من أن الدين إقامة الحد عليهم، ومنعهم من الإثارة، دون تأليفهم على القتال، وقعد عن القتال أكثر الأكابر، لما سمعوه من النصوص في الأمر بالقعود في الفتنة، ولما رأوه من الفتنة التي تربو مفسدتها على مصلحتها، والقول في الجميع بالحسنى: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].

والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا، فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا بمنه وكرمه ].

ذكر بعض الأصول المتعلقة بالفتنة التي حصلت في خلافة علي رضي الله عنه

من الأصول المهمة فيما يتعلق بالفتنة:

أولاً: أن أكثر الصحابة لم يشاركوا في هذا الأمر؛ وذلك حين رأوا أن الأمر فتنة، فتأخروا، بخلاف ما تذكره روايات الرواة وأكثرهم من الشيعة من أن أغلب الصحابة وقعوا في النزاع، فالصحيح كما ذكر الأئمة المحققون أنه لم يشارك من الصحابة في القتال أكثر من ثلاثين، بل بعضهم قال: عشرة، يعني: الذين شاركوا في مسألة المداولة ومحاولة جمع المسلمين على رأي، فانضموا إما إلى علي وإما إلى معاوية .

ثانياً: أن الصحابة الذين شاركوا منهم من خرج أثناء القتال، خاصة الكبار كـطلحة والزبير ؛ فقد خرجا منها في أثنائها لما علما بأنها فتنة، وحين بلغهما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده علي بن أبي طالب وذكره لهما.

ثالثاً: أن جميع من شارك في الفتنة ندموا بعد ذلك، حتى إن علي بن أبي طالب والزبير رضي الله عنهما حينما التقى كل واحد منهما الآخر تعانقا، حتى وقع سيفاهما على الأرض من شدة التأثر، وذهب علي إلى عائشة رضي الله عنها -وهي في جيش خصومه- فاعتذر منها، وكلمها بأدب، وخاطبها بأنها أمه، وقال: يا أماه، وهذا مما يدل على أن قلوبهم كانت صافية، بعكس ما يقوله الروافض، وأكثر المؤرخين الذين تكلموا عن القضية.

رابعاً: أنها فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، ويضطر من يشارك فيها ومن لم يشارك فيها إلى ارتكاب الضرورات؛ لأن الأمور في وقت الفتنة تختلف عن حالة الرخاء والسلم، والفتنة لها ضرورات لا بد من اعتبارها، فقد يقبل المسلم في الفتنة ما فيه ضيم وضير عليه، قد يقبل المسلم في الفتنة ما يضره في دينه، لكنه يصبر، قد تعرض على المسلم في الفتنة مغريات، وتختل موازين الناس في الفتنة أيضاً في تقرير الحق والباطل، ففي الغالب في الفتنة ينغمر الحق وتسود الآراء الباطلة، حتى يرى الناس أنها هي الحق، وقد يخفى الأمر حتى على العاقل اللبيب، ويكون العاقل العالم الفقيه الراسخ الداهية حيران من أمره، أما الصغير العاطفي فيلج في الفتنة ويظن أنه على هدى، وهو ليس على هدى.

فهذه أمور حاصلة من خلال هذه الفتنة التي حدثت بين الصحابة؛ ولذلك اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض فيما شجر بين الصحابة، واعتبار الأمر أمرَ تاريخٍ قد قضي لم نشهده ولم نعلمه، والذين شهدوه ما علموا كل خلفياته، مما جعلهم تختلف عندهم موازين الحكم، وموازين الرؤية للقضية، فكيف بمن جاء بعدهم بأجيال، وكل منهم كان يروي ما يرى ولا يدري عما لا يرى، وكان أغلب ما في القضية من أحكام قطعية في قلوب أصحابها عند علي ومعاوية وكبار الصحابة، لا أحد يدري عما كان في نفوسهم من اجتهادهم إلا الإحسان الظني فيهم، وقضوا إلى ما فعلوا، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لا شك أنهم لم يقعوا في أمر يقتضي القدح والطعن في أحد منهم، ولا إلغاء الأفضلية التي كانت لهم؛ لأن الصحابة قدرهم قبل الفتنة كقدرهم بعدها ولا فرق، لم تغير الفتنة من حقوقهم شيئاً، وما ثبت لهم من النصوص الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حقوقهم العامة، وفي حقوق بعضهم الخاصة، فهو ثابت لم تغير فيه الفتنة شيئاً، وإذا كان الأمر كذلك فكأن الفتنة لم تكن، وهي أمر انقضى ومضى.

