{ ما ننسخ من آية }
مدة
قراءة المادة :
20 دقائق
.
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ [البقرة: 106]قال تعالى: ﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [البقرة: 106 - 108].
﴿ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ﴾ والمراد بالآية هنا «حكم الآية» سواء أُزيل لفظها أم أُبقي لفظها؛ لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام؛ لا إزالة ألفاظ القرآن.
﴿ أَوْ نُنْسِهَا ﴾ يخبر تعالى رادًّا على الطاعِنين في تشريعه الحكيم الذين قالوا: إنَّ محمدًا يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدًا، فقال تعالى: ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ﴾ والخيرية ظاهرة؛ لأن المأتي به، إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء، فخيريَّتُه بالنسبة لسقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل، فخيريَّتُه بالنسبة لزيادة الثواب ﴿ أَوْ مِثْلِهَا ﴾ أو مساوٍ لها في التكليف والثواب، وذلك كنسخ التوجُّه إلى بيت المقدس بالتوجُّه إلى الكعبة، والحكمة هنا استسلام العبد لأحكام الله عز وجل، وتمام انقياده لها؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ﴾ [البقرة: 143]، وهذه الآية مثل قوله تعالى: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾ [يونس: 15]، فما يكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يبدل شيئًا من القرآن من تلقاء نفسه، ويفهم من قوله: ﴿ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ﴾ أن الله تعالى يبدل منه ما شاء بما شاء.
وصرح بهذا المفهوم في مواضع أُخَر؛ كقوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 101]، وقوله: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ [الأعلى: 6، 7]، والمراد به هنا رفع الآية؛ وليس مجرد النسيان؛ لأن مجرد النسيان لا يقتضي النسخ؛ فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد ينسى بعض الآية، وهي باقية كما في حديث أبي داود عَنْ الْمُسَوَّرِ بْنِ يَزِيدَ الْأَسَدِيِّ الْمَالِكِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ، فَتَرَكَ شَيْئًا لَمْ يَقْرَأْهُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَرَكْتَ آيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هَلَّا أَذْكَرْتَنِيهَا)).
وما زعمه المشركون واليهود: من أن النسخ مستحيل على الله؛ لأنه يلزمه البداء - وهو الرأي المتجدِّد- ظاهر السقوط، واضح البطلان لكل عاقل؛ لأن النسخ لا يلزمه البداء البتة؛ بل الله جل وعلا يُشرِّع الحكم وهو عالم بأن مصلحته ستنقضي في وقت معين، وأنه عند ذلك الوقت ينسخ ذلك الحكم، ويبدله بالحكم الجديد الذي فيه المصلحة، فإذا جاء ذلك الوقت المعين أنجز جل وعلا ما كان في علمه السابق من نسخ ذلك الحكم الذي زالت مصلحته بذلك الحكم الجديد الذي فيه المصلحة.
كما أن حدوث المرض بعد الصحة وعكسه، وحدوث الغِنى بعد الفقر وعكسه، ونحو ذلك لا يلزم فيه البداء؛ لأن الله عالم بأن حكمته الإلهية تقتضي ذلك التغيير في وقته المعين له، على وَفْق ما سبق في العلم الأزليِّ، كما هو واضح.
وقد أشار جل وعلا إلى علمه بزوال المصلحة من المنسوخ، وتمحُّضها في الناسخ بقوله: ﴿ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ ﴾ [النحل: 101]، وقوله: ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106]، وقوله: ﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ [الأعلى: 6، 7]، فقوله: ﴿ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ﴾ بعد قوله: ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ يدل على أنه أعلم بما ينزل، فهو عالم بمصلحة الإنسان، ومصلحة تبديل الجديد من الأول المنسي.
والمقصد من قوله تعالى: ﴿ نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ﴾ [البقرة: 106] هو إمَّا إتيان تعويض أو إتيان تعزيز، وفيه إظهار منتهى الحكمة، والرد عليهم بأنهم لا يهمُّهم أن تنسخ شريعة بشريعة، أو حكم في شريعة بحكم آخر، ولا يقدح ذلك في علم الله تعالى، ولا في حكمته ولا ربوبيته؛ لأنه ما نسخ شرعًا أو حكمًا ولا تركه إلا وهو قد عوَّض الناس ما هو أنفع لهم منه حينئذٍ، أو ما هو مثله من حيث الوقت والحال، وما أخَّر حُكْمًا في زمن ثم أظهره بعد ذلك إلَّا وقد عوَّض الناس في إبان تأخيره ما يسدُّ مسدَّه بحسب أحوالهم، وذلك مظهر الربوبية فإنه يُربِّي الخَلْق ويحملهم على مصالحهم مع الرِّفْق بهم والرحمة، ومراد الله تعالى في تلك الأزمنة والأحوال كلها واحد، وهو حفظ نظام العالم، وضبط تصرُّف الناس فيه، على وجه يعصم أحوالهم من الاختلال بحسب العصور والأمم والأحوال إلى أن جاء بالشريعة الخاتمة، وهي مراد الله تعالى من الناس؛ ولذلك قال: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19]، وقال أيضًا: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ﴾ [الشورى: 13] الآية.
