شرح زاد المستقنع باب صلاة العيدين [2]


الحلقة مفرغة

تقديم الصلاة على الخطبة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة سنناً، وفي الثانية قبيل القراءة خمساً].

قوله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة].

السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا هو فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فهو فعله وفعل الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وأول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم عفا الله عنا وعنه، فإنه كان إذا خطب مروان ففي آخر الخطبة كان يشتم علياً كما كان يفعله بنو أمية حتى عهد عمر بن عبد العزيز ، فكانوا يشتمون علياً على المنابر في خطب الجمعة والعيدين، وقد قيل: إن معاوية كان منه ذلك لأنه بلغه أن علياً سبه، فكان من باب رد الأذى بالأذى، وعلى العموم فهذه السنة السيئة بقيت في أعيادهم وفي جمعهم، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون عن مروان إذا ذكر علياً رضي الله عنه ونال منه، فكأنه أخذ في نفسه، فصار يقدم الخطبة على الصلاة، فلما مضى إلى صلاته ذات يوم، وكان معه أبو سعيد رضي الله عنه، فلما أراد أن يصعد المنبر جذبه أبو سعيد ، فقال له: غيرتم! -أي: غيرتم السنة- فقال: إن الناس ليسوا كما تعهد. أي: ليس الناس كما تعهد يصبرون على الخطبة، فكأنه اجتهد في تقديم الخطبة على الصلاة حتى يسمع الناس خطبته وما يكون فيها، ولا شك أن هذا من البدع المحدثات، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.

فمن قدم الخطبة على الصلاة فإن هذه الخطبة لا يعتد بها ولا تصح؛ لأنه خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله واقع في غير موقعه، ووجوده وعدمه على حد سواء، وإنما تصح الخطبة إذا وقعت بعد صلاة العيدين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه.

تكبيراتها وحكم الرفع فيها

فيقول المصنف رحمه الله: [يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً، وفي الثانية قبل القراءة خمساً]:

هذا هو الثابت من هديه صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وقد كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، فقد كان هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه في صلاة العيدين: عيد الأضحى وعيد الفطر.

قال رحمه الله تعالى: [يرفع يديه مع كل تكبيرة].

رفع اليدين مع كل تكبيرة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم في مواضع، منها: صلاة العيدين وصلاة الجنازة.

فالمأثور عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يرفع يديه، وكذلك ابن عمر، وكانوا يقولون: إنه لا يضم.

فـابن عمر -خاصة مع شدة تحريه للسنة- لن يرفع يديه إلا وله أصل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح ابن خزيمة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في تكبيرات الجنائز، والصحيح أنه من رفع فلا حرج عليه ومن ترك فلا حرج عليه، وكلٌ على خير، فمن رفع فله أصل وله سنة، خاصة وأن الأثرم روى بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في هذه التكبيرات، ولكني لم أطلع على سنده، بحيث فلم أجد من جزم بصحة هذه الرواية، فإن صحت فلا إشكال أنها السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها الأفضل.

قال رحمه الله تعالى: [ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً].

هذا القول المأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد روي عنه أنه كان يقوله بين التكبيرات، فاستحب بعض العلماء أن يقول هذا؛ لأنه أثر عنه رضي الله عنه، والذي اختاره بعض العلماء أنه يتوقف في الذكر، لكن لو كبر هذا التكبير فإنه يثاب؛ لأن له أصلاً من حديث أبي هريرة أن رجلاً في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر، ثم قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها إلى السماء أيهم يصعد بها)، وهذا يدل على فضل هذه المعقبات العظيمة.

وهذا من أعظم ما يكون من الثناء على الله عز وجل وإجلاله سبحانه وتعظيمه، فلذلك قالوا: يقوله بين التكبيرات أفضل من أن يسكت، ولكن لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مرفوع، فمن سكت فهو على سنة، ومن قال هذا تأسياً بما أثر عن ابن مسعود -والظن به أن يكون له شبهة التأسي، أو يكون له أصل- فإنه لا حرج عليه، ولا ينكر عليه؛ لأن له سلفاً، خاصة أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب طائفة الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله.

