أرشيف المقالات

الثلاثة في الغار وأنفسهم الزكية

مدة قراءة المادة : 4 دقائق .
2الثلاثة في الغار وأنفسهم الزكية   إن موقف الثلاثة الذين كانوا في الغار لم يكنْ سهلًا أبدًا؛ لأن عمل كل واحد منهم كان مبنيًّا على إيمان حقيقي صادق، قلَّما أن تجد مثلَه في قلوبنا!   وإن البحث عن إيمان مثل إيمانهم أو خشيةٍ لله مثل خشيتهم له، لَيَحْتاجُ إلى صبرٍ طويلٍ، ومجاهدةٍ للنَّفْس ولهواها بدرجةٍ أشد!   ♦ فمن يقوى على أن يمسك نفسَه عن الوقوع في الفاحشة وهو يجلس من امرأةٍ ما مجلسَ الرجل من زوجه، وما كان بينه وبين الوقوع بها حائلٌ يحول، أو مانعٌ يمنع، اللهم إلَّا خشية وتقوى أحكمت رباطَ جأشِه، وكلمة ذَكَّرَتْه بالله، فقام عنها خائفًا من فتنة كادت أن يسقُطَ فيها، فيستحق سخط ربِّه فأعطاها المال، وقام عنها مستغفِرًا مُنيبًا، فاستحقَّ الثناءَ من ربِّه، وأجزل له العطاءَ بتفريج كُرَبه ومغفرة ذنبه!   ♦ ومَنْ يقوى أن يصبرَ ليلةً كاملةً واقِفًا على قدمه، يتألم بعد يوم شديد الإرهاق من العمل والسعي وراء أراضي الكلأ؛ لرعي غنمه، وطلب رزقه من ربِّه، ربما رَمَلَ أو سعى أميالًا؛ لأن في الحديث إشارةً إلى أنه قد تأخَّر لبُعْد موطن الرعي عن بيته، فهذا أدعى لكثرة الإرهاق، والنوم للراحة بعد شدة العناء؛ ولكنه آثرَ بِرَّ أبويه، والصبر على طاعتهما؛ ابتغاء رضا من الله يرجوه، وتحمَّل آلامَ قلبه، وهو يسمع أنِينَ أطفاله، وصرخات أبنائه جوعًا، وهم ذوو بطون خاوية، يتقلَّبُون تحت قدمه، يستجدونه طعامًا أو شربةَ لبَنٍ من التي يحملها في يده، ويقف إلى جوارهم، ينظر إليهم وإلى أبويه، فاختار رضاهما وجَنَّبَ رضاه، ولم يرِقَّ قلبُه لألمه، ولا ألم أبنائه؛ وإنما كان بعيدَ النَّظَر والغاية!   ♦ ومَنْ يقوى أن يحفظ مالًا تُرِكَ عنده، تركَه أجيرٌ له كان يعمل عنده؛ إمَّا قصدًا وإمَّا نسيانًا، أجيرٌ مجهولٌ لا يعلم أرضه ولا قراره، فيستثمره له ويُنمِّيه أحسن ما يفعل المرء في ماله الخاص، حتى يصير واديًا من الأنعام والخير، في مدَّة يسيرة، ولم يأخذ منه شيئًا لِقاءَ تنميته له؛ فحينما جاءه الأجيرُ مُطالبًا بأُجْرته، أعطاه كامل الوادي دون تردُّدٍ أو تفكيرٍ في عرقه الذي سقط، أو جهده الذي بذل؛ وإنما استشعر أنها أمانةٌ واجبةُ الردِّ، وعهد واجب الوفاء، وأنها قرضٌ ثقيلٌ واجب السداد، وأنه حقٌّ للغير مُستحَقُّ الأداء، فردَّ وأوفى وسدَّد وأدَّى، ثم رغم كل هذا يلتبس قلبه بأسًى على ما قدَّمَ، أو ندم على ما بذل!   إن الثلاثة الذين حُبِسُوا في الغار كانوا رجالًا من نوع خاصٍّ، وليسوا مجرد رجال عاديِّين، رجال علموا حقَّهم وواجبَهم، اتَّقَوا اللهَ في أسرارهم وعلانيَّتهم، فما كان البلاء عليهم إلا على قَدْر إيمانهم، فكان من كل واحد منهم سريرة عظيمة النَّفْع، وحسنةٌ كثيرةُ الخير، وتقوى واضحة الأثر!   وإن من أشدِّ الأسئلة قسوة على النفس أن يسأل الإنسان نفسه عن عمل عمله خالصًا لله دون شُبْهة رياء أو عُجْب، وبقلبٍ خالص لله وحده.   فما أحوجنا إلى سريرة حسنة، فيها تقوى لله وخشية، نرجو الله بها في مصائبنا ومُلِمَّاتِنا!



شارك الخبر