الكشف المبدي

مدة قراءة الصفحة : دقيقة واحدة .
اجتهادهم ـ كما نُقل من سيرهم ـ، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولّوها بغير استحقاق ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام؛ اضُطروا إلى الاستعانة بالفقهاء وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التّابعين مَن هو مستمرّ على الطّراز الأوّل، وملازم صفو الدِّين، ومواظب على سمت علماء السّلف؛ فكانوا إذا طُلبوا هربوا وأعرضوا؛ فاضطرّ الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات؛ فرأى أهل تلك الأعصار عِزّ العلماء وإقبال الأئمّة الولاة عليهم، مع إعراضهم عنهم؛ فاشرأبّوا لطلب العلم؛ توصّلًا إلى نيل العِزّ ودرك الجاه من قبل الولاة؛ فأكبّوا على علم الفتاوى وعرضوا أنفسهم على الولاة، وتعرّفوا إليهم، وطلبوا الولايات والصّلات منهم؛ فمنهم مَن حُرم، ومنهم مَن أنجح، والمنجح لم يخل من ذلّ الطّلب ومهانة الابتذال؛ فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزّة بالإعراض عن السّلاطين أذِلّة بالإقبال عليهم، إلَّا مَن وفّقه الله ـ تعالى ـ في كلّ عصر من علماء دين الله، وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأمصار على علم الفتاوى والأقضية؛ لشدّة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصّدور والأمراء مَن يستمع مقالات النّاس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحُجج فيها؛ فعُلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام؛ فأكبّ النّاس على الكلام، وأكثروا فيه التّصانيف، ورتّبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أنّ غرضهم الذبّ عن دين الله، والنّضال عن السُّنّة، وقمع المبتدعة، كما زعم مَن قبلهم: أنّ غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدّين وتقلّد أحكام المسلمين؛ إشفاقا على خلق الله ونصيحة لهم! ثم ظهر بعد ذلك من الصّدور مَن لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولّد من فتح بابه من التّعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشّافعيّ وأبي حنيفة ـ رضي الله عنهما ـ على الخصوص؛ فترك النّاس الكلام وفنون العلم، وأقبلوا على المسائل الخلافيّة بين الشّافعيّ وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد ـ رحمهم الله تعالى ـ