تفسير سورة النور (12)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ * وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:43-46].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! الله تعالى يدعو البشرية كلها عربها وعجمها إلى أن تؤمن به وتعبده؛ ليسعدها ويكملها في دنياها وفي آخرتها. وهذه الآيات منارات وأعلام، فمن كانت له بصيرة ومن كان له بصر يؤمن ويستقيم، ومن لا بصيرة له ولا بصر بل أعمى لا يشاهد شيئاً فلا يؤمن.

فاسمع الله يقول وهو يخاطب رسوله ومصطفاه صلى الله عليه وسلم: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43]؟ أي: ألم ينته إلى علمك أن الله يزجي يسوق سحاباً من هنا وهناك؟ ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43]. ويجمع بين القطع التي تلاقت. ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا [النور:43] بعضه فوق بعض. فَتَرَى الْوَدْقَ [النور:43]، أي: المطر، والبرق أيضاً من الودق كذلك، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43]، أي: من خلال ذاك المتراكم من السحب. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43]. وهي حجارة بيضاء. فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43]. فيصيب بها من يشاء، ويدمر بها بعض المزارع وبعض الحقول وبعض الحيوانات، ويحفظ من يشاء من عباده، كما قال تعالى: وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [النور:43]، أي: لمعان برقه، يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]. ويخطف الأبصار، فيعمى الإنسان. والله هو الذي يفعل هذا، وليست البشرية هي التي تفعل هذا، ولا الجن يفعلون هذا، فضلاً عن الأصنام والأحجار التي تعبد من دون الله. إذاً: فليعرفوا الله، ولا يعرضوا عن هذه الآيات، وهذه العلامات الدالة على وجود الله، وعلى قدرته وعلمه، ولطفه ورحمته وإحسانه، والموجبة له العبادة وحده دون من سواه.

وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43]، يقال: أزجت البقرة ولدها، أي: ساقته أمامها، فيزجي السحاب: يسوقه، وهذا تشاهدونه في السماء، ثم يؤلف بين السحاب، ثم يجعله كوماً واحداً ركاماً، فترى الودق بعينيك يا عبد الله! أي: المطر أو البرق يخرج من خلاله. وهذا هو الواقع، كما قال تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43]. والبرد معروف، فهو حب أبيض قاسٍ. فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] وأراد أن يصيبهم به؛ لذنوبهم، أو لسخطه عليهم، فيدمر مزارعهم، أو يهلك حيواناتهم، ويصرفه ويبعده عن من يشاء، ممن لا يريد إهلاكهم وتدميرهم؛ لأنهم من أهل ولايته وطاعته.

ثم قال: يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]. فذاك اللمعان يكاد يذهب ببصر الإنسان. والذي أوجد هذا السحاب وأوجد هذا الركام وأوجد هذا البرق وأوجد هذا المطر وساقه من هنا وهناك هو الله، ولا يوجد من يقول: إنه سوى الله، ولا يمكن لشخص أن يكذب ويقول: عامر .. نافع .. إبراهيم .. عيسى، بل لا جواب أبداً إلا أن تقول: الله. إذاً: فاعبده ولا تعصه، ولا تخرج عن طاعته؛ تنج وتكمل وتسعد.

ولكن البشرية صرفتها الشياطين، وأعمت قلوبها وبصائرها. ونحن نقول: والله ما يستطيع عاقل من الكفار أن يقول: هذا الكرسي وجد بنفسه، ولا حتى والله لكأسٍ مملوء باللبن أو بالماء، ولا يستطيع عالم في الأرض أن يقول: هذا الكأس أوجد نفسه، فلا يمكن هذا، بل هو مستحيل، فضلاً عن وجود الكون كله، فلنسأل من أوجده.

وهناك من ينكر وجود الله، ويقول: لا إله والحياة مادة، وقد قال هذا الشيوعية، وقد سادت الشيوعية وخربت العالم حوالي مائتين سنة، ولما هبطت حل محلها العلمانية والعلمانيون، والعياذ بالله. وهؤلاء نفوا وجود الله، وشرع الله، ولقاء الله، ونسبوا كل شيء إلى العلم الباطل. والذي صرفهم عن الله وجعلهم لا يفكرون الشياطين، فقد تمكنت من قلوبهم، فهي تصرفها كما تشاء.

