عنوان الفتوى : شبهات حول القدر والرد عليها

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

أريد أن أفهم كيف يقول العلماء إن ‏كل حركاتنا مكتوبة في الأزل، وأن ‏الدعاء لا يغير القدر الذي في اللوح ‏المحفوظ، وفي نفس الوقت يأمرنا ‏ربنا بالدعاء، ويقول: ادعوني أستجب ‏لكم. وفي نفس الوقت يقول الله: اتقوا ‏الله. أطيعوا الله والرسول. ويأمرنا ‏بأشياء، وينهانا عن أشياء، ويقول: ‏وما كان الله ليعذبهم وهم يستغفرون؟ ‏ أرهقتني المسألة منذ أسابيع، وأنا ‏حزينة، منهكة القوى؛ لعجزي عن ‏الفهم. وقد قرأت فتاواكم سابقا، ولم ‏أصل لدرجة الفهم. وكيف يكون ‏الزواج مكتوبا، وفي نفس الوقت ‏أُمرنا باختيار صاحب الخلق، والدين ‏والله يقول: ولعبد مؤمن خير من ‏مشرك ولو أعجبكم.؟ وأيضا كيف ‏أتخلص من وسوسة الشيطان الذي ‏يضيق علي صدري حول الذات ‏الإلهية، وكل مرة يريد تشكيكي بذات ‏الله، وتصيبني حالة هلع، مع العلم ‏أنني مريضة بمس، وسحر منذ ‏الطفولة، واستعملت علاجات شرعية ‏ولم أشف.‏ ‏ هل للمس تأثير علي في هذه ‏الهواجس أم لا؟ مع أنني أتعذب من ‏المسألة الأولى، والثانية؟

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على ‏رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما ‏بعد: ‏
فنسأل الله أن يخفف عنك، ونوصيك ‏بحسن الظن بالله تعالى، وننبهك إلى ‏أن ما ذكره العلماء بخصوص ‏المقادير، مسطور في القرآن، ‏والسنة في مواضع كثيرة؛ ذكرنا ‏بعضها بالفتويين: 4390، 24911.‏

 وقد بين الإمام ابن القيم المسألة ‏الأولى في الداء والدواء؛ فقال: ‏وههنا سؤال مشهور، وهو أنّ ‏المدعوّ به إن كان قد قُدِّر، لم يكن بدّ ‏من وقوعه، دعا به العبد أو لم يدعُ. ‏وإن لم يكن قد قدّر، لم يقع، سواء ‏سأله العبد أو لم يسأله. فظنت طائفة صحة هذا السؤال، ‏فتركت الدعاء، وقالت: لا فائدة فيه! ‏وهؤلاء -مع فرط جهلهم، وضلالهم-‏متناقضون، فإنّ طردَ مذهبهم يُوجِب ‏تعطيلَ جميع الأسباب. فيقال لأحدهم: إن كان الشبع، والريّ ‏قد قُدِّرا لك، فلا بد من وقوعهما، ‏أكلت أو لم تأكل. وإن لم يقدّرا لم ‏يقعا، أكلتَ أو لم تأكل. وإن كان الولد قدّر لك، فلا بد منه، ‏وطئتَ الزوجة، والأمة أو لم تَطأ. ‏وإن لم يقدّر لم يكن، فلا حاجة إلى ‏التزوّج، والتسرّي. وهلمّ جرّا. فهل يقول هذا عاقل، أو آدمي! بل ‏الحيوان البهيم مفطور على مباشرة ‏الأسباب التي بها قوامه، وحياته. ‏فالحيوانات أعقل، وأفهم من هؤلاء ‏الذين هم كالأنعام، بل هم أضلُّ ‏سبيلا.

