أرشيف المقالات

عاد بعاث ونحن في العثاث!

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
2عاد بعاث ونحن في العثاث!
مقدمة: إنَّ الحمد لله تعالى نحمده، ونستعينه ونستغفِره، ونعوذ بالله مِن شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَه بإحسان إلى يوم الدين.   بين يدي المقال: يتناول المقالُ حالة العربِ قبل الإسلام، وما ظهر بينهم مِن قتال وتطاحُن؛ بسبب وجود اليهود بينهم، وغفلتِهم عن مكرهم وكيدهم، فهم مَن أوقد نار الحرب المُستَعِرَة، التي طال أَمَدُها بين الإخوة والعشيرة، حتى جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأطفأ هذه النارَ وأخمدَ لهيبَها، وأعاد المياه لمجارِيها، بما ألهمه الله تعالى من حكمةٍ بالغة، ومَدَدٍ عجيب من الوحيَيْنِ، كان مددًا من النور الذي أنزل الله به السكينةَ التي صلَح بها حالُ العالَم بأكمله، (وأقول: السكينة؛ لأن الفوضى والاضطراب والهَرْج في الحياة سببٌ للزوال والانقراض، لا للامتداد الذي هو مِن مراد الله في خلقه)، ثم استدار الزمان وعاد العربُ لِما كانوا عليه من الحروب والفتن والفساد!   فما المَخرَج؟ بُعاثٌ: موضع قرب يثرب. العِثَاث: صوت الغناء المرتفع المترنَّم به. معنى عنوان المقال: عادَتِ الحروبُ والفتن بين العرب كما كانت في الجاهلية، ونحن في سَكْرةٍ من الملذَّات والشهوات، والمعازف والقَيْنات. يوم بعاث: هي آخر معركةٍ مِن معارك الأَوْس والخزرج بالمدينة - يثرب - قبل هجرةِ الرسول صلى الله عليه وسلم.   وبُعاث - (بضم الباء) - وقعت قبل الهجرة بخمس سنوات، وتُعَدُّ أشهرَ وأدمى معركةٍ بين اليَثْربيِّينَ وآخرها؛ إذ أخذَتْ بهم الأحقاد والضغائن - التي كان سببها اليهود - إلى أن أخذوا يستعدُّون لها ويُعِدُّون قبل شهرين - وقيل: 40 يومًا - من وقعتها.   سبب المعركة: كانت بداياتُ واقعة بُعاثٍ أنْ عَلِمَتِ الخزرجُ أن بني قُرَيظة وبني النَّضير يعاونون الأَوْسفي معاركهم، فأرسَلوا إليهم أن ينتَهُوا عن ذلك ويُخَلُّوا بينهم وبين الأوس، ودارَتْ بينهم مفاوضات، وانتهى الأمر إلى قتل الخزرج لرهائن - أربعين شابًّا - بعَثها اليهود من أجل الاطمئنان والسلام، والقصة معروفة.   وهنا فاضتِ الكأسُ، واشتد البأس، ورُفِع الفأس، وضُرِب الرأس، ولم يتوانَ بنو النَّضِير وبنو قُرَيظة عن إعلان مُحاربة الخزرج يدًا بيد مع الأوس، وهاجت بهم سُيُول الحقد، ودفعت بهم لبحرٍ مِن الدمِ والهمِّ.   نعمة الإسلام: تتجلَّى نِعَمُ الله تعالى بأضدادها، فتُعرَف نعمة الأمن والسلم والعافية لَمَّا يشتد بالناس بأسُ الحروب، وينتشر الخوف والفزع، ويظهر الهَرْج والمرج، ويكون دَيْدَن الناس حينها وجود ركن يَأْوُون إليه يتنفَّسون فيه الصُّعَداء.   واللهُ جل وعلا جعل مِن سننِه في خلقه أن النَّعيم يُدرَك بالمشقة، وحلاوته تُستلَذُّ بعد الشِّدة، وأن بعد العسر يسرًا، وكل جديد تُستلَذُّ طرائفُه - أو كما قال الشاعر -: فما لجديدِ المَوْتِ يا بِشرُ لذَّةٌ *** وَكُلُّ جَديدٍ تُستَلَذُّ طَرَائِفُهْ
وهذه الوقائع المُؤلِمة هي التي كوَّنت رجالًا صناديدَ أشدَّاء، كانوا عونًا للإسلام وسندًا للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام.   وتجلَّى مدى تأثيرِ تعاليم الإسلام على واقع الناس في الحالتين، خاصةً في مثل هذه الحالة من الحروب والفتن التي حاول الكُبَراء والأمراء والحكماء والأدباء إطفاءَ لهيبها، فما استطاعوا لذلك سبيلًا! وعليه؛ لَمَّا تتدخل هذه اليدُ مِن الأيادي الفاضلة التي أبدعت صلحًا شهد له الإنس والجنُّ بأنه الأفضل والأنبل والأمثل، فهنا تأتي نقطة التحوُّل البشريِّ.   هذه اليدُ التي بسَطها النبيُّ صلى الله عليه وسلم للعفوِ والصلح، واستطاع من خلالها أن يُعِيدَ الأمور لمجراها، رغم مرور السنين العِجاف التي زرعت الحقد والغلَّ والضغينة في القلوب - هي اليدُ التي تبقى ممدودةً في كل زمان ومكان لَمَّا يشتد بالناس بأس الحروب، وتضيق عليهم الحياة بما رَحُبَت، ويُفتِّشُون عن الملجأ وعن المخرَج.   