قال رحمه الله تعالى: [وإن أحب قال غير ذلك]:

هذا بناءٌ على أن قول الصحابي حجة، فإذا كان قول الصحابي حجة فكأنهم يرون مشروعية الذكر بين التكبيرات، وأن المحفوظ أن يذكر بينهما، وألا تخلو من وجود ذكر، فإذا كان الأصل الذكر والثناء على الله فلو قال غيرها من الأذكار التي فيها ثناء على الله فلا حرج.

ولكن الأقوى والأولى والأقرب -إن شاء الله- إلى السنة أن يسكت.

السنة في القراءة فيها

قال رحمه الله تعالى: [ثم يقرأ جهراً بعد الفاتحة بسبح في الأولى، وبالغاشية في الثانية]:

كان من هديه عليه الصلاة والسلام أنه يصلي صلاة العيدين جهريةً، وهذا مما توافق فيه صلاة النهار صلاة الليل، وإلا فالأصل في الصلاة السرية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها في النهار ما عدا الفجر، وكذلك صلاة العيدين فقد أثر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، وكذلك أيضاً ثبت عنه أنه قرأ بـ: ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، وللإمام ابن القيم رحمة الله عليه كلام نفيس في هذه المسألة، فقد بين أن اختيار هاتين السورتين للدلالة على عظمة الله سبحانه وتعالى، خاصة أن فيهما ذكر البعث والنشور ونهاية الدنيا وصيرورة الإنسان إلى الآخرة، وما يعين على رقة قلبه وخشوعه وخضوعه، وخاصة في يوم العيد حيث الناس قد لبسوا أحسن ما يجدون من الثياب، فلربما دخل في الإنسان الغرور ولهو الدنيا والركون إلى شيء مما يصرفه عن ذكر الله عز وجل، فعندما يقرأ الإمام هاتين السورتين فكأنه يوحي إلى القلوب أن تكون على قرب وخوف من الله سبحانه وتعالى، فمع أنه يوم عيد يشرع تذكيرهم بالله عز وجل، ولذلك اختار هذه السورة لما فيها من بالغ العظة والذكرى، خاصة وأن سورة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] تشتمل على نهاية الإنسان وحال السعداء والأشقياء، وما ينتهي إليه حال الناس من الخروج من قبورهم إلى لقاء الله جل جلاله، فتذكير الناس في مثل هذا اليوم الذي يغلب فيه الفرح والسرور أدعى إلى الموازنة والبعد عن الغلو في الفرح، والإسلام دين الوسط، فإنه في الأعياد لا يفتح الباب على مصراعيه حتى يسترسل الناس في غيهم وفي فجورهم، ويقعون في أمور حرمها الله، وكذلك لا يضيق على الناس، فبأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام لما كان يوم العيد، ودخل الحبشة يلعبون بالسلاح في المسجد سألته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن تنظر إليهم، فقام على قدميه الشريفتين صلوات الله وسلامه عليه، وهي تنظر إليهم من وراء ظهره، وهو صلوات الله وسلامه عليه سيد الأمة وأفضل الخلق، فمع فضله وعلو مكانته يقف لها من أجل أن تنظر إليهم وهم يلعبون؛ لأنه يوم عيد، ويوم فرحة ويوم سرور، ولم يعتب عليها، ذلك لأن الحال يقتضي التوسعة، تقول أم المؤمنين عائشة : وهو يقول لي: (هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ وأقول: لا بعد). صلوات الله وسلامه عليه، ولما دخل أبو بكر رضي الله عنه وجاريتان تضربان بالدف لـعائشة رضي الله عنها تغنيان لها، فأراد أن يضربهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يوم عيد) أي: لا تؤذهما فإنه يوم عيد. ولما دخل عمر على الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فأراد أن يحصبهم، قال: (يا عمر ! إنه يوم عيدنا)، فهذا يدل على التوسعة، لكن إذا زاد الأمر فإنه يخشى أن الناس يفرطون في اللهو المباح، وفي الأمور التي توجب الوقوع في سخط الله وغضبه وكفران نعمه وبطر عيشه، فقرأ عليه الصلاة والسلام بـق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، وكذلك اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]، فإن هاتين السورتين -خاصة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ [القمر:1]- فيهما تذكير بحال الأمم الماضية، وكيف كانت في عزة ومنعة ثم آلت إلى ما آلت إليه من سوء الخاتمة -والعياذ بالله- بعصيان الله جل وعلا، فهذا شيء عجيب من الموازنة والانضباط لكي يكون المسلم بين الإفراط والتفريط، فهو الوسط الذي يحمد صاحبه، وتكون به عواقب الخير في دينه ودنياه وآخرته.

