أرشيف المقالات

كلمة عن العقل

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
كلمة عن العقل

الحمد لله الذي أحكم الأشياء بقدرته، ورتَّبها بحكمته، وسيَّرها بمحض إرادته، وكلُّ شيء عنده بمقدار، أستغفره وأشهد أن لا إله إلا الله، أحبَّ عبدًا فكَّر في آياته فاعتبر، وأشهد أن سيدنا محمدًا رسول الله، شاهد ما شاء الله من العجائب والعِبَر، صلِّ اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أفضل مَن ذَكَر ربه وشَكَر، وكانوا حقًّا على أصفى القلوب وأضوأ الأفكار، أما بعد:
فيا أيها العاقل، تعالَ معي نتذاكر شيئًا مِن صنع الحكيم العليم؛ عسى أن يهديَنا جميعًا ربُّ العالَمين، ويفتحَ لنا بابًا مِن أبواب فضله المبين، ويرشدنا إلى طريق الأبرار، ولستُ واللهِ آتيك بشيء يقصر عنه عقلُك، أو يحار فيه فهمُك، أو يغيب به رشدُك، إنما هو شيء إن لم تلمسْه اليد تُحِط به الأبصار.
 
لله خلقٌ كثير لم يُحط بعلمهم إلا هو:
لكن منه ما شاهدناه عيانًا؛ كالسماوات والأرضِ، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والشجر والدوابِّ، والبحار والأنهار.
ومنه ما علِمناه علم اليقين؛ حيث أخبرنا به العزيز العليم؛ كالعرش والكرسيِّ، والقلم واللوح، والملائكة والجن، والجنة والنار.
فهنيئًا لمن نَظَرَ وتدبَّر، وعلم أنَّ مَن خَلَقَ هذا الخلقَ عليٌّ عظيم، قدير حكيم، رؤوف رحيم، عزيزٌ قهار.
وكثيرًا ما نبَّهَنا اللهُ إلى عجائبِ مخلوقاته، وأرشدنا إلى بدائعِ مصنوعاتِه؛ كي نكونَ منه خائفين، وإليه راجعين، وفيه راغبين، وبه مستجيرين من الوساوس والأغيار؛ فقد قال في محكم كتابه: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20].
 
وقال عزَّ شأنُه: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، وحقًّا إن في أنفسنا من بديعِ التركيبِ، وجميلِ النظامِ، وحسنِ التصويرِ - ما يوهن العقولَ، ويورث القلوبَ الخشية والاعتبار، ولكن أي القلوب؟!
أقلوب تواردت عليها الظلمات فسوَّدتها، وتتابعت عليها المنكرات فحجرتها، وألمَّت بها مكايدُ الشيطان فحجبتها؟ أم قلوب خشَعت فصَفَتْ، فتلألأت فيها الأنوار؟ تلك قلوب في الله راغبة، ومنه راهبة صادقة، وإليه متضرعة بالليالي والأسحار.
الحق أننا غافلون، وعن آيات الله ساهون، والعجب أننا في رضا الله طامعون، ونحن عن ذكره مُعرضون، وبدل الإقبال في إدبار.
فاللهَ اللهَ عباد الله، هبُّوا إلى صالح الأعمال، وخافوا بطشَ ذي الجلال، واحذروا شيطانًا يُطوِّل لكم الآمال، وينسيكم خوف الكبير الجبار.
 
اللهَ اللهَ عباد الله، استيقظوا مِن رقدتكم، وتنبَّهوا مِن غفلتكم، وأخلِصوا أعمالكم، وطهِّروا قلوبَكم، وراقبوا مَن يقول: ﴿ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ﴾ [الرعد: 10].
اللهَ اللهَ عباد الله، ارجِعوا إلى ربكم، وابكوا على ذنوبكم، وقولوا: ﴿ رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ ﴾ [آل عمران: 193].
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((تفكَّروا في خلق الله، ولا تفكَّروا في الله فتهلكوا)).
وقال صلى الله عليه وسلم: ((بادروا بالأعمال سبعًا؛ هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنى مُطغيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال؛ فشرُّ غائب يُنتظر، أو الساعة، فالساعة أدهى وأَمَرُّ)).
 