وهنا يقول تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43]، أي: جبال من برد. فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ [الرعد:13] في مزارعهم .. في بهائمهم. وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] من عباده. يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]. كما هو مشاهد مرئي، فذاك اللمعان في البرق يكاد يعمي الإنسان لما ينظر إليه.

يقول تعالى في الآية الأخرى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [النور:44]. فيجعل النهار في الليل، ويجعل الليل أسفل والنهار فوق، ويفعل هذا طول الدهر وطول العام. فالذي يقلب الليل والنهار أيدي الله، وليس البشرية ولا الطبيعة، فالطبيعة لها عقل، ولا بصيرة لها، فليس الطبيعة هي التي تفعل هذا، بل هذه كذبة. والذي يفعل هذا لابد أن يكون له قدرة لا قدرة فوقها، ويكون له علم لا علم فوقه، ويكون له رحمة لا رحمة فوقها أبداً، ولن يكون هذا إلا الله رب العالمين، ولذلك قال: يُقَلِّبُ اللَّهُ [النور:44]. وليس الأصنام ولا الأوثان، ولا عيسى ولا البتول، ولا غير ذلك من هذه المعبودات، وليس إلا الله يقلب الليل والنهار، فهو الذي يجعل الليل أسفل والنهار فوق، ويقلبه غداً النهار أسفل والليل فوق، وهكذا طول الحياة. إِنَّ فِي ذَلِكَ [النور:44] الذي سمعتم وتضمنته هذه الآيات لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]. وأما العميان فلا يركبون السفينة ولا ينجون. والعبرة: ما تعبر به من ساحة الباطل والضلال والكفر إلى ساحة الإيمان والهدى والصلاح، ولكن على شرط: أن يكون لك بصر وبصيرة. وأما أعمى ما يشاهد، فهم يعيشون سبعين سنة .. ثمانين ولا يفكر أحدهم ولا يسأل: لم الليل والنهار هكذا؟ ولا كيف هذا؟ ولا من فعل؟ حتى يقال له: هذا الخالق اسمه الله، وهو الذي فعل هذا وهذا. وهو يطلب منك أن تعبده، فاغتسل وصل، وافعل كذا وكذا، فيعبد الله عز وجل. ولكنهم لا يسألون. ولست واهماً في هذا. فأنتم لم يجئ كافر إلى أحد منكم يسأل: لم الليل والنهار؟ ولا من يقلبهما؟ ولا لم ما يبقى الليل أبداً بحيث لا نرى النهار أبداً، أو العكس؟ ليعرف أن في ذلك من رحمته ولطفه وهدايته لخلقه العجب العجاب، ويعرف أنه يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ [النور:44] التقليب لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44]، أي: لأولي العيون والبصائر القلبية.

ومن سنن الإسلام، إذا عطس الرجل أو المرأة .. الكبير أو الصغير ينبغي أن يقول: الحمد لله، وسامعه ينبغي أن يقول له: يرحمك الله، ويرد عليه فضله وإحسانه بقوله: يغفر الله لي ولك، وهو الغفور الرحيم. وهذا لا يوجد في غير الإسلام، وهو لا يوجد في ديانات الشياطين. فإذا عطس العبد فيجب أن يقول: الحمد لله، وسامعه من إخوانه الذي سمع منه كلمة: الحمد لله يقول له: يرحمك الله. وأما إذا لم يحمد الله فلا يدعى له بالرحمة، فالذي ما يقول: الحمد لله بعد العطاس ما يقال له: يرحمك الله، أو قل له: قل: الحمد لله، ثم قل له: يرحمك الله، فإذا قلت له: يرحمك الله يقول: يغفر الله لي ولك، وهو الغفور الرحيم، أو يهديك الله ويصلح بالك. فلنتعلم هذه الهداية. فهذا لا يوجد في غير الإسلام، فهو الصراط المستقيم. فالحمد لله.

قال تعالى: وَاللَّهُ [النور:45]. فاسمع هذه الآية الجديدة، قال تعالى: وَاللَّهُ [النور:45] جل جلاله وعظم سلطانه خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]. فكل دابة تدب على الأرض مخلوقة من ماء، أي: من المني، من تلك القطرات، سواء كانت في الإنسان أو الحيوان. فكل دابة خلقها من ماء، والذي خلق الماء الله، والذي خلق الخلق الله. فإذاً: لا إله إلا الله، ولا يعبد إلا الله، فلنعبده ولا نكفر به، ولا نعرض عنه، فهو خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] كالثعابين والحيات، فهي تمشي على بطونها كالحوت يمشي على بطنه.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ [النور:45] كالإنسان والطيور على اختلافها، وتنوع أشكالها، فالكل تمشي على رجلين.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45] كالبقر والغنم وسائر البهائم، والذئاب والضباع والسباع، فكلها تمشي على أربع.

و يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45]. فلو شاء خلق من يمشي على ست أو سبع أو عشر. وهم لا يعرفون الله لأنهم ما سألوا، ولم يريدوا أن يعرفوا، وما سمح لهم الشيطان أن يعرفوا، وإلا فإذا شاهد أحدهم البقرة أمامه فليتساءل: من صنع هذه البقرة؟ وكيف تحمل اللبن؟ وكيف تلد؟ وكيف وكيف؟ وإذا نظر إلى الدجاجة بين يديه يسأل: لم تبيض؟ وما الفائدة من البيض؟ ومن فعل هذا؟ فيعرف أنه الله الحكيم العليم، القوي القدير، وأنه لا رب غيره، ولا إله سواه. وقد قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [النور:45]. ولم يذكر الملائكة ولا الجن؛ لأن الملائكة خلقوا من النور، والجن خلقوا من النار، وهم لا يدبون كما ندب على أرجلنا. بل قال: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ [النور:45] مما يدب على الأرض، من الإنس والبهائم.

إذاً: كل دابة من ماء، وأصل المخلوقات من ماء، سواء الإنسان أو البقرة، فكلهم من مادة معروفة، وهي المني. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] كالحيات والثعابين، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ [النور:45] كالإنسان والطير، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45] كالبقر والغنم وما إلى ذلك. يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45]. لا ما يشاء غيره، بل الذي يشاؤه هو، وهو الذي يخلقه؛ فلهذا خلق ذي الرجلين، وخلق ذي أربع وخلق غير ذلك. إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45] والله العظيم! فهو على كل شيء يريد أن يوجده قدير عليه، لا يعجزه شيء. فالذي رفع السماوات السبع لا يعجزه شيء، والذي كوكب هذه الكواكب وأنار بها الكون لا يعجزه شيء، والذي خلقني وخلق أمي وأبي من عدم لا يعجزه شيء، إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45]. إذاً: فهيا نفزع إليه، ولا نفزع إلى الشياطين والبشر ما دمنا مؤمنين؛ لأن الله على كل شيء قدير، ولا يعجزه شيء، فإذا احتجنا إلى شيء نفزع إلى الله بالضراعة والدعاء، والبكاء والطاعة والاستقامة؛ ليقضي حوائجنا، ويؤدي ما نحن في حاجة إليه. لا أن نعلم أنه على كل شيء قدير ثم لا نلتفت إليه، فهذا لا يصح من العقلاء. بل من أراد أن يتزوج .. أراد أن يبني .. أراد أن يسافر .. أراد أي شيء فليفزع إلى الله عز وجل؛ لعلمه أن الله على كل شيء قدير، ولا يفزع إلى البقرة أو البعير، أو يفزع إلى القبر والضريح كما يفعل الجهال.

قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ [النور:46]. الآيات: جمع آية كما تدرسونها، وهي علامة عظيمة تدل على وجود الله، وعلى أنه لا رب غيره ولا إله سواه، وعلامة تدل على الطريق، وتهدي السالكين إلى السعادة في الدارين، فهي آيات قرآنية مبينات للطريق موضحة لها، كما سمعتم. وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]. فقد أنزل الآيات ووضعها بين أيدينا، ولكن الذي يهتدي بهذه الآيات البينات هم الذين يرغبون في الهداية، ويرحلون إليها، ويسافرون من أجلها، ويهجرون بلادهم من أجلها، ويريدون الهداية ويطلبونها من الله، ويتضرعون إليه طول العام بين يديه: يا ربنا! اهدنا، هؤلاء هم الذين يهديهم الله إلى صراط مستقيم.

والصراط المستقيم هو الإسلام، أي: الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا ميلان من بابك إلى باب الجنة، وهو الإسلام، وهو الذي نسأله في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، أي: الإسلام نسلكه حتى نصل باب الجنة دار السلام.

وقد خط لنا الرسول عن يمينه وشماله طرقاً كثيرة والعياذ بالله، ونحن قلنا: قوله: عن يمينه يعنى: الواجبات، وعن شماله: المحرمات، فمن نهض بالواجبات وتجنب المحرمات نجا في الطريق وفاز ودخل الجنة، ومن أهمل الفرائض وغشي المحرمات اعوج في الطريق وما استقام؛ فهو إلى جهنم وبئس المصير.

معنى الآيات

الآن إليكم شرح الآيات من الكتاب؛ لتزدادوا علماً وبصيرة.

قال: [ معنى الآيات:

ما زال السياق في عرض مظاهر القدرة والعلم والحكمة الإلهية، وهي الموجبة لله تعالى العبادة دون سواه، فقال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43]؟ أي: ألم ينته إلى علمك يا رسولنا! أن الله يزجي سحاباً؟ أي: يسوقه برفق وسهولة ] لا بشدة وعنف [ ثُمَّ يُؤَلِّفُ [النور:43]، أي: يجمع بين أجزائه، فيجعله ركاماً، أي: متراكماً بعضه على بعض. فَتَرَى الْوَدْقَ [النور:43] أي: المطر، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43]، أي: من فتوقه وشقوقه ] هذه هي الخلال [ والخلال: جمع خلل، كجبال جمع جبل، وهو: الفتوق بين أجزاء السحاب، وهو مظهر من مظاهر القدرة ] الإلهية [ والعلم ] الإلهي.

[ وقوله ] تعالى: [ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43]، أي: ينزل برداً من جبال البرد المتراكمة في السماء، فيصيب بذلك البرد من يشاء، فيهلك به زرعه أو ماشيته، ويصرفه عمن يشاء من عباده، فلا يصيبه شيء من ذلك ] وقد قلت لكم: يصيب أهل الذنوب، وينتقم منهم، ويبعده عن أهل الصلاح، ولا يبتليهم به [ وهذا مظهر من مظاهر القدرة واللطف الإلهي.

وقوله ] تعالى: [ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [النور:43]، أي: يقرب لمعان البرق الذي هو سناه يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43] التي تنظر إليه، أي: يختطفها بشدة لمعانه ] وأنتم تشاهدون هذا أيام المطر والسحاب.

[ وقوله تعالى: يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ [النور:44] بأن يظهر هذا ويخفي هذا، فإذا ظهر النهار اختفى الليل، وإذا ظهر الليل اختفى النهار، فيقلب أحدهما على الآخر فيخفيه ويستره به ] وهذا مشاهد.

[ وقوله ] تعالى: [ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:44] أي: إن في إنزال البرد ولمعان البرق وتقليب الليل والنهار لعظة عظيمة لأولي البصائر، تهديهم إلى الإيمان بالله وجلاله وكماله، فيعبدونه ويوحدونه، محبين له معظمين، راجعين خائفين.

إن هذه ثمرة الهداية. هذا ما دلت عليه الآيتان الأولى (43) والثانية (44).

أما الآية ] الثالثة [ (45) فقد اشتملت ] واحتوت [ على أعظم مظهر من مظاهر ] ودلائل [ القدرة الإلهية ] وهي أربع [ فقال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ [النور:45]، أي: من إنسان وحيوان ] وكما قلنا: لا جان ولا ملك [ مِنْ مَاءٍ النور:45]، أي: نطفة من نطف الإنسان والحيوان. فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ [النور:45] كالحيات والثعابين والأسماك ] والحيتان [ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ [النور:45] كالإنسان والطير ] فالطير له اثنتان من الأرجل كالدجاج والعصافير [ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ [النور:45] كالأنعام ] وهي: الإبل والبقر والغنم [ والبهائم ] والماشية والذئاب والكلاب والضباع وما إلى ذلك.

[ وقوله: يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [النور:45]، إذ بعض الحيوانات لها أكثر من أربع ] فتوجد بعض الحيوانات لها أكثر من أربع أرجل.

[ وقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [النور:45]، أي: على فعل وإيجاد ما يريده، قدير لا يعجزه شيء، فأين الله الخالق العليم الحكيم من تلك الأصنام والأوثان ] التي تعبد من دون الله، ويعكف عليها المشركون، و[ التي يؤلهها الجاهلون من أهل الشرك والكفر؟ ] والعياذ بالله.

[ وقوله تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ [النور:46] ] للطريق [ أي: واضحات؛ لأجل هداية العباد إلى طريق سعادتهم وكمالهم، وهي هذه الآيات التي اشتملت عليها سورة النور وغيرها من آيات القرآن الكريم ] وآيات القرآن ستة آلاف ومائتين وأربعين آية، وكل آية علامة على أن الله موجود عليم حكيم، فلا إله إلا هو، ولا رب سواه [ فمن آمن بها ونظر فيها وأخذ بما تدعو إليه من الهدى اهتدى، ومن أعرض عنها فضل وشقي فلا يلومن إلا نفسه ] لأنه أبى أن ينظر إلى الآيات وهي بين يديه [ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [النور:46] هدايته ممن رغب في الهداية وطلبها وسلك مسالكها إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النور:46]. ألا وهو الإسلام طريق الكمال والسعادة في الحياتين. اللهم اجعلنا من أهله، إنك قدير ].

هداية الآيات

قال: [ هداية الآيات ] الآن مع هداية الآيات:

[ من هداية ] هذه [ الآيات:

أولاً: مظاهر قدرة الله وعلمه وحكمته، وهي موجبات الإيمان والتقوى ] وهذه المظاهر تدل على وجود الله، وعلى أنه عليم حكيم قدير، لا يعجزه شيء، فيجب عبادته والاطراح بين يديه.

[ ثانياً: بيان كيفية نزول المطر والبرد ] ولولا أن الله علمنا لما كنا نعرف هذا، فهو الذي علمنا كيف ينزل هذا وهذا.

[ ثالثاً: مظاهر لطف الله بعباده في صرف البرد عن الزرع والماشية وبعض عباده ] إذ يصرف عنهم ذلك البرد، فلا يهلك مزارعهم ولا حيواناتهم، ويصيب بها آخرين ممن أراد أن ينتقم منهم. فهذا مظهر من مظاهر رحمة الله ولطفه بعباده.

[ رابعاً: مظاهر القدرة والعلم ] وهذه نشاهده [ في تقليب الليل والنهار على بعضهما بعضاً ] فالآن النهار تحتنا، غداً يعلو من فوق والليل يأتي أسفل، والذي يفعل هذا هو الله. فلا تنكر وجود الله وتكذب به، بل اسأل عنه، وتحبب إليه وتقرب إليه.

[ خامساً: بيان أصناف المخلوقات في مشيها على الأرض بعد خلقها من ماء، وهو مظهر العلم والقدرة ] فهذه المخلوقات أساسها من ماء، ثم هي تمشي وتطير، والذي فعل هذا ودبره هو الله. ولا إله إلا الله! إذاً: فليعبد الله وليطاع، ولا يعصى، ولا يخرج عن طاعته وطاعة رسوله، ولكن الجهل هو السبب.

[ سادساً ] وأخيراً: [ امتنان الله على العباد بإنزاله الآيات المبينات للهدى وطريق السعادة والكمال ] فمن منة الله ونعمته علينا أن أنزل الآيات تبين لنا الطريق، وبذلك عرفنا الله، وعرفنا محابه ومكارهه، وها نحن نعبده ليلاً نهاراً بفعل ما أمرنا وترك ما نهانا. وهذا من فضله. اللهم لك الحمد.

وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه.




استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة المؤمنون (7) 3885 استماع
تفسير سورة المؤمنون (10) 3734 استماع
تفسير سورة الحج (11) 3650 استماع
تفسير سورة الأنبياء (9) 3497 استماع
تفسير سورة الأنبياء (5) 3487 استماع
تفسير سورة الأنبياء (14) 3481 استماع
تفسير سورة الأنبياء (15) 3404 استماع
تفسير سورة المؤمنون (6) 3336 استماع
تفسير سورة الحج (17) 3185 استماع
تفسير سورة المؤمنون (13) 3117 استماع