عنوان الفتوى : هل يزوَّج ابنته ممن تعلق قلبها به أم يحرمها منه ؟

مدة قراءة السؤال : 4 دقائق

سأختصر الأمر قدر المستطاع في انتظار فتواكم التي قد تنقذ عائلة من الانهيار ، فقد ساء الأمر جدّاً بعد مشكلة حدثت ، هذه أحداثها : أختي كان عمرها 16 أو 17 سنة حين خطبها شاب ملتزم نحسبه على خير ، وكانت هي سعيدة بذلك غاية السعادة ، وكانت قبل ذلك قد انقطعت عن الدراسة فراراً بدينها ؛ فالمعاهد عندنا مختلطة ، سار كل شيء على أتم وجه ، وتم العقد الشرعي ، وكان لا يشك أحد في أنهما يعيشان سعادة حقيقية ، فجأة صارت أختي تقول : أنا لا أحب هذا الشخص ، لا أطيقه ، لماذا يتصرف هكذا .. الخ ، وبدت كأنها تخترع له عيوباً ، ظننا أن الأمر سحر أو ما شابه ؛ لأن ارتباطهما أثار غيرة الكثير من الفتيات في سنها ، طال الأمر وزاد نفورها من زوجها ولا أحد يفهم السبب وزوجها في غاية العجب واللطف معها ، ويؤول الأمر لصغر سنها أو خوفها من الزواج ومسؤولياته ، حتى أتى اليوم الذي اعترفت فيه أنها تحب غيره ! وكانت الصدمة الكبرى ، تبيَّن أنه فتى من سنها كان يدرس معها في نفس الصف وأنها كانت تحبه في صمت لعدة سنوات وهو لا يدري ، والجديد أنه اتصل بها على الانترنت وبدا منه أنه يهتم لأمرها ، صدته ، وكان دافعها أن ذلك لا يجوز ، لكن النفس والشيطان انتصرا عليها ، وصارت بينهما علاقة إلكترونية ، لا تقابله ولا يقابلها لكن الاتصال موجود ، نفَّرها ذلك من زوجها عقد شرعي بدون دخول وانفجر الوضع ، علم الأب والزوج بذلك ، كاد أبي يقضي نحبه من الصدمة ؛ لأنه ظن دائما أن ابنته لا يمكن أن تقع في مثل هذه الأمر ، وهي التي اختارت بنفسها الالتزام والحجاب ونفرت من المدارس المختلطة ، ووافقت بملء إرادتها على زوج متدين ، وعاشت بعيدة عن المجون والاحتكاك بالناس والمسلسلات والغناء ...الخ ، عاشت في وسط نظيف ، سبحان الله ، لما تأزم الأمر اعتذرت وأقسمت على التوبة والعودة للطريق المستقيم ، وسامحها زوجها مؤولا الأمر لنزوة مراهقة إضافة لتمسك بمصاهرته لعائلتنا فهو يحب أبي جدّاً ، لكن الأمور توترت وأختي لم تتب وساء خلقها مع الجميع وخاصة مع زوجها وحتى والديها ، وصارت الحياة مع زوج لا تحبه أمراً غير محتمل ، انتهت أشهر من العذاب والأحزان بانفصالها عن زوجها بألم كبير من أطرافنا جميعا ، أبي تبرأ منها وضربها وأعلن سخطه عليها ، بعد مرور أشهر على ذلك كله لا زالت أختي تحب الشاب الأول ، لا تنساه ، ولا تريد غيره ، سألنا عن هذا الشاب فبدا جادّاً ، مقيماً للصلاة ومتمسكاً بأختي جدّاً ، أبي يرفض ارتباطهما تماما . سؤالنا : ما حكم الشرع في هذا الأمر هل جائز لهما الارتباط ؟ هل تكون فيه بركة ؟ أبي قد يغير رأيه بفتوى منكم ، لا أخفيك أختي تتعذب ، لا تخرج من غرفتها تقريبا ، ترى أننا نحرمها من الحلال .. الخ .

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق


الحمد لله
أولاً:
نسأل الله تعالى أن يوفقكم لما فيه صلاح أسرتكم واجتماعها ، ونسأله تعالى أن يهدي أختك لما يحب ويرضى وأن يجنبها الفتن والمنكر والإثم .
وما تذكريه في رسالتك يؤكِّد ما نذكره دوماً في إجابتنا من خطر الاختلاط والعلاقات بين الجنسين مراسلة ومحادثة ، وليس ثمة فرق في هذا بين عامي أو ملتزم ؛ ففتنة الشهوة لا تفرق بينهم إذا ظهر نارها واشتعل عودها .