قال القرطبي: قال علماؤنا رحمهم الله تعالى: جائز نسخ الأثقل إلى الأخف؛ كنسخ الثبوت لعشرة بالثبوت لاثنين [في قوله تعالى: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 66]، ويجوز نسخ الأخفِّ إلى الأثقل؛ كنسخ يوم عاشوراء والأيام المعدودة برمضان، وينسخ المثل بمثله ثقلًا وخِفَّةً؛ كالقبلة، وينسخ الشيء لا إلى بدل كصدقة النجوى [في قوله تعالى: ﴿ أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المجادلة:13]].
وينسخ القرآن بالقرآن، والسُّنة بالعبارة، وهذه العبارة يراد بها الخبر المتواتر القطعي، ويُنسَخ خبر الواحد بخبر الواحد.
وحُذَّاق الأئمة على أن القرآن ينسخ بالسُّنَّة، وذلك موجود في قوله عليه السلام: ((لا وصية لوارث))، وهو ظاهر مسائل مالك، وأبى ذلك الشافعي وأبو الفرج المالكي، والأول أصحُّ، بدليل أن الكل حكم الله تعالى ومن عنده وإن اختلفت في الأسماء، وأيضًا فإن الجلد ساقط في حدِّ الزِّنا عن الثيب الذي يرجم، ولا مُسْقِط لذلك إلَّا السُّنَّة- فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا بين.
والحُذَّاق أيضًا على أن السُّنَّة تُنسَخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى، وفي قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ﴾ [الممتحنة: 10]، فإن رجوعهن إنما كان بصلح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقريش.
والحُذَّاق على تجويز نسخ القرآن بخبر الواحد عقلًا، واختلفوا: هل وقع شرعًا؟ فذهب أبو المعالي وغيره إلى وقوعه في نازلة مسجد قباء، وأبى ذلك قوم.
ولا يصحُّ نسخ نصٍّ بقياسٍ؛ إذ من شروط القياس ألَّا يُخالف نصًّا، وهذا كله في مدة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمَّا بعد موته واستقرار الشريعة، فأجمعت الأُمَّة أنه لا نسخ؛ ولهذا كان الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به؛ إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي [أي: لا نسخ في قياس ولا إجماع]، فإذا وجدنا إجماعًا يُخالِف نصًّا، فيعلم أن الإجماع استند إلى نصٍّ ناسخٍ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النصَّ المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ، وبقي سنة يقرأ ويروى، كما آية عدة السنة في القرآن تتلى، فتأمَّل هذا فإنه نفيس، ويكون من باب نسخ الحكم دون التلاوة، ومثله صدقة النجوى، وقد تنسخ التلاوة دون الحكم كآية الرجم [وهي آية ﴿ الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله ﴾ فقد نسخ اللفظ من التلاوة وبقي الحكم]، وقد تنسخ التلاوة والحكم معًا، ومنه قول الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كنا نقرأ ﴿ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر ﴾ ومثله كثير [وهو نسخ الآية وحكمها، وهذا معنى قوله: ﴿ أَوْ نُنْسِهَا ﴾ وهي قراءة نافع، فقد ثبت أن قرآنًا نزل وقرأه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبعض أصحابه، ثم نسخه الله تعالى لفظًا ومعنى، فمَحاهُ من القلوب بالمرَّة، فلم يقدر على قراءته أحد، وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلَاثُ مِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ، فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمْ الْأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ.
وَإِنَّا كُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا فِي الطُّولِ وَالشِّدَّةِ بِبَرَاءَة فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: ﴿ لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ ﴾ وَكُنَّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنَّا نُشَبِّهُهَا بِإِحْدَى الْمُسَبِّحَاتِ فَأُنْسِيتُهَا غَيْرَ أَنِّي حَفِظْتُ مِنْهَا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾].
