أرشيف المقالات

تعرف على الله

مدة قراءة المادة : 5 دقائق .
تعرف على الله

 
الحمد لله، وبعد:
فأيُّ لذَّة تقارب لذَّة معرفة الله تعالى؟ وأي مَعرفة تعدل معرفة الله تعالى؟
فهي حياة القلب، وأُنسه وسعادته، بل لا تحلو الحياة ولا تَصفو إلَّا بمعرفة الله تعالى، وعلى قَدر المعرفة تكون السعادة؛ (فاللذَّة التامَّة، والفرح والسرور، وطيب العيش والنعيم، إنما هو في مَعرفة الله وتوحيده، والأنس به، والشوق إلى لقائه، واجتماع القلب والهم عليه)[1].
 
فكم سعادة مَن عرف الله تعالى رازقًا حافظًا، غنيًّا كريمًا، رحيمًا رقيبًا، سميعًا بصيرًا، قريبًا شكورًا ودودًا، يجيب دعوة المضطر، ويَكشف السوءَ، له الملك، يعلم السرَّ وأخفى، (يسمع ويرى، ويعطي ويمنع، ويثيب ويعاقب، ويكرم ويهين، ويخلق ويرزق، ويميت ويُحيي، ويقدر ويقضي، ويدبر الأمور نازلة من عنده دقيقها وجليلها، وصاعدة إليه، لا تتحرَّك ذرَّة إلا بإذنه، ولا تسقط ورقة إلَّا بعلمه)[2]!
 
وقد تعرَّف سبحانه وتعالى لخلقه بأسمائه وصفاته، وآلائه ونعمه، وأفعاله وحكمه وقضائه، وأمره ونهيه؛ ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ [البقرة: 255]، ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ﴾ [الأنعام: 103].
 
ومن ذا يصِف أو يشف عن حقيقة معرفة الله؛ فمهما وصَف أو كشَف فلا مُنتهى لمعرفته، والقلوب فيها تجول وتَصول، وتختلف الأحوال من قلبٍ لقلب ومن وقت لوقت، وتفاوتُ الأحوال فيها لا يعرفه إلَّا مَن القلوب بيده.
وقد قيل فيها: "إنَّ في الدنيا جنَّة؛ مَن لم يدخلها، لا يَدخل جنَّةَ الآخرة".
 
فيا باحثًا عن وصفة سَعادة لا مرارة فيها، وعن ساعة راحة لا ضَنك معها، وعن حياة هنيَّة لا ملَل منها؛ عليك بفَسيح جنَّة معرفة الله تعالى، فابحث عن طريقها، واعقد العزمَ على السَّير فيها، وابذل لأجلها راحةَ بدنك ولبَّ شغلك - ولن تصِل إلى منتهاها - فلا تستطل الطريق، لكنَّك ستذوق حلاوتَها من أول خطوة تخطوها.
 
معرفة الله تعالى أبرَد من ثلج على حرِّ قلب في جوف صحراء في ظهيرة صيف، وأصفى من لبن في أنظَف كوب من أنقى زجاج لِغليل.
 
تعرَّف على الله لتسعد بحياتك، وتعيش قريرَ العين مرتاحَ البال، مهما كان وضعك المادِّي أو مستواك المعيشي، فهي غنًى لمن كان فقيرًا، وعافية وأي عافية لمبتلى، وأُنس مهموم، وأمان خائف، ونور بصيرة.
 
تعرَّف على الله يَعرفك، تعرَّف عليه في السرَّاء يعرفك في الضرَّاء، تعرَّف عليه في الفرح يعرفك في الحزن، تعرَّف عليه في الرَّخاء يعرفك في الشدَّة، تعرَّف عليه شابًّا قويًّا يعرفك شيخًا ضعيفًا.
 
تعرَّف على الله واعرف حقَّه عليك وواجبك نحوه، تعرَّف على الله معرفةً تدلُّك عليه وتقرِّبك منه، فتزداد تعظيمًا وحبًّا، وطاعة وعبودية.
 
وحتى تبلغ منزلةَ المعرفة؛ عليك بمداومة النَّظر والتأمُّل في كلام الله تعالى، فتتجلَّى لك صفاتُه المثلى وأسماؤه الحسنى، فتعرِّفك بربِّك تعريفًا لا تجده في غيره، يشفي عليلك، ويَروي ظمأ غليلك، ويشبع نهمة فؤادك.
 
تدبَّر في القرآن الكريم كيف يتحدَّث الله سبحانه وتعالى عن نفسه وذاته، تدبَّر سَعةَ رحمته، وواسع علمه، وإحاطته بخلقه.
 
والعلم بالأسماء الحسنى: معانيها، آثارها، دلالتها - من أوسع أبواب معرفة الله تعالى.
 
وإن تأمَّلتَ في بديع خلق الله في كونه، تجِد عجبًا، كل شيء يدلُّ عليه ويعرِّف به:
وفي كلِّ شيء له آية ♦♦♦ تدلُّ على أنَّه الواحِد
 
وفي نفسك أنت - نفسك التي بين جنبيك - آية بل آيات تعرِّفك بربِّك، وتدلُّك عليه؛ فتفكَّر وتدبَّر، وتعقَّل وتبصَّر وتسمَّع، فما فيك وما حولك خَلقٌ من خلقه، وما غاب عنك أعظم.
جالِسِ العارفين يدلُّوك عليه، واسمع كلامَ السابقين عنه يقرب فهمك ويتهيَّأ قلبك، واستعن به على معرفته بدُعاء صادق خالص، خالٍ من أي مانع للإجابة.
 
داوِم على ذِكره، وحافِظ على أوامره، واجتنب نواهيه، تَسعد بالقرب منه.
تعرَّف على الله يَعرفك أحوج ما تكون محتاجًا إليه.
والحمد لله وصلى الله على عبده ورسوله محمد وسلم.
 

مراجع في الموضوع:
1- "مدارج السالكين"؛ لابن القيم.
2- "الفوائد"؛ لابن القيم.
3- "جامع العلوم والحكم"؛ لابن رجب.



[1] رسالة ابن القيم إلى أحد إخوانه (ص: 29).


[2] "الفوائد"؛ لابن القيم (ص: 28).

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير