أرشيف المقالات

حقيقة يخفيها الطاعنون في صحيح البخاري

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .
2حقيقة يخفيها الطاعنون في صحيح البخاري
كل حديث في صحيح البخاري قد تابعه على روايته غيره من أقرانه أو شيوخه أو شيوخ شيوخه، وكذلك تابعه على روايته من جاء بعده من غير طريقه.   هذه الحقيقة يخفيها الطاعنون في صحيح البخاري، ويوهمون العوام الذين يسمعون لهم أن البخاري تفرد برواية الأحاديث التي في صحيحه، وأنه افتراها، ويخفون عن الناس هذه الحقيقة التي يكرهون ظهورها؛ لأنها تبطل كل كلامهم في الطعن في أي حديث في صحيح البخاري، وذلك لأن البخاري لم يتفرد برواية أي حديث، ولا يخفى على طلاب العلم والباحثين أن كل الأحاديث التي في صحيح البخاري موجودة في كتب غيره من علماء الحديث، وبعض تلك الكتب كانت مصنَّفة من قبل أن يُخلق البخاري، فلا يصح الطعن في البخاري من أجل حديثٍ هو موجود في كتب غيره من مشايخه أو مشايخ مشايخه أو أقرانه.   ومن كتب الحديث التي كانت موجودة من قبل أن يؤلف البخاري صحيحه: جامع معمر بن راشد، وموطأ مالك، ومسند عبد الله بن المبارك، ومصنف عبد الرزاق الصنعاني، ومصنف ابن أبي شيبة، ومسند إسحاق بن راهويه، ومسند أحمد بن حنبل، وغيرها من الكتب المطبوعة.   وبعض هذه الكتب موسوعات كبيرة جدًّا، فيها من أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام وأقوال أصحابه والتابعين وأخبارهم الشيء الكثير.   فمثلاً مصنف عبد الرزاق الصنعاني عدد أحاديثه (19418) أي: ما يقارب عشرين ألف حديث، منها المرفوع إلى النبي والموقوف على الصحابي والمقطوع عن التابعي أو أتباع التابعين، ومصنف ابن أبي شيبة عدد أحاديثه المرفوعة والموقوفة والمقطوعة (37943)، ومسند أحمد بن حنبل عدد أحاديثه (27647)، وغالبها أحاديث مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها الصحيح والضعيف، وكثير منها مكرر، وهؤلاء الثلاثة كلهم قبل البخاري، فعبد الرزاق الصنعاني توفي سنة 211 هجرية، وهو من مشايخ شيوخ البخاري، وابن أبي شيبة توفي سنة 235 هجرية، وهو من مشايخ البخاري، وأحمد بن حنبل توفي سنة 241 هجرية، وهو أيضا من مشايخ البخاري.   أما البخاري المتوفى سنة 256 هجرية، وتلميذه مسلم المتوفى سنة 261 هجرية فقد اقتصرا في صحيحيهما على أصح الأحاديث النبوية، فعدد أحاديث صحيح البخاري (2500) حديث تقريباً بدون تكرار، وعدد أحاديثه مع التكرار (7563)، وعدد أحاديث صحيح مسلم (3033) حديث بلا تكرار.   ولنتكلم عن كتاب واحد من الكتب التي كانت من قبل أن يوجد البخاري، وهو كتاب ((جامع معمر بن راشد))، ومؤلفه معمر بن راشد ولد في أواخر القرن الأول الهجري سنة 95 هجرية، وطلب العلم وكتب الأحاديث في حياة كثير من التابعين الذين رأوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، واشتمل كتاب جامع معمر على 1645 حديثاً، بعضها مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبعضها موقوف على الصحابة رضي الله عنهم من أقوالهم وأفعالهم وأخبارهم، وبعضها من أقوال التابعين في التفسير والفقه والزهد والآداب، وأسانيد معمر عالية، فبينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم راويان أو ثلاثة فقط، فهو يروي عن الزهري عن أنس بن مالك، ويروي عن قتادة عن أنس، ويروي عن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي، ويروي عن همام بن منبه اليماني عن أبي هريرة، ويروي عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب، ويروي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس، ويروي عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس، ويروي عن عبد الله بن طاوس اليماني عن أبيه عن ابن عباس، ويروي عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة.   واعلم أن البخاري ولِد بعد موت معمر بأمد طويل، فإن معمراً توفي سنة 154 هجرية، والبخاري ولد سنة 194 هجرية، أي: بعد وفاة معمر بـ 40 عاماً، فنقول لمن يوهِم العوام أن البخاري هو أول من دون الأحاديث: قد دوَّن الحديث شيوخ البخاري وشيوخ شيوخه وشيوخ شيوخ شيوخه، فإن معمر بن راشد من شيوخ شيوخ البخاري، وكتاب جامع معمر مطبوع لمن أراد أن ينظر فيه.   وقد روى البخاري وكذلك مسلم في صحيحيهما كثيراً من الأحاديث التي في جامع معمر، إما من طريق معمر أو من طريق بعض قرناء معمر أو من طريق بعض شيوخه أو من طريق شيوخ شيوخه، ونجدها موافقة تماماً لما في جامع معمر، وهذا يدل على إتقان البخاري ومسلم، ولنذكر مثالاً يوضح ذلك، فبالمثال يتضح المقال: قال معمر بن راشد كما في جامعه المطبوع في آخر مصنف عبد الرزاق رقم (19656): عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وعن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لله تسعة وتسعون اسما مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)).   