إذاً: اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض في الفتنة، ولا حتى من أجل بيان وتقرير القول الحق؛ لأن إثارة القضية أمام عامة الناس، وأمام جمهور المسلمين، وأمام غير الراسخين في العلم لغير حاجة وضرورة مما يحرك القلوب على الصحابة، ومما يثير الشكوك والتساؤلات، ومما يبرر الوقوع في الفتن عند ضعاف الفقه، فما أكثر ضعف الفقه، أكثر الناس ربما إذا سمع القصة عن الصحابة ظن أنه يسوغ له أن يخالف، وأن يفارق، وأن يعاند، وأن يناطح العلماء ويناطح الولاة، ويظن أن هذا هو نهج الصحابة.

فلذلك ينبغي ألا تثار قضية الصحابة أبداً إلا عند طلاب العلم المتخصصين، في دروس خاصة ممن يهمهم ذلك، أو عند الإجابة على سؤال يجب ويتعين الإجابة عليه عند من سأل، أما إثارة القضية في الندوات أو في المحاضرات، أو في الكتب، أو في رسائل أو بحوث من جديد، فهي من الأمور التي نهى عنها السلف، ولذلك لما ظهرت الأشرطة الأخيرة فيما شجر بين الصحابة، ورجع الناس إلى المشايخ الكبار والعلماء بسبب ما حيرهم من ضعف الإيمان، صدرت فتاواهم بعدم جواز تداول هذه الأشرطة، وعدم نشرها بين الناس؛ لأن هذا يثير الضغائن على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثير الشكوك، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الأمور، ولا يذكرون القواعد الشرعية في الحكم في هذه الأمور.

فيجب على طلاب العلم أن يلتزموا هذا التوجيه من المشايخ الكرام.

من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه

من الأصول المهمة فيما يتعلق بالفتنة:

أولاً: أن أكثر الصحابة لم يشاركوا في هذا الأمر؛ وذلك حين رأوا أن الأمر فتنة، فتأخروا، بخلاف ما تذكره روايات الرواة وأكثرهم من الشيعة من أن أغلب الصحابة وقعوا في النزاع، فالصحيح كما ذكر الأئمة المحققون أنه لم يشارك من الصحابة في القتال أكثر من ثلاثين، بل بعضهم قال: عشرة، يعني: الذين شاركوا في مسألة المداولة ومحاولة جمع المسلمين على رأي، فانضموا إما إلى علي وإما إلى معاوية .

ثانياً: أن الصحابة الذين شاركوا منهم من خرج أثناء القتال، خاصة الكبار كـطلحة والزبير ؛ فقد خرجا منها في أثنائها لما علما بأنها فتنة، وحين بلغهما الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أورده علي بن أبي طالب وذكره لهما.

ثالثاً: أن جميع من شارك في الفتنة ندموا بعد ذلك، حتى إن علي بن أبي طالب والزبير رضي الله عنهما حينما التقى كل واحد منهما الآخر تعانقا، حتى وقع سيفاهما على الأرض من شدة التأثر، وذهب علي إلى عائشة رضي الله عنها -وهي في جيش خصومه- فاعتذر منها، وكلمها بأدب، وخاطبها بأنها أمه، وقال: يا أماه، وهذا مما يدل على أن قلوبهم كانت صافية، بعكس ما يقوله الروافض، وأكثر المؤرخين الذين تكلموا عن القضية.

رابعاً: أنها فتنة، والفتنة تنقلب فيها الموازين، ويضطر من يشارك فيها ومن لم يشارك فيها إلى ارتكاب الضرورات؛ لأن الأمور في وقت الفتنة تختلف عن حالة الرخاء والسلم، والفتنة لها ضرورات لا بد من اعتبارها، فقد يقبل المسلم في الفتنة ما فيه ضيم وضير عليه، قد يقبل المسلم في الفتنة ما يضره في دينه، لكنه يصبر، قد تعرض على المسلم في الفتنة مغريات، وتختل موازين الناس في الفتنة أيضاً في تقرير الحق والباطل، ففي الغالب في الفتنة ينغمر الحق وتسود الآراء الباطلة، حتى يرى الناس أنها هي الحق، وقد يخفى الأمر حتى على العاقل اللبيب، ويكون العاقل العالم الفقيه الراسخ الداهية حيران من أمره، أما الصغير العاطفي فيلج في الفتنة ويظن أنه على هدى، وهو ليس على هدى.

