الوصية بقصر الأمل
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الوصية بقصر الأملالحمد لله الذي تفرد بعز كبريائه عن إدراك البصائر، وتقدَّس بوصف علاه عن الأشباه والنظائر، وتوحَّد بكمال جبروته فلا العقل في تعظيمه حائر، وتفرد في ملكوته، فهو الواحد القهار الأول قبل كل أول، الآخر بعد كل آخر، الظاهر بما أبدع، فدليل وجوده ظاهر، الباطن فلا يخفى عليه ما هجس في الضمائر.
وأشهد أن لا اله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو علي كل شيء قدير، شهادة أعدها من أكبر نعمه وعطائه، وأعدها وسيلة إلى يوم لقائه.
عن مالك بن دينار قال: قال لقمان لابنه: «يا بني، كيف تطاول على الناس ما يوعدون وهم إلى ما يوعدون سراعًا يذهبون»[1].
عن عبدالله بن دينار قال: قال لقمان لابنه: «يا بني، كيف يتباعد عن الناس ما يوعدون؟ والوعد يدنو[2]، وهم كل يوم يموتون، يا بني، كيف يتباعد عن الناس ما يوعدون؟ والوعد يدنو وهم سراعًا إلى الوعد يذهبون، يا بني، إنك استدبرت[3] الدنيا يوم نزلتها، واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تدنو [4] منها أقرب منك إلى الدار التي تباعد عنها [5]».
اعلم علمني الله وإياك أن لقمان الحكيم رضي الله عنه قد أوصى ابنه بتلك الوصايا التي يحذِّره من خلالها من طول الأمل؛ حيث إنه بيَّن له أحوال الناس، وإنه قد صدهم طول الأمل عما يوعدون، فتأمل أخي قوله: يا بني، كيف يتباعد عن الناس ما يوعدون؟ والوعد يدنو، وهم كل يوم يموتون، يا بني، كيف يتباعد عن الناس ما يوعدون؟ والوعد يدنو وهم سراعًا إلى الوعد يذهبون، فالمتأمل في أحوال أهل الدنيا لا يشك أن هؤلاء القوم قد غرَّهم طولُ الأمل، وزيَّن لهم الشيطان حبَّ الدنيا وطول المكث واللبث فيها، فهو يجمع من المال ما لا يأكل، ويبني من القصور ما لا يسكن، ويضن بمال الله عن عيال المولى سبحانه وتعالى.
أؤمل أن أحيا وفي كل ساعة
تمرُّ بي الموتى تهز نعوشها
وهل أنا إلا مثلهم غير أن لي
بقايا ليال في الزمان أعيشها
قال بعض السلف: من طال أمله، ساء عمله، وذلك أن طول الأمل يحمل الإنسان على الحرص على الدنيا والتشمير لها، لعمارتها وطلبها، حتى يقطع وقته - ليله ونهاره - في التفكير في جمعها وإصلاحها، والسعي لها مرة بقلبه ومرة بالعمل، فيصير قلبه وجسمه مستغرقين في طلبها، وحينئذ ينسى نفسه والسعي لها بما يعود عليها بالصلاح، وكان ينبغي له المبادرة والاجتهاد، والتشمير في طلب الآخرة التي هي دار الإقامة والبقاء، وأما الدنيا فهي دار الزوال والانتقال.
أتبني بناء الخالدين وإنما
مقامك فيها لو عرَفت قليلُ
لقد كان في ظل الأراك كفاية
لمن كان يومًا يقتفيه رحيلُ
ذكر العلماء أن طول الأمل له سببان:
أحدهما حب الدنيا:
أما فهو أنه إذا أنس بها وبشهواتها وعلائقها، ثقُل على قلبه مفارقتها، فامتنع قلبه من التفكير في الموت، وصار مشغولًا بالأماني الباطلة التي توافق مراده، وإذا جاء خاطر الموت في بعض الأحوال واستعدَّ وتهيَّأ، سوَّف ووعد نفسه وقال: ما مضى إلا القليل إلى أن تكبر، ثم تتوب، وتقبل على الطاعة، فلا يزال يمنِّي ويسوِّف من الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة، أو إلى رجوع من سفر، أو إلى فراغ من تدبير بعض شؤونه، فلا يزال يمنِّي نفسه بما يوافق هواها، ولا يزال يغالط نفسه في الحقائق، ويتوهم البقاء في الدنيا إلى أن يتقرر ذلك عنده، ويظن أن الحياة قد صفت له، وينسى قول الله عز وجل: ﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الاْرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالاْمْسِ ﴾ [يونس: 24].
