أرشيف المقالات

بيان أن للوجود سننا لا تتحول ولا تتبدل

مدة قراءة المادة : 13 دقائق .
بيان أن للوجود سننًا لا تتحول ولا تتبدل

ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما لاعبًا، ولا لاهيًا، بل جعل لكل شيء نظامًا خاصًا، وسنة ثابتة ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]، ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ﴾ [الرعد: 8]، ﴿ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3].

جعل تبارك اسمه لهذا الوجود سننًا لا تتبدل ولا تتحول، وجاء القرآن الكريم معلنًا هذه الحقيقة، قال تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23].

وقال تعالى: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الأحزاب: 62].

وقال جل ثناؤه: ﴿ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ [الفتح: 23].

وكل ما ترى العين، أو تسمع الأذن، أو تلمس اليد؛ من مظاهر هذا الوجود، آيات وبراهين لإثبات هذه الحقائق التي جاء القرآن الكريم، لتكون للبشر عبرة وهداية وموعظة.

• وهاك أمثلة، توضح لك سنن الكون التي لن تجد لها تبديلًا: إذا ألقيت الحبة الجيدة، في التربة الصالحة؛ وأنـزلت عليها الماء، في جو ملائم، فهنالك الإنبات.
بذلك مضت سنة الله.

• وإذا تغشى الذكر الأنثى مع سلامة الأعضاء وملاءمة الظروف فهنالك الحمل.

• إذا أنشأت على وتر الزاوية القائمة مربعًا، فإن مساحة هذا المربع تساوي مجموع مساحتي المربعين المنشأين على الضلعين الآخرين.

• إذا حلت بين النار وأكسجين الهواء خبت، وإذا أخذت من الأكسجين حظها ظلت متقدة مشتعلة.

• إذا قذفت جسمًا ثقيلًا إلى السماء، لم يسعه إلا السقوط إلى الأرض، حين ينتهي تأثير القوة الدافعة.

هذه القوانين التي نراها نافذة كل يوم، تثبتها البراهين الصحيحة، براهين العقل والحس والمشاهدة، لم يخلقها العلماء، ولا الأطباء؛ ولا المهندسون، ولا الطبعيون، ولا الكيميائيون.

ولكن الله سبحانه وتعالى هو الذي فطرها؛ ونظم الكون بمقتضاها، وهدى العلماء الذين لم يفرطوا في جنب الحق إلى الوقوف عليها ﴿ قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ﴾ [طه: 49 - 50].

فهذا الوجود خاضع لنواميس الفطرة التي فطره الله عليها ﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30].

أجل إن الكون يسير على سنن الله التي فطره عليها، وليس في وسع أحد كائنًا من كان أن يحول هذه السنن؛ أو يبدل هذه النواميس، أو يغير هذه القوانين.
بذلك نطق القرآن الكريم، وبذلك جاء سيد المرسلين، صلى الله عليه وسلم، وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا؛ لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

وكما أن لله سننًا في هذا الوجود: سمائه، وأرضه، ونجومه، وكواكبه وأفلاكه، وجباله وبحاره، ومائه وهوائه وترابه وناره، وسائر عناصره كذلك له سنن في الإنسان أفراده وجماعاته.

فقد مضت سنة الله في الأمم أنها إذا كانت مؤمنة تقية؛ مستمسكة بدينها، محتفظة بهدي رسلها وأنبيائها، مكن الله لها في الأرض، وآتاها من أسباب القوة والغلب ما تهيمن به على غيرها، وتسيطر على سواها.

وأما إذا انحرفت عن الصراط السوي، ونكبت عن النهج المستقيم، وفرطت في جنب دينها، أخذها الله أخذ عزيز مقتدر، ورماها بالسنين ونقص من الثمرات، فذهبت ريحها، وخضدت شوكتها؛ وأصبحت في الأذلين، قال الله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96]، وقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف: 165]، وقال تعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال: 46]، وقال تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يونس: 13].