صفة الخطبة ومحلها وما يقول فيها

قال رحمه الله تعالى: [فإذا سلم خطب خطبتين كخطبتي الجمعة].

هذا هو هديه عليه الصلاة والسلام، كما جاء في حديث ابن عباس رضي الله عنه وغيره فخطبه عليه الصلاة والسلام يوم الفطر والأضحى كانت تشتمل على تعليم الناس، كما سيأتي.

فالخطبة في هذا اليوم يقصد منها بيان الأحكام الشرعية، وكذلك أيضاً تذكير الناس ووعظهم والأخذ بمجامع قلوبهم إلى الله عز وجل، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب أتى النساء ووعظهن، وقال: (يا معشر النساء: تصدقن ولو من حليكن، فإني أريتكن أكثر حطب جهنم. قلن: يا رسول الله! ولِمَ؟ قال: بكفركن. قلن: نكفر بالله؟ قال: لا. إنما تكفرن العشير) إلى آخر الحديث.

فهذا يدل على أنه ينبغي وعظ الناس في خطبة العيد، سواءٌ أكان عيد الأضحى أم عيد الفطر.

قال رحمه الله تعالى: [يستفتح الأولى بتسع تكبيرات، والثانية بسبع].

هذا فيه حديث ضعيف في السنن عنه عليه الصلاة والسلام متكلم على سنده، إلا أن جمعاً من العلماء تسامحوا فيه، وإن كان بعضهم يقول: السنة والأولى أن يستفتح بالحمد، فإن خشي نفرة القلوب وحصول بعض المفاسد من استفتاحه بالحمد، فإنه لا بأس له أن يستفتح بالتكبير تأليفاً للقلوب كما يختاره بعض المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسائل السنن حين يخشى معها حصول الفتنة وما لا يحمد عقباه.

قال رحمه الله تعالى: [يحثهم في الفطر على الصدقة، ويبين لهم ما يخرجون].

قوله: [يحثهم في الفطر على الصدقة] هذا قياس على خطبة الأضحى إذا قصد بهذه الصدقة صدقة الفطر كما هو ظاهر من قوله: [ويبين لهم ما يخرجون].

ووجه القياس أن حديث البراء بن عازب في خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر أنه خطب وبيّن لهم كيف الأضحية، وأي السن يجزي، وبين وقتها عليه الصلاة والسلام، فقالوا: كما أنه في يوم النحر بين للناس أحكام الأضحية، كذلك يوم الفطر يبين للناس أحكام صدقة الفطر. ولكن هذا محل نظر؛ لأن صدقة الفطر تنتهي بالصلاة، والنحر يُبتدأ بانتهاء الصلاة كما سيأتي إن شاء الله بيانه، وبناء على ذلك اختلف الحالان، فكان القياس قياساً مع الفارق، ولذلك يقوى أن تكون موعظة، وهذا هو الأشبه؛ لأن الثابت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه في يوم العيد مضى إلى النساء ووعظهن، فدل على أن خطبة العيد الأفضل فيها أن تكون موعظة، ولا يبالغ في الموعظة حتى يخرج الناس عن فرحهم، ولكن تكون موعظة فيها نوع من القصد والاعتدال، حتى يبعد الناس من الغرور، ولا ينفرهم من الفرحة ويخرجهم مما هم فيه من يوم عز في ذلك اليوم الذي هو عز للإسلام والمسلمين.

قال رحمه الله تعالى: [ويرغبهم في الأضحى في الأضحية، ويبين لهم حكمها]:

أما في الأضحى فالثابت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من ذبح قبل الصلاة فليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، وفي رواية: (من ذبح قبل الصلاة فلا تجزيه وليذبح أخرى مكانها، ومن لم يذبح فليذبح باسم الله)، فدل هذا الحديث أن من السنة أن يبين للناس أحكام الذبح والنحر في يوم النحر؛ لأن الناس فيهم العوام، وفيهم الجاهل، وفيهم من قد يكون لأول مرة يضحي عن نفسه وعن أهله، خاصة إذا كان قد توفي أبوه، أو تلبس بهذا الأمر لسفر أبيه إلى حجه ونحو ذلك، فبيانه للأحكام الشرعية يعين الناس على تحقيق مقصود الشرع من ذبح الهدي المعتبر في هذا اليوم، وبناء على ذلك يسن أن يبين للناس هذه الأحكام.