فهذه أمور حاصلة من خلال هذه الفتنة التي حدثت بين الصحابة؛ ولذلك اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض فيما شجر بين الصحابة، واعتبار الأمر أمرَ تاريخٍ قد قضي لم نشهده ولم نعلمه، والذين شهدوه ما علموا كل خلفياته، مما جعلهم تختلف عندهم موازين الحكم، وموازين الرؤية للقضية، فكيف بمن جاء بعدهم بأجيال، وكل منهم كان يروي ما يرى ولا يدري عما لا يرى، وكان أغلب ما في القضية من أحكام قطعية في قلوب أصحابها عند علي ومعاوية وكبار الصحابة، لا أحد يدري عما كان في نفوسهم من اجتهادهم إلا الإحسان الظني فيهم، وقضوا إلى ما فعلوا، وأمرهم إلى الله عز وجل، لكن لا شك أنهم لم يقعوا في أمر يقتضي القدح والطعن في أحد منهم، ولا إلغاء الأفضلية التي كانت لهم؛ لأن الصحابة قدرهم قبل الفتنة كقدرهم بعدها ولا فرق، لم تغير الفتنة من حقوقهم شيئاً، وما ثبت لهم من النصوص الشرعية عن النبي صلى الله عليه وسلم في حقوقهم العامة، وفي حقوق بعضهم الخاصة، فهو ثابت لم تغير فيه الفتنة شيئاً، وإذا كان الأمر كذلك فكأن الفتنة لم تكن، وهي أمر انقضى ومضى.

إذاً: اتفق السلف على أنه لا يجوز الخوض في الفتنة، ولا حتى من أجل بيان وتقرير القول الحق؛ لأن إثارة القضية أمام عامة الناس، وأمام جمهور المسلمين، وأمام غير الراسخين في العلم لغير حاجة وضرورة مما يحرك القلوب على الصحابة، ومما يثير الشكوك والتساؤلات، ومما يبرر الوقوع في الفتن عند ضعاف الفقه، فما أكثر ضعف الفقه، أكثر الناس ربما إذا سمع القصة عن الصحابة ظن أنه يسوغ له أن يخالف، وأن يفارق، وأن يعاند، وأن يناطح العلماء ويناطح الولاة، ويظن أن هذا هو نهج الصحابة.

فلذلك ينبغي ألا تثار قضية الصحابة أبداً إلا عند طلاب العلم المتخصصين، في دروس خاصة ممن يهمهم ذلك، أو عند الإجابة على سؤال يجب ويتعين الإجابة عليه عند من سأل، أما إثارة القضية في الندوات أو في المحاضرات، أو في الكتب، أو في رسائل أو بحوث من جديد، فهي من الأمور التي نهى عنها السلف، ولذلك لما ظهرت الأشرطة الأخيرة فيما شجر بين الصحابة، ورجع الناس إلى المشايخ الكبار والعلماء بسبب ما حيرهم من ضعف الإيمان، صدرت فتاواهم بعدم جواز تداول هذه الأشرطة، وعدم نشرها بين الناس؛ لأن هذا يثير الضغائن على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويثير الشكوك، وأكثر الناس لا يعرفون هذه الأمور، ولا يذكرون القواعد الشرعية في الحكم في هذه الأمور.

فيجب على طلاب العلم أن يلتزموا هذا التوجيه من المشايخ الكرام.

قوله: (وهم الخلفاء الراشدون، والأئمة المهديون).

تقدم الحديث الثابت في السنن، وصححه الترمذي عن العرباض بن سارية قال: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة بليغة، ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقال قائل: يا رسول الله، كأن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا؟ فقال: أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة).

وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل، كترتيبهم في الخلافة.

ولـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما من المزية أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين، ولم يأمرنا في الاقتداء في الأفعال إلا بـأبي بكر وعمر ، فقال: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر)، وفرق بين اتباع سنتهم والاقتداء بهم، فحال أبي بكر وعمر فوق حال عثمان وعلي رضي الله عنهم أجمعين ].