فهذه سنة الله قد مضت في الأولين: أنه من آمن واتقى فتح الله عليه بركات السماء والأرض، وذلك أن الإيمان والتقوى يدعوان إلى الاستمساك بدين الله الذي أنـزله لهداية الناس إلى ما فيه صلاح المعاد والمعاش.

فإذا استمسك به الأفراد، واعتصمت به الجماعات، واهتدت بهديه الأمم والشعوب، سارت على صراط مستقيم في دينها ودنياها؛ فعدلت وتعاونت على البر والتقوى، وتركت محارم الله التي ما حرمها إلا لما فيها من المضار التي تهدم صروح الأمم، وتدك أركان العمران، وتأتي على بنيان الشعوب من القواعد.

ما استمسكت أمة بدينها إلا كانت في عز ومنعة وغلب، وما نبذت آداب دينها إلا هوت إلى الحضيض، وضربت عليها الذلة، والمسكنة وباءت بغضب من الله، قال تعالى:﴿ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 15-17]
 
لقد كان أهل سبأ في خصب ونعيم، يتفيأون في ظلال النعمة والكرامة، والراحة والدعة، والترف والعيش الغفول، فلما استمرأوا الراحة، واستلانوا فراش الترف، واستوطأوا الدعة، ونبذوا تعاليم دينهم التي تقضي بالجد والعمل؛ والتعاون على البر والتقوى؛ والبذل في سبيل الله وسبيل الجماعة، وسبيل الخير العام، أرسل الله عليهم سيل العرم؛ فتخاذلوا وتواكلوا، ولم يتعاونوا على درئه، ولم يبذلوا من ذات أنفسهم، ولا من ذات أيديهم ما يقوون به سدودهم، فخرب السيل هذه السدود، وانبثق البثق العظيم؛ وأتى على البلاد، وأهلك حرثها ونسلها، جزاء بما كسبت أيديهم.

ولو أنهم كانوا على شيء من الاعتصام بتعاليم دينهم، والاحتفاظ بروح الود والعطف والإخاء والتعاضد والتعاون على البر والتقوى، وتضحية المصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة، ما أصابهم شيء من هذا الذي جروه على أنفسهم، ولكن اقتضت سنة الله في الأمم أن يصليهم المصائب بما كسبت أيديهم.

وقال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].

هذه القرية التي ضرب الله بها المثل، وجعلها عبرة للأمم والشعوب، كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، حين كانت حريصة على دينها، قائمة بشكر ربها، مستقيمة على طريق الهدى.
فلما عتت عن أمر ربها ورسله؛ أذاقها الله لباس الجوع والخوف بما صنعت ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا ﴾ [الطلاق: 8 - 9].

وقال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10 - 12].

فها أنت ذا ترى أن الرجوع إلى الله وحسن الإنابة إليه والتوبة النصوح، والاستغفار الصادق سبب في سعة الرزق، وقوة الملك، وعزة السلطان.

تلك سنة الله التي قد خلت في عباده، يا حسرة على العباد.
هذا كتاب الله ينطق عليهم بالحق وقد يسره للذكر.
وهذا رسوله قد بيَّن لهم ما نـزل عليهم، فما لهم أعرضوا عن سنن الله في الوجود، ونواميسه في الكون، وعمدوا إلى أباطيل لم يأذن بها الله، يعارضون بها سنته، ويحاولون أن يستنـزلوا بها رزقه، ويستدفعون بها قضاءه.

فهل من سنة الله أن يستنزل الإنسان الرزق أو يستشفي من الداء، أو يستجلب الحب بورقة يكتبها أو تميمة يعلقها به؟!.

وهل من سنة الله أن تبرأ العلل والأسقام بصحاف تكتب وتمحى، ثم تشرب محايتها جرعًا؟!.

وهل من سنة الله أن يعرف السارق بالمصحف يحمل على الأصابع ليدور يمنة أو يسرة؟!.