وهذا مأخوذ من حديث البراء في الصحيحين من خطبته عليه الصلاة والسلام يوم النحر الذي ذكرناه وتقدمت الإشارة إليه، فقال العلماء: يسن في خطبة عيد النحر أن تشتمل على بيان أحكام الأضحية. والأفضل أن يجمع بين بيان الأمور التي يحتاج الناس إليها، خاصة إذا كانت هناك أمور عامة، أو تعم بها البلوى، أو يحتاج الناس إليها، فلا حرج أن ينبه عليها، وينبه أيضاً على أحكام الأضحية، كما هو هديه عليه الصلاة والسلام.

حكم تكبيرات صلاة العيدين وحكم الخطبتين

قال رحمه الله تعالى: [والتكبيرات الزوائد والوقف بينهما والخطبتان سنة].

أي: أنها ليست بواجبة ولازمة، وعلى هذا فلو نسي التكبير في صلاته فلا يلزمه سجود السهو، فلو أن الإمام قال: الله أكبر، ودخل ثم قال: (الحمد لله رب العالمين) فسها عن التكبير، فإنه لا يلزمه أن يسجد سجود السهو؛ لأن هذه التكبيرات الزوائد من السنة، وكذلك إذا قام من سجوده، فالتكبيرة الأولى تكبيرة انتقال، والخمس بعدها تعتبر من التكبيرات المسنونة، فإن فعلها أصاب، وإن تركها فإنه لا يلزم بتركها بسجود السهو؛ لأنها ليست بواجبة.

قوله: [والخطبتان سنة].

أي: كذلك الخطبتان سنة عنه صلى الله عليه وسلم لا تشترطان لصحة الصلاة، فلو أنه صلى ولم يخطب فإنه لا يحكم ببطلان الصلاة، ولكن العلماء رحمة الله عليهم ينصون على أنه أساء بمخالفة هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أن المصنف رحمه الله ومن وافقه قالوا: إنه يتسامح في الخطبة، ولا تعتبر واجبة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير الصحابة حينما قام يخطب -كما في الحديث الذي رواه ابن ماجة - فقال: (من شاء أن يقعد فليقعد، ومن شاء أن ينصرف فلينصرف)، فخيرهم بين أن يقعدوا وبين أن ينصرفوا، فدل على أن الخطبة ليست بلازمة، ولكن هذا محل نظر عند العلماء رحمة الله عليهم؛ لأنه قد يكون الشيء لازماً في حق الإمام، ولكنه ليس بلازم في حق المأمومين.

حكم التنفل قبل صلاة العيد وبعدها

قال رحمه الله تعالى: [ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها]:

يكره للإنسان إذا مضى إلى المصلى في يوم العيد أن يتنفل قبل صلاة العيد، حتى ولو طلعت الشمس، ففي عيد الفطر يؤخر إلى ارتفاع الشمس قدر رمحين، فيخرج وقت الكراهة بارتفاع الشمس بقدر رمح، فلو أنه أراد أن يتنفل فيما بين قيد الرمح وقيد الرمحين فإنه يكره له ذلك، بل نص بعض السلف على أنه بدعة محدثة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، ولم يكن من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهديه عليه الصلاة والسلام أنه لم يتنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها، فبعد العيد ينصرف الإنسان مباشرة، حتى قالوا: إن صلاة العيد تغني عن ركعتي الضحى في يوم العيد، وهذا اختيار بعض العلماء؛ لأن ركعتي الضحى تعتبر تحتها، أو كأنها مندرجة تحتها، ولكن إذا رجع إلى بيته وأراد أن يصلي الضحى فلا حرج، أما في المصلى فلا، فالتأسي برسول الله والاقتداء به أفضل وأكمل، خاصة وأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد من هذا اليوم التوسعة على الناس، فهو يوم عيد ويوم فرحة، يشرع للناس فيه أن يتفرغوا للفرحة بنعمة الله عز وجل عليهم، حتى أنه في الخطبة خيرهم بين أن يجلسوا وبين أن ينصرفوا، ولما وافق يوم العيد يوم الجمعة خيرهم بين أن يأتوا الجمعة وبين أن يصلوها ظهراً، وهذا يدل على التوسعة، وأن مقصود الشرع فرح الناس بهذا اليوم الذي هو يوم عز للإسلام والمسلمين.

