التأمل يشحذ الفكرة ويورث اليقين
مدة
قراءة المادة :
13 دقائق
.
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فالتأمل نافع للعبد في معاشه ومعاده وهو خير مُعين على التقوى والموعظة؛ حيث يعرف به العبد معالم الخير والشر، وتترسخ به معاني الإيمان، وهو دليل البصر ورأس رجاحة العقل. وقد نعى القرآن على الكفار والمشركين عدم تنبههم له وغفلتهم عنه مما جعلهم في غيهم يعمهون، ولو تأملوا في عجائب صنع الله - عز وجل - كيف خلق الإنسان، وكيف يحيي الأرض بعد موتها، وتأملوا في آثار الأمم السابقة لكان ذلك حريًا بأن يردهم إلى الصواب ويحملهم على التصديق بالوحدانية والإيمان بالبعث، ولكن أنّى لهم ذلك وقد صاروا كالبهائم التي لا عقل لها فلا تستنبط شيئًا مما تراه الأعين ولو كانوا يعقلون لما فاتهم استخلاص العبر والوصول إلى النتائج. وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد وعندما نتأمل قوله تعالى: {وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا} [الأعراف: 146]، وكيف أن هؤلاء الهلكى عندما يعاينون العذاب يسألون الله الرجعة إلى الدنيا: {ولو رُدوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون} [الأنعام: 28]، أقول عندما نطالع الآيات القرآنية وأحوال البشر لا نملك إلاّ أن ندعوه سبحانه أن يجعل صمتنا فكرًا ونطقنا ذكرًا ونظرنا عبرًا. ولو تدبر الإنسان ما جاء في الكتاب والسنة وأحوال سلف الأمة لأدرك قيمة التأمل ونفعه. القرآن يستحث العباد على التأمل: الآيات الداعية إلى التفكر والتدبر والتأمل كثيرة وعديدة، قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب} [ص: 29]. فليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل فيه وجمع الفكر على معاني آياته فإنها تطلع العبد على معالم الخير والشر بحذافيرهما كما يقول ابن القيم - رحمه الله - . والتأمل يكون في خلق السماوات والأرض، قال تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190]، {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} [يونس: 101]. ويكون فيما تُنبت الأرض: {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير} [الحج: 63]. وقال سبحانه: {والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآية لقوم يسمعون} [النحل: 65]. كما يكون التأمل في أحوال الأمم السابقة يقول تعالى: {أو لم يهدِ لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون} [السجدة: 26]، وقال سبحانه: {أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارًا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون} [غافر: 82]. وقد دُعي الإنسان للتأمل في نفسه، يقول تعالى: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} [الحج: 5]. ويقول تعالى: {أو لم يرَ الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} [يس: 77]. كما دعي للتأمل في أحوال الطير، يقول تعالى: {أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير} [الملك: 19]. وللتأمل في نعم الله وعجائب مخلوقاته، يقول تعالى: {ألم ترَ أن الفلك تجري في البحر بنعمت الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} [لقمان: 31]. وقال تعالى: {بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج.
أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروج.
والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل زوج بهيج.
تبصرة وذكرى لكل عبد منيب .
ونزلنا من السماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد.
والنخل باسقات لها طلع نضيد.
رزقًا للعباد وأحيينا به بلدة ميتًا كذلك الخروج} [ق: 5 - 11]. وقال سبحانه: {أفرأيتم ما تمنون.
أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون.
نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين.
على أن نبدل أمثالكم وننشئكم فيما لا تعلمون.
ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون.
أفرأيتم ما تحرثون.
أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون.
لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكهون.
إنا لمغرمون.
بل نحن محرومون} [الواقعة: 58 - 67]. والتأمل هو حال النّبيّ صلى الله عليه وسلم: عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما قال: «بِتُّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: «{إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} [آل عمران: 190]»، ثم قام فتوضأَ واستنّ فصلى إحدى عشرة ركعة ثُمَّ أذَّن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى الصبح» [رواه البخاري ومسلم]. وعن حذيفة رضي الله عنه قال: «صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فافتتح البقرة، فقلتُ: يركع عند المئة، ثم مضى، فقلت: يصلي بها في ركعة.
فمضى، فقلت: يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأها، ثم افتتح آل عمران فقرأها.