وهل من سنة الله أن يستخير الإنسان لعمله أو يتعرف الغيب من أمر مستقبله بمسبحة يعد حباتها؟ أو ليس هذا ضربًا من الاستقسام بالأزلام، وقد نهى الله عنه لأنه رجس من عمل الشيطان؟!.

هل من سنة الله أن تعمد إلى العرافين والدجالين تستنبئهم عما كتب القدر في لوح مستقبلك.
وذلك من سر الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.

قال تعالى: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ [الجن: 26 - 27].

وهل من سنن الله أن تبتغي إليه الوسيلة بما لم يأذن به متبعًا سبيل شيوخك؛ وقادة السوء الدجالين الذين لا يهمهم إلا أن تشبع بطونهم، وتفعم جيوبهم سواء عليهم بعد ذلك أآمنت واتقيت أم كنت من الهالكين.

هل من سنة الله إذا اعتدى على وطنك معتد أن تجتمع مع بعض إخوانك المسلمين لتقرأوا سورة يس أو صحيح البخاري لتدفعوا عدوان المعتدي - وربك يقول: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾ [الأنفال: 60].

تلك هي سنة الله التي يجب أن تتبع، فإن اتبعت ما أمرك الله أيدك ونصرك، وإن خالفت وقعت في شر أعمالك، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.

قل للذين يلتمسون الحاجات من البدوي أو الرفاعي أو البيومي أو الدسوقي أو الجيلاني أو شيخهم وملاذهم البكري أو غير هؤلاء ويطلبون إليهم أن يعطلوا نواميس الكون، وينسخوا قوانين الطبيعة، ويبدلوا نظام الله: لقد استسمنتم ذا ورم، ونفختم في غير ضرم، وطلبتم الماء من الصخر؛ والتمستم الماء من عباب البحر.
هيهات هيهات.
لن تجد لسنة الله تبديلًا، ولن تجد لسنة الله تحويلًا.

أتاك دينك بحقائق ثابتة، أثبتها العلم؛ وأيدها البحث، وقام على صحتها كل برهان، فعليك أن تفخر بدينك، وتزهى بشريعتك، وتعلن على الملأ ما فيها من أسرار وتخضع لهذه النواميس العادلة الجادة التي أتت بها، وتنبذ كل خداع يعمل على أن يأكل أموال الناس بالإثم، وهم عن كيده غافلون.

نظام الكون واحد؛ وسنة الله في الكون واحدة؛ ونواميس الوجود لا تتغير ولا تتبدل.

فعلى من يلتمس السعادة في هذا الوجود أن يسلك السبيل التي تفضي إليها، وتهجم به عليها، فإن فعل كان من السعداء المفلحين، وإن نكب عن الطريق السوي وحاد عن النهج الأقوم فقد باء بسخط من الله، وضربت عليه الذلة والمسكنة، وقعد ملومًا محسورًا.

العالم سائر على مقتضى النواميس التي أبدعها القادر العظيم سبحانه وتعالى.
وليس في وسع العظماء والكبراء أن يبدلوا شيئًا من هذه النواميس.
ولو ارتفعوا في الفضل أسمى مقام.
فعلى الأمة أن تعمل على تحسين حالها باستخدام جهودها التي منحها الله، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.

ولا جرم أن هذا الأصل من أقوى الأسباب في حمل الأمم على تلمس سبل السعادة بنفسها، فإن شقاء الأمم وسعادتها من كسب يدها ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ [الشورى: 30].

فإذا تجلت هذه الحقيقة للأمة وجهت قوتها قبل المعالي؛ وعملت على كسب الفضائل، غير معولة إلا على استخدام القوى التي منحها الله ولا متكلة على جاه ذي جاه؛ ولا بركة ذي بركة؛ فالبركة في اتباع كتاب الله الذي يدعو إلى كل سعادة وفلاح.

نسأل الله أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١