فهذا الحديث رواه معمر عن شيخه أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة، ورواه معمر أيضاً عن شيخه همام عن أبي هريرة، فلمعمر في هذا الحديث إسنادان، الأول بينه وبين النبي ثلاثة رواة، والثاني بينه وبين النبي راويان فقط.   وقد روى هذا الحديث مسلم في صحيحه رقم (2677) من طريق معمر نفسه، قال الإمام مسلم: حدثني محمد بن رافع، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة، وعن همام بن منبه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)).   فانظر موافقة ما في صحيح مسلم لما في جامع معمر في المتن والإسناد! وقد روى البخاري هذا الحديث من غير طريق معمر، قال الإمام البخاري في صحيحه رقم (7392): حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله تسعة وتسعين اسما، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)). فهذا الحديث رواه البخاري في صحيحه من طريق شيخ شيخ معمر، وهو الصحابي أبو هريرة نفسه.   وهذا الحديث موجود في صحيفة همام بن منبه (ص: 36) رقم (33) قال همام: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)).   وصحيفة همام أقدم كتاب حديث موجود لدينا، فإن همام بن منبه رحمه الله توفي سنة 131 هجرية، أي: قبل ولادة البخاري بـ 63 سنة، وقد اشتملت صحيفة همام على (138) حديثاً، يرويها همام عن أبي هريرة مباشرة، وهذا الحديث في صحيح البخاري كما في صحيفة همام.   وروى هذا الحديث أيضاً إسماعيل بن جعفر كما في حديثه رقم (168) قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لله تسعة وتسعون اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة)).   وإسماعيل بن جعفر رحمه الله توفي سنة 180 هجرية، أي: قبل أن يولد البخاري، وهو من شيوخ شيوخ البخاري، وله كتاب حديث صغير مطبوع باسم أحاديث إسماعيل بن جعفر، عدد الأحاديث فيه (477).   وقد روى هذا الحديث أيضاً محمد بن فضيل بن غزوان الضبي المتوفى سنة 195 هجرية في كتابه الدعاء (108) فقال رحمه الله: حدثنا داود بن أبي هند، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن لله مائة اسم غير واحد, من أحصاها دخل الجنة)).   وقد روى هذا الحديث أيضاً الحميدي رحمه الله، قال الحميدي في مسنده (1164): حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا أبو الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة غير واحد، من حفظها دخل الجنة)).   والحميدي هو عبد الله بن الزبير بن عيسى القرشي، المتوفى سنة 219 هجرية، وهو من أشهر مشايخ البخاري، وللحميدي مسند مطبوع، وعدد أحاديث مسنده (1337).   وروى هذا الحديث أيضاً الإمام أحمد بن حنبل في مسنده رقم (7502)، قال أحمد رحمه الله: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد بن إسحاق، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً، مائة غير واحد، من أحصاها دخل الجنة)).   ونلاحظ أن الحديث الذي رواه البخاري من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قد رواه الحميدي وأحمد بن من نفس الطريق التي رواها البخاري، أي: من طريق أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة.   ونكتفي بهذا، ولو أردنا أن نجمع كل من وافق البخاري على رواية هذا الحديث من أقرانه وممن جاء بعده لطال البحث جدًّا، وفيما ذكرناه كفاية، وأنصح كل طالب علم أو باحث أن يبحث بنفسه عن أي حديث في صحيح البخاري، لينظر كثرة من يوافقه من المحدثين على رواية كل حديث، وهذه طريقة نافعة جدا لتدريب الطلبة على البحث، وتعريفهم بهذه الحقيقة بطريقة عملية، وكم هو نافع أن تُعقد دورة لطلاب العلم وللمثقفين في أي مكتبة عامة، حتى يعرف عامة الناس هذه الحقيقة العلمية العظيمة، فلا يستطيع أحد بعدها أن يشككهم في صحيح البخاري؛ لأنهم حين يرون بأنفسهم توافق الأسانيد والمتون في كتب الحديث الكثيرة يزدادون طمأنينة.   وبهذا يتبين أن الإمام البخاري رحمه الله لم يتفرد برواية أحاديث صحيحه، ولو أن البخاري لم يُخلق فالأحاديث الصحيحة محفوظة في كتب غيره من علماء الحديث، الذين كانوا قبله أو عاشوا في زمنه أو جاؤوا من بعده، فلا معنى لأي طعن في صحيح البخاري، والحمد لله رب العالمين.



شارك الخبر