ثانياً:
بما أن الحديث لن يكون مع أختك بل معك ومع والدك الفاضل : فإننا نرجو أن نوفق فيما ننصحكم به ونوجهكم نحو العمل بمقتضاه :
1. لا تحمِّلوا أنفسكم مسئولية ما حدث مع أختك ، فأنتم لم تقصروا في تربيتها ، وقد وافقتم على خروجها من مدرسة الاختلاط ، وقد حرصتم على إعفافها بتزويجها لرجل من أهل الصلاح وكان ذلك ، فلم يحصل منكم ما تلومون به أنفسكم ، اللهم إلا أن يكون التساهل مع أختك في استعمالها للإنترنت .
2. لا يحل للولي أن يُكره موليته على الزواج بمن تكره ، وأنتم لن تفعلوا هذا – إن شاء الله – مع أختك ، سواء كان الإكراه على الرجوع لزوجها الأول أو غيره .
3. لا يكون الأب عاضلاً لابنته إذا كان يمنع تزوجها من شخص غير مرضي الدين والخلُق ، وإنما يكون عاضلاً إذا رفض كل من تقدَّم لابنته وهو مرضي الدين والخلق .
4. وأما بخصوص التصرف الشرعي مع أختكم فنرى :
أ. عدم ذِكر ما جرى منها لأحدٍ من أقربائكم – فضلاً عن غيرهم – كائناً من كان ، فلا أحد يوثق به من قريب أو جار أن يسرِّب خبرها فيُزاد فيه ولا يُنقص حتى تتسع الدائرة عليكم ، فلا تقدروا على مواجهتها والذب عن أنفسكم .
ب. عدم مقاطعة والدك لها وعدم التبرؤ منها والسخط عليها ، ونرى أنها الآن أحوج ما تكون لعقل والدها ليلجم سعار عاطفتها ، فهي الآن محجوبة عن التفكير بعقلها ، وتحتاج من يقف معها من أهلها لمخاطبة عقلها ، وإحياء تدينها بتذكيرها بحكم ما حصل منها وعواقب ذلك ، فهي قد ارتكبت معصية بيِّنة بإنشائها علاقة مع رجل أجنبي عنها ، وهي آثمة بالحديث معه ومراسلته ، فيجب أن تعلم حقيقة مخالفتها للشرع ، كما أنها تحتاج إلى من يخاطب عقلها ليبين لها أن ما تفعله قد يكون له عواقب سيئة من تفرق الأسرة ، ومن هوانها على عشيقها ذاك عندما يصير زوجاً لها ، ومن احتمال أن يعاقبها ربها بابنة تتصرف مثل تصرفها ، ومن انتشار خبرها بين الناس مما يسبب طعنا وتجريحا بوالدها وأمها وأخواتها ، وهكذا في قائمة طويلة من العواقب السيئة تُخبر بها وتوقَف عليها ؛ فلعلَّ ذلك الخطاب لتدينها وعقلها أن يثمر ثمرة يانعة .
ثم تعرفوها مع ذلك : أن هذا الشاب هو الذي أفسدها على زوجها الذي عقد عليها عقدا شرعيا ، وسبب نفرتها منه ، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من كل من أفسد امرأة على زوجها ، ولعنه ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى عدم صحة زواجها من هذا المفسد .
وينظر جواب السؤال رقم (84849) .
ج. إذا لم تقنع أختكم بما تعظونها به وتذكرونها بعواقبه ، وظلت مصرَّة على التزوج بذاك الشاب : فنرى أن تزوجوها إياه ! علاجاً لمرضها ودائها ، واستصلاحا لشأنها ، وستراً عليها وعلى أسرتكم أن تنالكم ألسنة السوء ، ولا يكون هذا منكم إلا بعد التأكد من صلاحية ذاك الشاب ليكون زوجاً لأختكم من حيث دينه وخلقه ، وإلا فلا يحل لكم القبول به زوجاً لها.
نحن على علم بصعوبة هذا الأمر عليكم ، ونحن نقدِّر ذلك ، ولكن من نظر إلى عواقب خلاف هذا الأمر ، فإنه لن يتردد بقبوله ، ومما رأيناه وعلمناه من حوادث مشابهة رفض فيها الأهل تزويج من تعلقت به ابنتهم : زنا ، هروب من البيت ، انتحار ، السفر خارج بلادها ... وغير ذلك مما انتشرت حكايته وذاعت أخباره ، نسأل الله أن يعصمكم من شر ذلك كله ، ولذا فما نقوله لكم وإن كان صعباً على النفس قبوله ، لكنَّ الأصعب قد يكون في خلافه .

فابدؤوا إذاً بالصواب في وعظها وإرشادها لفعل الصواب ، من قطع علاقتها بذلك الشاب حقيقة لا صورة ، وواقعاً لا كلاماً ، فإن استجابت لكم فبها ونعمت ، وإن لم تستجب فليس أمامكم إلا الجمع بينها وبين ذاك الشاب بالحلال ، إيقافاً لإثمها في علاقتها به الآن بالحرام ، واتقاء لشر نخافه من عاقبة ذلك الأمر.
ونرى ، إذا حصل الخيار الثاني ، وتقدم هذا الشاب فعليا إليكم ، أن لا يكون تعجل في الدخول ، بل لتكن ثمة فترة معقولة بعد العقد ، فقد تتضح لها من الأمور ما كان عنها خافياً عليها من سلوك وأخلاق وتصرفات لذاك الشاب تنفرها منه ، وقد تعيد التفكير في قرارها في التزوج منه فلا تكمل مشوارها ، وبكل حال فالخير في تأخير الدخول حتى تتضح الأمور وتكمل قناعتها بصواب فعلها .
وهذا الذي ذكرناه لك من اجتماعهما بالحلال بالزواج قد ورد بمثله الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم :
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم ( لَمْ نَرَ – وفي لفظ ( يُرَ ) - لِلمُتَّحَابَّيْن مِثُلَ النِّكَاحِ ) رواه ابن ماجه ( 1847 ) وصححه البوصيري ، والألباني في " صحيح الجامع ".
قال المنَّاوي – رحمه الله - : " ( لَمْ يُرَ لِلمُتَّحَابَّيْنِ ) قال الطِّيبي : هو من الخطاب العام ، ومفعوله الأول محذوف ؛ أي : لم تَرَ أيها السامع ما تزيد به المحبة ( مِثْلَ النِّكَاحِ ) لفظ ابن ماجه والحاكم ( مِثْلَ التَّزوُّج ) أي : إذا نظر رجل لأجنبية وأخذت بمجامع قلبه ، فنكاحها يورثه مزيد المحبة ، كذا ذكره الطيبي ، وأفصح منه قول بعض الأكابر المراد : أن أعظم الأدوية التي يعالج بها العشق : النكاح ، فهو علاجه الذي لا يعدل عنه لغيره ما وجد إليه سبيلاً "
انتهى من " فيض القدير " ( 5 / 376 ) .
وقال ابن القيم – رحمه الله – في بيان علاج داء العشق - : " وقد اتفق رأي العقلاء من الأطباء وغيرهم في مواضع الأدوية : أن شفاء هذا الداء : في التقاء الروحين والتصاق البدنين " انتهى من " روضة المحبين " ( ص 212 ) .
وقال – رحمه الله – أيضاً - : " ولقد أبطلَ مَنْ قال : إنها إذا عيَّنت كُفْئاً تُحبه ، وعيَّن أبوها كُفْئاً : فالعبرةُ بتعيينه ، ولو كان بغيضاً إليها قبيحَ الخِلقة .
وأما موافقتُه لمصالح الأمة : فلا يخفى مصلحة البنت فى تزويجها بمن تختاره وترضاه وحصولُ مقاصد النكاح لها به ، وحصولُ ضد ذلك بمن تُبغِضُه وتنفِرُ عنه ، فلو لم تأت السنة الصريحة بهذا القول ، لكان القياسُ الصحيح وقواعدُ الشريعة لا تقتضى غيره ، وبالله التوفيق " .
انتهى من " زاد المعاد في هدي خير العباد " ( 5 / 97 ، 98 ) .

نسأل الله أن ييسر أمركم ويفرج كربكم ويهديكم لما فيه رضاه .

والله أعلم