والذي عليه الحُذَّاق أن من لم يبلغه الناسخ فهو متعبد بالحكم الأول، كما في تحويل القبلة، والحُذَّاق على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ استفهام معناه التقرير، مثل: ﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ [الشرح: 1]، ولما أريد بالقدرة الوصف جاءت على صيغة "فعيل"؛ لكن إذا أريد بها الفعل تكون بصيغة "الفاعل"، كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، و"القدرة" صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجزٍ؛ أمَّا "القوة" فصفة تقوم بالقوي بحيث يفعل الفعل بلا ضعف؛ إذًا المقابل للقدرة: العجز؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ﴾ [فاطر: 44]؛ والمقابل للقوة: الضعف، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54]، والفرق الثاني بينهما: أن "القوة" يوصف بها من له إرادة، وما ليس له إرادة؛ فيقال: رجل قوي؛ وحديد قوي؛ وأما "القدرة" فلا يُوصَف بها إلا ذو إرادة؛ فلا يقال: حديد قادر.
وحكمة إفراد المخاطب في قوله: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾: أنه ما من شخص إلا يتوهم أنه المخاطب بذلك، والمنبه به، والمقرر على شيء ثابت عنده، وهو أن قدرة الله تعالى متعلقة بالأشياء، فلن يعجزه شيء، فإذا كان كذلك لم ينكر النسخ؛ لأن الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا رادَّ لأمره، ولا مُعقِّب لحكمه.
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ هذا أيضًا استفهام دخل على النفي فهو تقرير، والتقرير معناه: الإيجاب؛ أي: قد علمت أيها المخاطب أن الله له سلطان السموات والأرض والاستيلاء عليهما، فهو يملك أموركم ويُدبِّرها، ويُجريها على ما يختاره لكم من نسخ وغيره، وخصَّ السموات والأرض بالملك؛ لأنهما من أعظم المخلوقات، ولأنهما قد اشتملا على جميع المخلوقات.
وتضمَّنت هاتان الجملتان التقرير على الوصفين اللذين بهما كمال التصرف، وهما: القدرة والاستيلاء؛ لأن الشخص قد يكون قادرًا، بمعنى أن له استطاعة على فعل شيء؛ لكنه ليس له استيلاء على ذلك الشيء، فينفذ فيه ما يستطيع أن يفعل، فإذا اجتمعت الاستطاعة وعدم المانعية، كمل بذلك التصرُّف مع الإرادة.
وبدأ بالتقرير على وصف القدرة؛ لأنه آكد من وصف الاستيلاء والسلطان، قال ابن عاشور: مسوق لبيان حكمة النسخ والإتيان بالخير والمثل بيانًا غير مفصل على طريقة الأسلوب الحكيم، وذلك أنه بعد أن فرغ من التنبيه على أن النسخ الذي استبعدوه وتذرَّعُوا به لتكذيب الرسول هو غير مفارق لتعويض المنسوخ بخير منه أو مثله أو تعزيز المبقى بمثله، أريد أن ينتقل من ذلك إلى كشف ما بقي من الشُّبْهة، وهي أن يقول المنكر: وما هي الفائدة في النسخ حتى يحتاج للتعويض؟ وكان مقتضى الظاهر أن يتصدَّى لبيان اختلاف المصالح ومناسبتها للأحوال والأعصار، ولبيان تفاصيل الخيريَّة والمثلية في كل ناسخ ومنسوخ، ولما كان التصدِّي لذلك أمرًا لم تتهيَّأ له عقول السامعين لعُسْر إدراكهم مراتب المصالح وتفاوتها؛ لأن ذلك مما يحتاج إلى تأصيل قواعد من أصول شرعية وسياسية، عدل بهم عن بيان ذلك، وأجملت لهم بالمصلحة بالحوالة على قدرة الله تعالى التي لا يشذُّ عنها ممكن مُراد، وعلى سعة ملكه المشعر بعظيم علمه، وعلى حاجة المخلوقات إليه؛ إذ ليس لهم رب سواه ولا ولي دونه، وكفى بذلك دليلًا على أنه يحملهم على مصالحهم في سائر الأحوال، وممَّا يزيد هذا العدول توجيهًا أن التصدِّي للبيان بفتح باب الجدال في إثبات المصلحة وتفاوت ذلك بحسب اختلاف القرائح والفهوم.
﴿ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ﴾ حافظ يحفظكم بتولي أموركم ﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾ ناصر يدفع عنكم المكروه.
وأتى بصيغة ولي، وهو فعيل، للمبالغة، ولأنه أكثر في الاستعمال؛ ولذلك لم يجئ في القرآن (والٍ) إلا في سورة الرعد، لمؤاخاة الفواصل، وأتى بـ (نصير) على وزن فعيل، لمناسبة (وليّ) في كونهما على فعيل، ولمناسبة أواخر الآي، ولأنه أبلغ من فاعل.
وتكرَّر اسم الله ظاهرًا في هذه الجمل الثلاث، ولم يضمر للدلالة على استقلال كل جملة منها، وأنها لم تجعل مرتبطة بعضها ببعض ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار.