بعد الهجرة: ولما أصلح النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين الإخوة الأعداء، وبيَّن سبب ما كان بينهم من وِشاية اليهود التي أوقعتهم في نار الأحقاد، التي أكلت قلوبهم، ومزَّقت جؤوشهم - طيَّب النبيُّ صلى الله عليه وسلم خواطرَهم، وقتل الحَميَّة الجاهلية، ودفنها بيدَيْه الشريفتينِ؛ فهي ميتةٌ، فمَن حاول إحياءها فهو ملعونٌ بلعنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.   وقد سَمَّى النبيُّ صلى الله عليه وسلم هؤلاء المتخاصمين - بعد الهجرة -: الأنصار، وآخَى بينهم، وسكن المدينةَ بلادَهم، ومات ودُفِن بينهم، فمثواه شاهدُ عِيانٍ على ما في الإصلاح والوفاء من شأن في أمة الإسلام.   الملاحظة: عظمة الإسلام في هذه الوقفة تمثَّلَت في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي انتصرت دعوتُه، وعلا شأنها، وامتدَّت دولتها، وفُضِّلت أُمَّتُه بسبب الإصلاح.   المدينة المنورة التي أبى الله إلا أن تكونَ مأواه ومثواه، وأبى إلا أن يكونَ سُكَّانُها هم مَن آوَوْه ونصَرُوه - قدِم إليها النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأول أمرٍ بدأ به كعملٍ لإرساءِ قواعدِ دولةِ الإسلام هو الدعوة للأُخوَّة؛ حيث آخى بين الناسِ، وأصلَحَ بين المتخاصمين، وألَّف بين القلوب، ودعمه الله جل وعلا بدعائمَ لترسيخِ هذه الروابط التي شدَّ بها أفراد الأمَّة، تمثَّلَت في أركان الإسلام؛ من صلاة، وزكاة، وحج، وصيام؛ فالصلاة للجَمْع، والزكاة للجمع، والصيام للجمع، والحج للجمع، والويلُ كلُّ الويل لمن خالَفَ مرادَ الله في جمع الأمة ولمِّ شتاتها.
زبدة المقال: عاد يومُ بُعَاث وعادَتِ العربُ لِمَا كانت عليه من التشتُّت والتشرذُم، والاقتتال والتمزُّق، وبلغ الفسادُ الخلُقيُّ ذروتَه، كما كان عليه في الجاهلية الأولى؛ بل أشد، وأصبحت القَيْنات والمعازف هي دَيْدَنَ كثيرٍ مِن المسلمين، (ومعنى الغناء هي السكرة التي حجبتنا عن معرفة ما يدور من حولنا مِن كيدٍ لليهود والنصارى وأعداء المِلَّةِ والدين).   ولا نبيَّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن هما الوحيانِ - كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم - وإلزاميةُ التحاكم إليهما، والرجوع لتطبيق أحكام الشريعة تطبيقًا مفعمًا بإيمان صادق بأنْ لا ملجأ من الله إلا إليه، ولا خلاصَ لنا ولا مناص - نحن العرب خاصة، والمسلمين عامة - إلا بعودتنا لنهج السلفِ الصالح من أمَّتنا رضي الله عنهم، والدعوةِ لإصلاح ذات البَيْن، مِن قِبَلِ وَرَثة النبي صلى الله عليه وسلم من العلماء والمصلحين، وهو عين فلاح الأمة كما بيَّنه الباري سبحانه وتعالى في كتابه: ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ [الأعراف: 170].   وصية نبينا صلى الله عليه وسلم: عن أبي نجيح العِرباض بن سَارية رضي الله عنه قال: "وعَظَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم موعظةً وَجِلَتْ منها القلوب، وذرَفَت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنَّها موعظةُ مُودِّعٍ، فأَوْصِنا! قال: ((أُوصِيكم بتقوى الله، والسمعِ والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبدٌ؛ فإنه مَن يَعِشْ منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنة الخلفاء الراشدين المَهْديِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذِ، وإيَّاكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كل بدعة ضلالةٌ))؛ رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.   اللهم أبرِمْ لأمَّتِنا إبرامَ رشدٍ وهداية، وإبعاد مِن كل زيغ وضلال وغَواية. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.




شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