 وذكر بعض الأجوبة الضعيفة؛ ثم ‏قال: والصواب أنّ ها هنا قسمًا ثالثًا ‏غير ما ذكره السائل، وهو أن هذا ‏المقدور قُدر بأسباب، ومن أسبابه ‏الدعاء. فلم يقدر مجردًا عن سببه، ‏ولكن قدر بسببه. فمتى أتى العبد ‏بالسبب، وقع المقدور، ومتى لم يأت ‏بالسبب انتفى المقدور. وهذا كما قُدر ‏الشبع، والريّ بالأكل، والشرب، ‏وقدر الولد بالوطء، وقدر حصول ‏الزرع بالبذر، وقدر خروج نفس ‏الحيوان بذبحه. وكذلك قُدر دخول ‏الجنة بالأعمال، هذا القسم هو الحق، ‏وهو الذي حُرِمَه السائل ولم يوفَّق ‏له.‏ وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب. ‏فإذا قُدر وقوع المدعو به، بالدعاء ‏لم يصح أن يقال: لا فائدة في ‏الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في ‏الأكل، والشرب، وجميع الحركات ‏والأعمال! وليس شيء من الأسباب ‏أنفع من الدعاء، ولا أبلغ في حصول ‏المطلوب. ولما كان الصحابة-رضي الله عنهم-‏أعلمَ الأمةِ بالله ورسوله، وأفقههم ‏في دينه، كانوا أقوم بهذا السبب ‏وشروطه، وآدابه من غيرهم. وكان عمر بن الخطاب -رضي الله ‏عنه- يستنصر به على عدوه، وكان ‏أعظم جنديه، وكان يقول للصحابة: ‏لستم تُنصَرون بكثرة، وإنما ‏تُنصَرون من السماء، وكان يقول: ‏إنّي لا أحمل همَّ الإجابة، ولكن همَّ ‏الدعاء. فإذا أُلهِمتُ الدعاءَ، فإنّ ‏الإجابة معه. وأخذ الشاعر هذا، فنظمه، فقال:‏

‏ لو لم تُرِدْ نيلَ ما أرجو وأطلُبه ... ‏مِن جودِ كفّك ما عوّدتَني الطلَبا

فمَن أُلهمَ الدعاءَ، فقد أريد به الإجابة، ‏فإنّ الله سبحانه يقول: {ادْعُونِي ‏أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60]. وقال: ‏‏{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ‏أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: ‏‏186].

وقد دل العقل، والنقل، ‏والفطر، وتجارب الأمم -على اختلاف ‏أجناسها، ومللها، ونحلها- على أنّ ‏التقرب إلى ربّ العالمين، وطلب ‏مرضاته، والبرّ والإحسان إلى خلقه، ‏من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير. ‏وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة ‏لكل شرّ. ‏ فما استُجلِبتْ نِعمُ الله، واستُدفِعتْ ‏نِقَمُه بمثل طاعته، والتقرب إليه، ‏والإحسان إلى خلقه. انتهى بتصرف.‏

وراجعي للفائدة الفتويين: 9890، ‏‏35295.‏

 وأما بخصوص الجمع بين القدر، ‏والشرع (الأمر، والنهي) كاختيار ‏ذات الدين، مع أنه مقدر للإنسان من ‏يتزوجه؛ فكما ذكر ابن القيم؛ من أن ‏الله قدر ذلك بأسباب، منها: اختيار ‏الشخص، كما قدر له رزقه، لكن قدر ‏أنه يعمل، ويكدح، فينال رزقه؛ ‏وانظري الفتويين: 2847، 47098.‏

وراجعي الفتوى رقم: 227695، ‏وتوابعها بخصوص الوساوس في ‏الذات الإلهية.

ونسأل الله أن يعافيك ‏من الوسوسة، وننصحك بملازمة ‏الدعاء، والتضرع، وأن تلهي عن ‏هذه الوساوس، ونوصيك بمراجعة ‏طبيب نفسي ثقة. ويمكنك مراجعة ‏قسم الاستشارات من موقعنا، ‏وراجعي الفتاوى أرقام: 3086، ‏‏51601، 147101، وتوابعها.‏

 وأما بخصوص المس، والسحر؛ ‏فنوصيك بالصبر، والاحتساب؛ ‏فإنهما من جنس المصائب، ‏والأمراض التي يُؤجر العبد بالصبر ‏عليها؛ وانظري الفتويين: ‏‏138299، 66375.‏ وراجعي الفتوى رقم: 30241، ‏وتوابعها بخصوص الرقية.‏

والله أعلم.‏