إن سعادةَ المرء وكمال عقله أن يكون بصيرًا في أمره، قويًّا في دينه، بصيرًا بأمور دينه، لا يَخْدع ولا يُخدع، حازمًا في أمره، بصيرًا بشأنه، لا يقدمُ على أمر حتى يعلمَ حُكْم الله، لا يُؤخر عملَ يومه إلى غده، فإن لكل يوم عملًا، ولكل ساعة شغلًا، إذا عمل عملًا أتقنه وأخلص لله فيه، لا يتبع الأماني، ولا يسارع إلى الهوى، يَزِنُ الأمورَ بميزان الحكمة، ويردُّ ما أشكل عليه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى أولي الرأي والبصيرة والدين والأمانة.
يحتاط في أمره، ويأخذ لكل شيء عدته، ولا يُقْدِم على شيءٍ حتى يعلمَ حُكم الله فيه، لا يتواكل على المقادير، فإن الله لم يُطلِع على غيبه أحدًا.
يجتهد ألا يخطئ، فإذا أخطأ اجتهد أن يعالج خطأه، ويأخذ أمره بالرِّفق والحكمة، والحزم والسياسة، في غير وسوسةٍ ولا هوَسٍ، يتعلم فيعمل، ويعمل فيُخلص، ويصبر ويصابر، حتى يلقى الله سبحانه نقيًّا تقيًّا، تلك هي الحكمةُ التي يُؤتيها الله مَن يشاء مِن عباده.
 
يا عباد الله، علَّمنا الرسولُ صلى الله عليه وسلم كيف نحتاط للأمر، وكيف نترك ما نشكُّ فيه إلى ما لا نشك فيه؛ ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)).
علَّمنا كيف نغتنم الفرص، وندع التواكلَ؛ ((اغتَنِمْ خمسًا قبل خمس)).
أرشدنا إلى الهدى والطريق القويم.
انتفعوا بآية الله، واتعظوا بمواعظ الله، وقدموا الحذر قبل ألا ينفعكم الندم.
وإذا أمركم أن تحتاطوا في أمور دنياكم، فأنتم أولى بالحذر والحيطة في أمور أخراكم، فإن الموت حاضر، وليس بينكم وبين الدار الآخرة إلا أنفاس معدودة، وساعات محدودة، والكيِّس مَن دان نفسه وعمِل لِمَا بعد الموت، والعاجز...
يستفيد من العبر، ويتعظ بالحوادث، ويقيس الأمور بأشباهها، ويترك ما التبس، ويتبع ما وضحَ، ويقدِّم أمر دينه على دنياه، ويعجل الخير ويسوِّف الشر، ويشاور في الأمر، ويسير على هدى مستقيم، ويزن الأمور بميزان الحكمة والتجربة.
إنَّ من نعمة الله على عبده أن يمنحَه عقلًا رشيدًا، ورأيًا سديدًا، وبصرًا بالأمور، واعتبارًا بالحوادث.
 
إنَّ لكلِّ فضيلة أساسًا، وإن لكل أدب ينبوعًا، وإن أساسَ الفضائل وينبوع الآداب والمكارم - هو العقل، الذي جعَله الله تعالى للدين أصلًا، وللدنيا عمادًا، وما اكتسب المرء شيئًا أفضل مِن عقلٍ يهديه إلى طريق الهدى، ويرده عن الرَّدَى، ويعرفه حقائقَ الأمور، ويميز به بين الحسنات والسيئات.
وفضَّل به الإنسان على سائر الحيوان، والذي نظم به العمران، والعقلُ نور يفرق بين الحق والباطل.
العقل صديقٌ مقطوع، والهوى عدوٌّ متبوع، الهوى ملك غَشُوم، ومتسلط ظلوم، إياكم وتحكُّمَ الشهوات على أنفسكم، فإن تحكُّمَها ذميم، عاجلها ذميم، وآجلها وَخيم.
اللهم اكفنا دواعيَ الهوى، واصرِفْ عنا سبل الردى، واجعَلِ التوفيق لنا قائدًا، والعقل لنا مرشدًا.

شارك الخبر

روائع الشيخ عبدالكريم خضير