التسعير في ظل الأزمة المالية المعاصرة
مدة
قراءة الصفحة :
4 دقائق
.
التسعير في ظل الأزمة المالية المعاصرة
د. عبدالله بن عمر السحيباني
المقدمة
الحمد لله الحكيم الخبير، وسع كل شيء رحمة وعلماً، وأرسل نبيه محمداً إلى خير الأمم، وجعل شريعته مهيمنة على الشرائع وخاتمة لها، خاتمة حسنة، فشريعة الإسلام أحسن الشرائع وأكملها وأصلحها لكل زمان ومكان وحال، صلى الله وسلم على من أرسل بها وجاهد في سبيل الدعوة إليها، وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين، أما بعد:
فالبحوث الفقهية الشرعية لا تنتهي عند حد، ولا ينبغي لها أن تنتهي، لأن في نهايتها وتوقفها نهاية وتوقف سير عجلة الحياة الطيبة، إن توقف البحث الشرعي يعني بداهة توقف حياة العدل والإصلاح، فما دام أهل الإسلام بخير فنظرتهم لشريعتهم نظرة عز وفخر، وحفظ وصيانة، وتدوين واجتهاد واستنباط، فنور الوحيين لا ينطفئ أبداً، وعلى علماء المسلمين الاقتباس من هذا النور، لهداية البشرية وإسعادها.
والبحث في حكم تحديد أسعار سلع الأسواق قد بحث أكثر من مرّة، فقد اطلعت على جملة من البحوث الفقهية والاقتصادية المتعلقة بالموضوع، ومع هذا فقد وجدت أن الموضوع يحتاج إلى مزيد دراسة وعناية من الباحثين الشرعيين في الفقه والاقتصاد الإسلامي، خاصة في ظل الأزمات المالية المتتابعة في العصر الحاضر، مما يعني إعادة صياغة البحث في طريقة طرحه، ليكون وسيلة من وسائل المعالجة الناجحة، وحلاً مطروحاً من الحلول المقترحة لتفادي تلك الأزمات المعضلة لعالم اليوم.
يجيء هذا البحث لبيان مبدأ من مبادئ الاقتصاد الإسلامي، فيكشف عن ثراء الفقه الإسلامي وخصوبته، ويظهر دور فقهاء الإسلام المتقدمين والمعاصرين في معالجة مشكلات الحياة، أياً كان نوعها، ومن أهم ذلك ما يتعلق بمعاش الناس واقتصادهم، معتمدين في ذلك على النصوص، والمقاصد، والقواعد الكبرى التي جاءت بها شريعة الإسلام وبنيت عليها.
هذا وإن من المعلوم أن الأصل في تصرفات بني آدم الحل، كما أن الأصل أن كل إنسان له الحرية الكاملة في ماله، فلا يجوز الحجر عليه أو إجباره على تصرف لا يرضاه، وهذا جلي في كتاب الله سبحانه، يقول جلّ وعلا: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا" [النساء: 29]، فالعقود لا تبرم إلا برضا من المتعاقدين، وانظر إلى مناسبة ختم هذه الآية الكريمة بقوله سبحانه: "إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا"، فإن هذا يعني أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيمًا بخلقه، ومن رحمته بهم كفُّ بعضهم عن قتل بعض، بتحريم دماء بعضهم على بعض إلا بحقها، وحظْرِ أكل مال بعضهم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه، برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك أهلك بعض الناس بعضًا، قتلا وسلبًا وغصبًا (1).
هذا هو الأصل في تعاملات الناس لا ظلم ولا غصب، بل تجارة بالحلال حرة، عن تراض من التجار والمستهلكين، إلا أن التجار أو المنتجين قد يستغلون هذه الحرية في بعض الأحوال أو الظروف المحيطة بالناس، فيزيدون زيادة فاحشة في أسعار السلع مما يسبب حرجاً وضيقاً عاماً يكتوي بناره العامة والخاصة، ويحدث بسبب