ولما كانت الجملتان الأوليان للتقرير، وهو إيجاب من حيث المعنى، ناسب أن تكون الجملة الثالثة نفيًا للولي والناصر؛ أي: إن الأشياء التي هي تحت قدرة الله وسلطانه واستيلائه، فالله تعالى لا يحجزه عما يريد بها شيء، ولا مغالب له تعالى فيما يريد.
﴿ أَمْ تُرِيدُونَ ﴾ يؤذن بأن السؤال لم يقع؛ ولكنه ربما جاش في نفوس بعضهم، أو ربما أثارته في نفوسهم شُبَه اليهود في إنكارهم النسخ وإلقائهم شُبْهة البداء ونحو ذلك؛ ممَّا قد يبعث بعض المسلمين على سؤال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالآيةُ مسوقةٌ مساق الإنكار التحذيري.
﴿ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ ﴾ توبيخ لمن طالب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمور ليس في مكنته ﴿ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ ﴾ وسؤال قوم موسى عليه السلام هو قولهم: ﴿ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً ﴾ [النساء: 153] ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ﴾ [الأعراف: 138] فأراد تعالى أن يوبِّخهم على تعلُّق إرادتهم بسؤال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأن يقترحوا عليه؛ إذ هم يكفيهم ما أنزل إليهم، وشبه سؤالهم بسؤال ما اقترحه آباء اليهود من الأشياء التي مصيرها إلى الوبال.
وفيه: إنكار كثرة الأسئلة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأن الاستفهام: ﴿ أَمْ تُرِيدُونَ ﴾ يقصد به الإنكار؛ وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محذرًا من ذلك: ((ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ))؛ [أحمد]، وعند البخاري عن سعد بن أبي وقاص رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: ((إِنَّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ))؛ فهذا نهي، وإنكار على الذين يسألون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مسائل، والمطلوب من المسلم في زمن الوحي أن يسكت حتى ينزل ما أراد الله عز وجل من أمر أو نهي.
وفيه أيضًا: أنه لا ينبغي إلقاء السؤال إلا لمصلحة: إما رجل وقعت له مسألة يسأل عن حكمها؛ أو طالب علم يتعلَّم ليستنتج المسائل من أصولها؛ أمَّا الأسئلة لمجرد استظهار ما عند الإنسان فقط؛ أو أقبح من ذلك من يستظهر ما عند الإنسان ليضرب آراء العلماء بعضها ببعض، وما أشبه ذلك، أو لأجل إعنات المسؤول وإحراجه، فكل هذا من الأشياء المذمومة التي لا تنبغي.
﴿ وَمَن يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ ﴾ إعلام بأن من يجري على أسلوب التعنت وسوء الأدب مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد يصاب بزيغ القلب فيكفر، كما جاء في قوله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة: 16].
قال ابن عاشور: تذييل للتحذير الماضي للدلالة على أن المحذر منه كفر، أو يفضي إلى الكفر؛ لأنه يُنافي حرمة الرسول والثقة به وبحكم الله تعالى، ويحتمل أن المراد بالكفر أحوال أهل الكفر؛ أي: لا تتبدلوا بآدابكم تقلد عوائد أهل الكفر في سؤالهم؛ كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الصحيحين: ((فَإِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافُهُمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ))، وإطلاقُ الكُفْر على أحوال أهله وإن لم تكن كفرًا شائعٌ في ألفاظ الشريعة وألفاظ السلف؛ كما قالت جميلة بنت عبدالله بن أبي زوجة ثابت بن قيس: "إني أكره الكفر" تريد الزِّنا.
﴿ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ وسط الطريق الآمن من الخروج عن الطريق؛ لأنه يكون بين بنيات الطريق التي لا تنتهي إلى الغاية.
ولما كانت الشريعة توصل سالكها إلى رضوان الله تعالى، كنَّى عنها بالسبيل، وجعل من حاد عنها كالضالِّ عن الطريق، وكنَّى عن سؤالهم نبيَّهم ما ليس لهم أن يسألوه بتبدُّل الكفر بالإيمان، فصار صدر الآية إنكارًا وتوبيخًا، وعجزها تكفيرًا وضلالًا.
ولا يُريبك في ذلك وقوع جواب الشرط فعلًا ماضيًا مع أن الشرط إنما هو تعليق على المستقبل، ولا اقتران الماضي بـ «قد» الدالة على تحقُّق المضي؛ لأن هذا استعمال عربي جيد يأتون بالجزاء ماضيًا لقصد الدلالة على شدة ترتُّب الجزاء على الشرط وتحقُّق وقوعه معه حتى إنه عندما يحصل مضمون الشرط يكون الجزاء قد حصل، فكأنه حاصل من قبل الشرط نحو ﴿ وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ﴾ [طه: 81].