من فاتته صلاة العيدين أو بعضها

قال رحمه الله تعالى: [ويسن لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها]:

قوله: [ويسن لمن فاتته] أي: الصلاة كلها أو بعضها، كأن تأتي والإمام في الركعة الثانية، فإنه يسن بعد سلام الإمام أن تقوم وتقضي، وللعلماء قولان:

فقال بعض العلماء: إذا قمت إلى الركعة الثانية فإنك تحتسبها الركعة الأولى لأنك قاضٍ، فتكبر السبع التكبيرات، أي: تكون أشبه بالقضاء، وهذا مذهب من يقول: ما فات يقضى، أي: الذي فات المسبوق يقضى.

والقول الثاني: أن يقوم ويتم، فيكبر كتكبيرات الركعة الثانية ست تكبيرات مع تكبيرة الانتقال، أو خمساً بتكبيرة الانتقال، وجهان للصحابة رضوان الله عليهم في هذا.

فعلى هذا الوجه إذا قمت إلى الركعة الثانية تقضي فإنك تحتسبها الركعة الثانية، وهذا هو الأصح؛ لأن الخلاف بين العلماء في المسبوق هل يقضي أو يبني، فإن قلنا: إنك تقضي فكأنك تعيد الركعة الأولى بصورتها، وكانت صورتها مع الإمام سبع تكبيرات، فتعيد السبع، وإن قلنا: تبني، فهو الأقوى من جهة السند والمتن؛ لأن روايات أبي هريرة من طريق الزهري وأصحاب الزهري أقوى، وهي رواية: في رواية: (فأتموا)، ونص الحديث: (فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا)، وفي رواية: (فاقضوا)، فعلى رواية: (فاقضوا) تكبر سبعاً، وعلى رواية: (فأتموا) تكبير خمساً أو ستاً على الوجهين الذين ذكرناهما.

والصحيح أن رواية: (فأتموا) أقوى من وجوه:

أولاً: من جهة السند، فإن رواتها أوثق وأقوى.

ثانياً: من جهة المتن، فإن الإتمام يستعمل القضاء بمعناه، فإن رواية: (وما فاتكم فاقضوا) محمولة على معنى: (فأتموا)؛ لأن العرب تسمي تمام الشيء قضاءً، كقوله تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ [الجمعة:10] أي: أتممتموها، وقوله تعالى: فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ [البقرة:200]، أي أتممتموها، فأصبح متن رواية: (فاقضوا) لا يقوى على معارضة رواية: (فأتموا)؛ لأنه متردد بين معنى التمام وبين معنى القضاء.

والقاعدة: إذا تعارض النصان المحتمل والصريح فإنه يقدم الصريح على المحتمل. وعلى هذا فإن الأقوى أن يتم، وعليه فإنك لا تكبر سبعاً، وإنما تكبر ستاً أو خمساً على الوجهين الذين ذكرناهما عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح، وقبل التعوذ والقراءة سنناً، وفي الثانية قبيل القراءة خمساً].

قوله: [ويصليها ركعتين قبل الخطبة].

السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، وهذا هو فعله عليه الصلاة والسلام وفعل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، فهو فعله وفعل الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وأول من خطب قبل الصلاة مروان بن الحكم عفا الله عنا وعنه، فإنه كان إذا خطب مروان ففي آخر الخطبة كان يشتم علياً كما كان يفعله بنو أمية حتى عهد عمر بن عبد العزيز ، فكانوا يشتمون علياً على المنابر في خطب الجمعة والعيدين، وقد قيل: إن معاوية كان منه ذلك لأنه بلغه أن علياً سبه، فكان من باب رد الأذى بالأذى، وعلى العموم فهذه السنة السيئة بقيت في أعيادهم وفي جمعهم، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون عن مروان إذا ذكر علياً رضي الله عنه ونال منه، فكأنه أخذ في نفسه، فصار يقدم الخطبة على الصلاة، فلما مضى إلى صلاته ذات يوم، وكان معه أبو سعيد رضي الله عنه، فلما أراد أن يصعد المنبر جذبه أبو سعيد ، فقال له: غيرتم! -أي: غيرتم السنة- فقال: إن الناس ليسوا كما تعهد. أي: ليس الناس كما تعهد يصبرون على الخطبة، فكأنه اجتهد في تقديم الخطبة على الصلاة حتى يسمع الناس خطبته وما يكون فيها، ولا شك أن هذا من البدع المحدثات، نسأل الله أن يعفو عنا وعنهم.