يعني: أن الفارق بين الاقتداء وبين الاتباع، أن الاتباع يكون باتباع المناهج والسنن التي لها أصل في الشرع، فنتبع الخلفاء الراشدين في الأمور التي لم يكن فيها خلاف، أو فيما ينظم أحوال الأمة، مما نسميه الآن: المناهج، سواء مناهج تقرير الدين، أو مناهج الدفاع عن الدين، أو مناهج حماية الأمة من البدعة، أو مناهج التعامل مع غير المسلمين وغير أهل السنة، أو مناهج أحكام أهل الذمة.. ونحوها، فهذه تسمى مناهج غالباً يكون الحال فيها ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة، حتى بعد الخلفاء الراشدين، لكن الخلفاء الراشدون تميزوا؛ لأنهم كانوا في عهد أكابر الصحابة، فكانوا إذا وافقوهم على شيء أو أقروهم على أمر صار إجماعاً، أما الاقتداء فهو في الأحوال الخاصة التي تحدث من الخليفة.. أو نحوها، ولا شك أن الخلفاء الأربعة كلهم في أحوالهم الخاصة أهل قدوة، لكن حدث في عهد عثمان وفي عهد علي من الفتن ما يجعل التصرفات أحياناً تكون للضرورات وليست للأحكام العامة والمناهج، فـعلي رضي الله عنه تصرف تصرفاً ضرورياً تجاه الفتنة ما يلزم الاقتداء به فيه، وكذلك عثمان رضي الله عنه في مواجهته للفتنة في آخر أمره تصرف تصرفاً ضرورياً لا يلزم الاقتداء به فيه؛ لأنه لجأ إلى كثير من أموره ضرورة.

فعلى هذا هناك فرق بين الاقتداء وبين اتباع السنة.

قال رحمه الله تعالى: [ وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان ، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان ، وعلى هذا عامة أهل السنة.

وقد تقدم قول عبد الرحمن بن عوف لـعلي رضي الله عنهما: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بـعثمان .

وقال أيوب السختياني : من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار ].

في عهد متأخري الصحابة وأوائل التابعين استقر الأمر، ولم يعد هناك شك عند السلف في ترتيب الخلفاء على ما ذكر، وأن عثمان أفضل من علي ، ولذلك من خالف من السلف فمخالفته زلة لا يقرونه عليها، وإذا كان من غير السلف ومن غير المعتبرين فمذهبه بدعة، لكن بدعة غير مغلظة؛ بدعة تفضيل علي على عثمان من البدع غير المغلظة، وتسمى: تشيعاً، لكن ليس كالتشيع الاصطلاحي عندنا، هؤلاء الذين فضلوا علياً على عثمان وهم على منهج أهل السنة والجماعة في العموم، هؤلاء زلوا ووقعوا في بدعة خفيفة، ويسمون: المفضلة، ويقال: فيهم تشيع، كما قيل عن عبد الرزاق بن همام ، وكما قيل عن سفيان الثوري قبل رجوعه إلى مذهب أهل السنة في هذه المسألة، وكما قيل عن الحاكم النيسابوري .. وعن كثير من الأئمة، يقال: فيهم تشيع، ولكن لا يقصد به تشيع الرافضة الآن، هذا ليس بالتشيع، هذا رفض.

أما من قدم علياً على أبي بكر وعمر وعثمان جميعاً فهذا يسمى من المفترية، حتى لو كان في أموره الأخرى على السنة، ويندر، بل لم ينسب إلى أهل السنة من قال بهذا القول، بل هذا القول قال به الشيعة، ولذلك كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يأمر بجلد من يفضلونه على أبي بكر وعمر ، ويسميهم: المفترية، وكتب إلى ولاته: بأن من فضله على أبي بكر وعمر فليجلد جلد المفتري ثمانين جلدة، ولذلك سماهم السلف: المفترية.

قال رحمه الله تعالى: [ وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: (كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: أفضل أمة النبي صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان) ].




استمع المزيد من الشيخ ناصر العقل - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [68] 3351 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [43] 3117 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [64] 3023 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [19] 2983 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [31] 2846 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [23] 2837 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [45] 2824 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [80] 2786 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [92] 2779 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [95] 2747 استماع