يقرأ مترسلاً، إذا مرّ بآية فيها تسبيح سبَّحَ، وإذا مرَّ بسؤال سأل، وإذا مرّ بتعوذ تعوّذ ...
الحديث» [رواه مسلم]. وفي قصة بدء الوحي: «...
قال ورقة بن نوفل: يا ابن أخي، ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما رآه.
فقال له ورقة: هذا الناموس الذي أُنزِل على موسى صلى الله عليه وسلم، يا ليتني فيها جَذَعًا، يا ليتني أكون حيًا حين يُخرجك قومك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أوَ مُخْرجيَّ هُم؟» قال ورقة: نعم، لم يأتِ رجُلٌ قطٌّ بما جئت به إلاّ عُودِيَ، وإن يُدركني يومُك أنصُركَ نصْرًا مُؤزرًا» [رواه البخاري ومسلم]. التأمل هو حال العلماء والصالحين: كان لقمان يُطيل الجلوس وحده، فكان يَمُرُّ به مَوْلاه فيقول: يا لقمان، إنّك تُديمُ الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك.
فيقول لقمان: «إن طول الوحدة أفهم للفكر، وطول الفكر دليل على طريق الجنة». وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا تلا هذه الآية: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله} [الحديد: 16]، قال: بلى يا رب، بلى يا رب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «ركعتان مقتصدتان في تفكُّر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب». وعن عبد الله بن عتبة قال: سألت أمّ الدرداء، ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: «التفكر والاعتبار» . بينا أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنَّع بكسائه، فجعل يبكي، فقيل له: ما يُبكيك؟ قال: «تأمّلتُ في ذهاب عمري وقلّة عملي واقتراب أجلي» . وعن عامر بن عبد قيس قال: «سمعت غير واحد ولا اثنين ولا ثلاثة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: إن ضياء الإيمان أو نور الإيمان التفكر» . كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: «اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به، والندم على الشر، يدعو إلى تركه، وليس ما يفنى - وإن كان كثيرًا - يعدل ما يبْقى، وإن كان طلبُهُ عزيزًا، واحتمال المؤونة المنقطعة التي تُعْقِب الراحة الطويلة خير من تعجيل راحة مُنقطعة تُعْقِب مؤونة باقية» . وعن الحسن - رحمه الله - قال: «تفكر ساعة خيرٌ من قيام ليلة» . وقال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: «التأمل في نعم الله - عز وجل - من أفضل العبادة» . وقال سفيان بن عيينة - رحمه الله - : إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة وعن محمد بن كعب القرظي قال: «لأن أقرأ في ليلتي حتى أُصبح بـ«إذا زُلزلت والقارعة» لا أزيدُ عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إليَّ من أن أهُذّ ليلتي هذًّا - أو قال - : أنثره نثرًا». قال أبو نواس: تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك عيون من لُجَين شاخصات بأحداق هي الذّهب السّبيك على قُضُب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك وقال الفضيل: «إنما نزل القرآن ليُعمل به فاتّخذ الناس قراءته عملاً.
قال: قيل: كيف العمل به؟.
قال: أي ليُحِلُّوا حلاله، ويحرموا حرامه، ويأتمروا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه، ويقفوا عند عجائبه». قال الشيخ أبو سليمان الدَّارانيُّ: «إني لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلاّ رأيت لله فيه نعمة ولي فيه عبرة» . وقال بشر بن الحارث الحافي: «لو تفكّر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل». قال مُغيث الأسود: «زُوروا القبور كلَّ يوم تُذكِّركُمُ الآخرة، وشاهدوا الموقف بقلوبكم، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو إلى النار، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار، ومقامعها وأطباقها.
وكان يبكي عند ذلك حتى يُرفع صريعًا من بين أصحابه قد ذهب عقلُهُ» . قيل لإبراهيم بن أدهم: إنك تطيل الفكرة.
فقال: «الفكرة مخ العقل». فعلى العاقل أن يتأمل في أحوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف ساروا على ظهرها حينًا ثم ابتلعتهم في جوفها حينًا آخر، ويتفكر في نفسه والغاية التي خُلق لأجلها ويتمثل قول القائل: إنّ لله عباداً فطــنًا طلقوا الدنيا وخافواالفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحيٍّ وطـنا جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنًا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.