فمن قدم الخطبة على الصلاة فإن هذه الخطبة لا يعتد بها ولا تصح؛ لأنه خلاف هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله واقع في غير موقعه، ووجوده وعدمه على حد سواء، وإنما تصح الخطبة إذا وقعت بعد صلاة العيدين تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في هديه.

فيقول المصنف رحمه الله: [يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً، وفي الثانية قبل القراءة خمساً]:

هذا هو الثابت من هديه صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا، وقد كان يكبر في العيدين ثنتي عشرة تكبيرة، سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، فقد كان هذا هديه صلوات الله وسلامه عليه في صلاة العيدين: عيد الأضحى وعيد الفطر.

قال رحمه الله تعالى: [يرفع يديه مع كل تكبيرة].

رفع اليدين مع كل تكبيرة فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم في مواضع، منها: صلاة العيدين وصلاة الجنازة.

فالمأثور عن عمر رضي الله عنه وأرضاه أنه كان يرفع يديه، وكذلك ابن عمر، وكانوا يقولون: إنه لا يضم.

فـابن عمر -خاصة مع شدة تحريه للسنة- لن يرفع يديه إلا وله أصل من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي صحيح ابن خزيمة ما يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في تكبيرات الجنائز، والصحيح أنه من رفع فلا حرج عليه ومن ترك فلا حرج عليه، وكلٌ على خير، فمن رفع فله أصل وله سنة، خاصة وأن الأثرم روى بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع يديه في هذه التكبيرات، ولكني لم أطلع على سنده، بحيث فلم أجد من جزم بصحة هذه الرواية، فإن صحت فلا إشكال أنها السنة وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنها الأفضل.

قال رحمه الله تعالى: [ويقول: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليماً كثيراً].

هذا القول المأثور عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، فقد روي عنه أنه كان يقوله بين التكبيرات، فاستحب بعض العلماء أن يقول هذا؛ لأنه أثر عنه رضي الله عنه، والذي اختاره بعض العلماء أنه يتوقف في الذكر، لكن لو كبر هذا التكبير فإنه يثاب؛ لأن له أصلاً من حديث أبي هريرة أن رجلاً في صلاته مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: الله أكبر، ثم قال: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرة وأصيلاً. فلما سلَّم عليه الصلاة والسلام قال: (من الذي قال كذا وكذا آنفاً؟ فقال: أنا يا رسول الله! قال: والذي نفسي بيده لقد رأيت بضعاً وثلاثين ملكاً يبتدرونها إلى السماء أيهم يصعد بها)، وهذا يدل على فضل هذه المعقبات العظيمة.

وهذا من أعظم ما يكون من الثناء على الله عز وجل وإجلاله سبحانه وتعظيمه، فلذلك قالوا: يقوله بين التكبيرات أفضل من أن يسكت، ولكن لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء مرفوع، فمن سكت فهو على سنة، ومن قال هذا تأسياً بما أثر عن ابن مسعود -والظن به أن يكون له شبهة التأسي، أو يكون له أصل- فإنه لا حرج عليه، ولا ينكر عليه؛ لأن له سلفاً، خاصة أنه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومذهب طائفة الاحتجاج بفعل الصحابي وقوله.

قال رحمه الله تعالى: [وإن أحب قال غير ذلك]:

هذا بناءٌ على أن قول الصحابي حجة، فإذا كان قول الصحابي حجة فكأنهم يرون مشروعية الذكر بين التكبيرات، وأن المحفوظ أن يذكر بينهما، وألا تخلو من وجود ذكر، فإذا كان الأصل الذكر والثناء على الله فلو قال غيرها من الأذكار التي فيها ثناء على الله فلا حرج.

ولكن الأقوى والأولى والأقرب -إن شاء الله- إلى السنة أن يسكت.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3697 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3612 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3436 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3369 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3333 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3314 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3264 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3218 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3177 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3161 استماع