تصفو الحياة لجاهل أو غافلٍ
عما مضى منها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
ويسوقها طلب المحال فتطمع
وأما السبب الثاني: فهو الجهل:
يستبعد الموت مع الصحة والشباب، فالإنسان قد أَلِف موت غيره، ولم يرَ موت نفسه أصلًا، فلذلك يستبعد، إلا أن العاقل يعرف أن الأجل محدود، فقد فُرغ منه، والإنسان يسير إليه كل لحظة كما قيل:
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهُنَّ مراحل
ولهذا فإن من المداخل للشيطان إلى قلب ابن آدم، والتي إذا لم ينتبه لها الإنسان أهلكته، طول الأمل فإن الشيطان لا يزال بالإنسان في اتباع الهوى، والنفس الأمارة بالسوء، حتى يوقعه في سوء الخاتمة، نسأل الله السلامة والعافية، وبذلك يكون الشيطان قد حقق مراده، لذا أوصى لقمان رضي الله عنه ابنه بقصر الأمل: (يا بني، إنك استدبرت [6] الدنيا يوم نزلتها، واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تدنو [7] منها أقرب منك إلى الدار التي تباعد عنها [8]».
فالناس مسافرون منذ أن خرجوا من بطون أمهاتهم، ويوشك أن يصلوا إلى نهاية السفر؛ إما إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وإما نار وقودها الناس والحجارة، لذا جاء التوجيه النبوي الكريم بقِصَر الأمل، وأن ينزل العبد نفسه من الدنيا بمنزلة المسافر أو عابر السبيل، عن ابن عمر قال: أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، وقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل»، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت، فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت، فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك [9].
وقد اتفقت على ذلك وصايا الأنبياء وأتباعهم، قال تعالى حاكيًا عن مؤمن آل فرعون أنه قال ﴿ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ ﴾ [غافر: 39].
كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رَاكِبٍ، قَالَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا» [10]، ومن وصايا المسيح عليه السلام أنه قال لأصحابه عن الدنيا: اعبروها ولا تعمروها.
ودخل رجل على أبي ذر رضي الله عنه، فجعل يُقلِّبُ بصره في بيته، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ فقال: إن لنا بيتًا نتوجه إليه، فقال: إنه لا بد لك من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا[11].
ودخلوا على بعض الصالحين، فقلَّبوا بصرهم في بيته، فقالوا: إنا نرى بيتك بيت رجل مرتحِل، فقال: لا أرتحلُ، ولكن أُطردُ طردًا، وكان عليُّ بنُ أبي طالب - رضي الله عنه - يقول: إنَّ الدُّنيا قدِ ارتحلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قدِ ارتحلت مقبلةً، ولكُلٍّ منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليومَ عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل [12].
سبيلك في الدنيا سبيلُ مسافرٍ ولا بُد من زادٍ لكل مسافـرِ
ولا بد للإنسان من حَمْل عُدَّةٍ ولا سيما إن خاف صولة قاهرِ
وما أحسن ما قال أحدُ الوعاظ: هَبْ الدنيا في يديك، ومثلَها ضُمَّ إليك، والمشرقَ والمغربَ جاءا إليك، فجاءك الموت، ماذا في يديك؟ وإذا كنا معاشر الإخوان الكرام واثقين من هذا المصير، فلماذا لا نركب سفينة النجاة ونكون ممن عناهم القائل بقوله:
إنَّ لله عبـادًا فُـطَنـا طَلَّقوُا الدنيا وخافُوا الفِتَنَا
نظروا فيها فلمَّا عَلِموا أنها ليست لِـحَيٍّ وَطَـنَا
جعلوها لُجَّةً واتخـذوا صالحَ الأعمالِ فيهـا سُفنا
[1] الزهد لأحمد بن حنبل، (ج 4 / ص 447)، ح 1894.
[2] يدنو: يقترب.
[3] استدبرها: وَلَّاها ظهره.
[4] الدنو: الاقتراب.
[5] الزهد والرقائق لابن المبارك - (ج 3 / ص 97ح 1049.
[6] استدبرها: وَلَّاها ظهره.
[7] الدنو: الاقتراب.
[8] الزهد والرقائق لابن المبارك - (ج 3 / ص 97ح 1049.
[9] أخرجه أحمد (2 /24) (4764).
والبخاري (8 /110).
وابن ماجه (4114) والترمذي (2333).
[10] أخرجه: أحمد 1/ 391 و441، وابن ماجه ( 4109 )، والترمذي ( 2377).
[11] الزهد لابن أبي الدنيا ح 127، و أخرجه: البيهقي في " شعب الإيمان " ( 10651 ).
[12] أخرجه: ابن المبارك في " الزهد " ( 255 )، وابن أبي شيبة ( 34495 ) .