وتسألني ابنتي
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
أن يقرأ القرآن الكريم في البيت، ويصدح به في غرفاته، ويدوى به في جنباته، فهذا عطاء من الله كبير، وخير وفير.أن يتعود أبناؤنا تلاوة الذكر الحكيم، ينهلون طهره، ويقتبسون نوره، ويعيشون بركته، فهذا فيض عميم وفضل عظيم.
أن تكون القراءة بتدبر، والتلاوة بتفكر، فهذا مفتاح الفتوح، وباب الوصول، وطريق القبول، {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها} [محمد من الآية:24].
إن تدبر القرآن الكريم معايشة لجلاله، وتفاعل مع تجلياته، وتذوق لآياته، وإنه لأمارة على تشرب القلب لهذا الشعاع المبين، وانشراح الصدر لهذا الضياء الساطع، واستجابة الشعور لهذا النور، وتنعم الوجدان بهذا الأمان.
إن تدبر القرآن الكريم مرحلة تخطف القراءة باللسان إلى الوعي بكل الكيان ليستوعب إيحاء المعنى، ويعايش أجواء المغزى، في حالة قرآنية لا يصورها بيان، وإنما يحياها ويتذوقها الجنان.
تقرأ ابنتي سورة النور ، وتصل إلى الآيتين الكريمتين اللتين ترسمان خُلق الاستئذان، وتضعان حدودًا تضمن طهارة الصلات، وتصون حمى الحرمات، وتبنيان حواجز منيعة للستر، والصون، والعفاف.
{يأيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم .
وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم كذلك يبين الله لكم آياته والله عليم حكيم} [النور: 58-59].
وتقف ابنتي في الآيتين الكريمتين مع الذين لم يبلغوا الحُلم في الآية الأولى وعند بلوغهم الحلم في الآية الثانية، فقد استوقفها حديث الآيتين عنهم في الحالتين، فما سر هذا؟
تسألني..
فأُسر، وأعلم أن القراءة تجاوزت مرحلة اللسان إلى دائرة القلب، وتخطت منطقة النطق إلى استكناه العمق، وحلقت من مجرد القراءة إلى أفق التدبر والتفكير، وسرت في الوجدان نورًا، وفي العقل فكرًا، وفي المشاعر تذوقًا وحسًا.
وأعود بها إلى الآية الأولى لأتدبرها معها، إنها تضع أوقاتًا ثلاثة تحددها للاستئذان لأولئك الطوافين ممن ملكت اليمين، ومن الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم بعد، فمحظور عليهم التطواف في هذه الأوقات المحددة التي هي محل الاسترخاء، وموضع الانفكاك من القيود، فلا ينبغي أن تقتحم هذه الأوقات حتى من هؤلاء.
وأما في الآية الثانية، وقد بلغ الأطفال الحلم فالاستئذان أصبح لزامًا في كل الأوقات، لقد انطبق عليهم ما انطبق على غيرهم من البالغين المكلفين.
ومن ثم..
فالآية الأولى ترسم دائرة خاصة تلزم فيها الاستئذان حتى لأولئك الطوافين في أوقات معينة، والآية الأخرى ترسم دائرة عامة تجعل الاستئذان في كل وقت وحين.
وفي هذا بعد تربوي، إذ يتدرب هؤلاء الصغار على خلق الاستئذان في أوقات خاصة ليتعودوا عليه، ويتمرسوا وهم في مرحلة التكوين، وفترة الإعداد وسن التوجيه، وحضن التربية ، وكنف التنشئة، حتى إذا نضج عقلهم، ونهض فكرهم، واشتد عودهم، وبدت عليهم أمارات الرشد، ودلائل الوعي، ألزموا به في كل وقت، فلا يكون الأمر مفاجأة لهم، فقد مارسوه من قبل ممارسة مؤقتة.
إن خلق الاستئذان أصل في البناء الخلقي، والكيان التربوي الذي ينبغي أن ينشأ عليه النشء، حتى يصبح فطرة وسجية، ومسلكًا قويمًا يتحلى به حتى تطهر المجتمعات، وتصان الحرمات، وتوصد نوافذ الشر، وتغلق ثغرات الرذيلة، ويتعود على غض البصر ، والالتزام بحقوق الآخرين، ومراعاة حرماتهم وخصوصياتهم.
إن هذه التخوم الأخلاقية، وتلك الحواجز السلوكية، لتربي في النفس قيم حرمات الحدود المادية، ليتأصل أن «كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه» كما قال صلى الله عليه وسلم (رواه مسلم).
وأنهي الحديث مع ابنتي فيما استوقفها.
ثم أعود إلى الآيتين من جديد، فيستوقفني فيهما شيء آخر، حيث ختمتا بقول الله تعالى: {والله عليم حكيم} أي عليم بما يصلح البشر، حكيم في تدبيره أمورهم، وقد سبق هذا الختام في الآية الأولى بقوله تعالى {كذلك يبين الله لكم الآيات} بهذا العموم الذي يناسب الحديث عمن ملكت الأيمان، وعمن بلغوا الحلم، وفي الآية الثانية بقوله تعالى: {كذلك يبين الله لكم آياته} لتناسب الحديث الخاص بمن بلغ الحلم من الأطفال فقط، وهكذا..
يتنوع الأسلوب القرآني المعجز بما يوائم السياق، في بلاغة بيان لا نظير لها.
د.
عبدالمنعم عبدالله حسن