أرشيف المقالات

استعجال العذاب

مدة قراءة المادة : 9 دقائق .
استعجال العذاب


قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32].
والقائل لهذا الدعاء هو أبو جهل؛ كما جاء في صحيح البخاري (عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال أبو جهل: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾.
 
قال ابن حجر: (قوله: "قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا...
إلى آخره"، ظاهر في أنه القائل ذلك، وإن كان هذا القول نُسب إلى جماعة، فلعله بدأ به ورضي الباقون، فنسب إليهم، وعن قتادة [*] قال: قال ذلك سفَهةُ هذه الأمة وجهَلَتُها) [1].
 
فكان أبو جهل هو القائل، وكان الباقون كذلك قائلين بسكوتِهم، ومواقفهم المعضدة لأبي جهل، فنُسب القول لهم أجمعين، وبذلك أثبت الله تعالى جهلهم وجحودهم للحق، وإنكارهم له إنكارًا شديدًا، حتى إنهم عدُّوا هذا الحق مستحيلًا، وعلى حسب ما اعتقدوا، فإن نزول العذاب صار في نظرهم مستحيلًا، وهذا القول منهم أبلغ في الجحود والعناد والنكران، كما أنه دليل أكيد على جهلهم وضلالهم، فبدل أن يقولوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدِنا إليه، قالوا: ﴿ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأنفال: 32]، وهذا مما عِيبوا به، ذكر القرطبي أن ابن عباس رضي الله عنه لقِيه رجل من اليهود، فقال اليهودي: ممَّن أنت؟ قال: مِن قريش، فقال: أنت من القوم الذين قالوا: ﴿ اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ ﴾ الآيةَ [الأنفال: 32]، فهلَّا عليهم أن يقولوا: إن كان هذا هو الحق فاهدنا إليه! إن هؤلاء قوم يجهلون، قال ابن عباس: وأنت يا إسرائيلي، مِن القوم الذي لم تجفَّ أرجلُهم من بللِ البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه، وأنجى موسى وقومه، حتى قالوا: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138]، فقال لهم موسى: ﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾، فأطرق اليهودي مُفحَمًا[2]!
 
لقد استعجل هؤلاء المشركون العذابَ، وتوجَّهوا إلى الله تعالى بالدعاء، وهذا إقرار منهم بوجود الإله القادر الذي يملك إجابة الدعاء وإنزال العذاب، فلماذا لم يؤمنوا به ولم يخضعوا له؟!
 
إنهم استكثروا أن يكون لهذا الكون إلهٌ واحد، كما جاء في سورة ص: ﴿ أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5]، كما أنهم لم يقبَلوا أن يكون النبي المرسل صلى الله عليه وسلم بشرًا مثلهم، واقترحوا أن يكون من الملائكة، ولو استجاب الله تعالى لهم، فسيُقدِّمون اعتراضًا آخر؛ لأنهم سينفرون منه ولن يأنسوا به، وفي حالة رفضهم سينزل عليهم عذاب الاستئصال، وهي سُنة الله تعالى في الأقوام السابقين، قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ * وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 8، 9].
 
ثم إنهم اعترضوا على اختيار الله عز وجل لمحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وقدَّموا اقتراحًا أن يكون الرسول شخصًا آخر، وحدَّدوا له بعض المواصفات، وقد سجَّل القرآن الكريم ذلك؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 31، 32].
 
ومن شدة جهلهم وسوء أدبهم أنهم يعترضون ويقترحون على الله، فالله عز وجل أعلم بمَن يصطفيه لتبليغ الرسالة، فهي اصطفاء إلهي، قال تعالى: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ [الأنعام: 123، 124].
 
لقد أراد الله عز وجل ألَّا يُعجِّل العذاب لهذه الأمة، وجعل سُنة الإمهال بدل عذاب الاستئصال؛ لأن هذه الرسالة هي الرسالة الخاتمة، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم الرسل، وأول حدثٍ كوني في هذه الدنيا بعد بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو قيام الساعة، قال تعالى: ﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ﴾ [القمر: 1]، ولقد انشق القمرُ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم[3]، فلم يبقَ بعد ذلك إلا الساعة!
 
روى الترمذي عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بُعِثْتُ أنا والساعة كهذه من هذه))، وأشار بإصبعيه: السبابة والوسطى، وفي رواية: ((إن كادت لتسبقني)) [*].
 
قال ابن كثير: (وشاهد ذلك أيضًا فيما ورد في أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم [**] أنه الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه) [4].
 
كذلك فإن معجزات الأنبياء السابقين كانت معجزاتٍ حسيَّة مادية - لبلادةِ هذه الأمم، وعدم نضجها العقلي والفكري - فلا تُؤثِّر إلا فيمَن يراها ويعاصرها، فكان التكذيب منهم والانتقام من الله بالصيحة وبالخسف أو بالغرق، كما قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
 
أما هذه الأمة، فكانت معجزةُ نبيِّها صلى الله عليه وسلم الخالدةُ معجزةً عقلية فكرية، تُخاطب العقلَ، وتُحاور الفكر، على اختلاف درجاته ومستوياته، وعلى اختلاف العصور والأزمان، فهي معجزة متجدِّدة، تتميز بالثراء الفكري، وتنوُّع ألوان الإعجاز، كما تتميز بمراعاة أحوال المخاطَبين ومقتضى الحال، وهي لا تخاطب العقل وتحاور الفكر فقط، بل تتعامل مع الوجدان ومع النفس والروح، وموضوع هذا القرآن هو الإنسان، هدايته وسعادته في الدنيا والآخرة، والإنسان مادَّةٌ من تراب الأرض، ونفخة من روح الله عز وجل، ولقد لبَّى القرآن الكريم مطالبَ الرُّوح والجسد، وغذَّى غرائز الإنسان في إطارٍ منضبط نظيف؛ ولهذا فإن القرآن هو المعجزة الخالدة، والحجَّة البالغة إلى يوم القيامة.
 
ومِن حكمة أحكم الحاكمين جل وعز: أنه لم يُعاجِلهم بالعقوبة؛ لأن مِن قريش مَن أسلَمَ بعد ذلك وحسُن إسلامه، وأما مَن بقي على كفره وعناده، فقد نال جزاءه في غزوة بدر؛ كالنضر بن الحارث وأبي جهل، وهذا من فضل الله تعالى على خلقه، أنه سبحانه وتعالى يُمهِلهم، ولا يعجل لهم العقوبة، فمَن أصر على كفره، انتقم الله منه بعدله، وأما مَن آمن، فقد نال حسنة الدنيا والآخرة بكرمه وفضله ومنِّه.



[*] هو قتادة بن دعامة السدوسي أحد التابعين المشهورين بالتفسير.


[1] فتح الباري، ج8، ص 248.


[2] الجامع لأحكام القرآن؛ القرطبي، ج4، ص 2834.


[3] وهو من المعجزات الحسية التي أيَّد الله تعالى بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.


[*] سنن الترمذي رقم 2215، 2214، ص 561، وقال: حديث حسن صحيح.


[**] روى الترمذي عن محمد بن جُبير بن مُطعِم، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لي أسماء: أنا محمدٌ، وأنا أحمدُ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي))، وقال: حديث حسن صحيح؛ باب ما جاء في أسماء النبي صلى الله عليه وسلم، رقم 2840، ص 701، سنن الترمذي، دار ابن الهيثم، ط1، 2004.


[4] تفسير القرآن العظيم، ج4، ص 261.

شارك الخبر

المرئيات-١