الفرح بطاعة الله
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن سار على هداه، وبعد:
فإن الناس في هذه الدنيا يفرحون لأسباب كثيرة، فمنهم من يفرح إذا ترقى في وظيفته وعمله، ومنهم من يفرح إذا جاءته زيادة في راتبه أو ربح في تجارته، ومنهم من يفرح إذا رزق بمولود...
وكل هذه أسباب مشروعة للفرح إذا لم تؤد إلى أشر أو كِبر أو بطر، لكن أعظم أسباب الفرح عند الصالحين حين يوفقون في أمر من أمور الآخرة ويزدادون قربا من الله تعالى بزيادة في علم أو عمل صالح، قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ للْمُؤْمِنِينَ .
قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 57-58].
لما قدم خراج العراق إلى عمر بن الخطاب ، خرج عمر ومولى له فجعل عمر يَعدّ الإبل، فإذا هي أكثر من ذلك، فجعل عمر يقول: الحمد لله، وجعل مولاه يقول: يا أمير المؤمنين هذا من فضل الله ورحمته، فبذلك فليفرحوا.
فقال عمر: كذبت، ليس هو هذا، يقول الله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} يقول بالهدى والسنة والقرآن فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون، وهذا مما يجمعون.
● هذا هو الفرح الحقيقي
إن الفرح الحقيقي هو الفرح بطاعة الله وبفضله، فالفرح بالطاعة، كقدوم رمضان ، والحج، بمواسم العبادة، الفرح بيوم عرفة، الفرح بالأضحية، الفرح بصيام عاشوراء، الفرح بستة من شوال، الفرح بختم القرآن، الفرح بالتوفيق للصدقة، الفرح بنصر الله، نسأل الله أن ينصر المسلمين، والذين يفرحون بمثل هذا ويستقيمون على شرع الله يرجى أن يفرحوا يوم القيامة بما قدموا من الصالحات: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ .
فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا .
وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7-9].
فكما فرحوا في الدنيا بطاعة الله تعالى سيفرحون إن شاء الله بثوابها يوم لا ينفع مال ولا بنون، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن فرح الصائمين بثواب صيامهم: «للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
● أمور فرح بها الصالحون
هناك في السيرة والتاريخ نماذج مباركة لأمور فرح بها الصالحون، فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا حوله وأتى رجل فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال: متى الساعة؟ قال: «وماذا أعددت لها؟» قال: لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله، قال: « أنت مع من أحببت» قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «أنت مع من أحببت».
لماذا فرحوا بهذا؟ لأنهم يُحبون رسول الله وأبا بكر وعمر ويرجون من خلال هذه البشارة أن يجمعهم الله تعالى مع هؤلاء الذين هم من أهل الجنة يقيناً.
وهذا أُبي بن كعب رضي الله عنه لما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك»: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب...} [البينة: من الآية 1]، قال أُبي رضي الله عنه: وسماني؟ قال: «نعم» فبكى أُبي رضي الله عنه من شدة الفرح.
● فرح أبي هريرة رضي الله عنه
فرح أبو هريرة رضي الله عنه بإسلام أمه رضي الله عنها حين أسلمت، قال: كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، ودعوتها يوماً وأسمعتني في رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أكره، فأتيته عليه الصلاة والسلام وأنا أبكي قلتُ: يا رسول الله إني كنتُ أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم اهد أم أبي هريرة» قال أبو هريرة: فخرجتُ مستبشراً بدعوة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فصرتُ إلى الباب -يعني: عند باب بيت والدته- فإذا هو مجاف -يعني: مغلق- فسمعت أمي خشف قدمي، فقالت: مكانك يا أبا هريرة، وسمعتُ خضخضة الماء، قال: فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها ففتحت الباب ثم قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، قال: فرجعتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيتُ وأنا أبكي من الفرح، قلتُ: يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك، وهدى أم أبي هريرة، فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً، قلتُ: يا رسول الله ادع الله أن يُحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين، ويُحببهم إلينا، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم حبب عُبيدك هذا -يعني: أبا هريرة- وأُمُّه إلى عبادك المؤمنين وحبب إليهم المؤمنين»، يقول أبو هريرة: فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبني.
● فرح أبي بكر الصديق رضي الله عنه
حين أذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة قصد دار الصديق أبي بكر رضي الله عنه وقت الظهيرة، فأقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه، ففزع أبو بكر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأيتهم في تلك الساعة..
يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول: «يا أبا بكر أخرج من عندك».
قال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله.
قال: «فإني قد أذن لي في الخروج».
قال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله.
فقا?: «نعم».
فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول:
طفح السرور علي حتى إنني *** من عظم ما قد سرني أبكاني
روي عن عائشة أنها قالت: "فما شعرتُ أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيتُ أبا بكر يبكي يومئذ".
● فرح الرسول صلى الله عليه وسلم
كان النبي عليه الصلاة والسلام يفرح بإسلام الناس ونجاتهم من النار ، مثلاً حين مرض غلام يهودي وأتاه النبي عليه الصلاة والسلام يعوده قعد عند رأسه وقال: «أسلم» وأبوه بجواره فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم الغلام ثم مات، ففرح النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه وخرج وهو يقول: «الحمد لله الذي أنقذه بي من النار».
كما كان عليه الصلاة والسلام يفرح إذا حصل لبعض أصحابه خير، كما فرح بتوبة الله على كعب بن مالك الذي كان قد تخلف عن غزوة تبوك بغير عذر، فلما تاب الله عليه فرح حتى كان يبرق وجه النبي عليه الصلاة والسلام من السرور ولما جاءه كعب قال له: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك».
ويفرح لأن بعض أصحابه حصل أو وصل إلى نتيجة عظيمة في العلم ، مثل أُبي رضي الله عنه حين علم أي آية في كتاب الله أعظم، فقال: «ليهنئك العلم أبا المنذر».
يفرح بسماع الكلام الجميل الذي يدل على الصدق وقوة الإيمان ، لما قال المقداد في يوم بدر للنبي عليه الصلاة والسلام: لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: من الآية 24]، ولكن نقاتل عن يمينك وعن يسارك، ومن بين يديك ومن خلفك، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرّه ذاك.
● فرح بمبادرة الصحابة إلى طاعة الله، لما دعاهم للتصدق وجاء واحد بصرة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، وتتابع الناس، حتى اجتمع كومان من طعام وثياب، قال الراوي: "حتى رأيتُ وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة".
● وفرح حين فتح الله عليه مكة:
قال عبد الله بن مغفل رضي الله عنه: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح يرجِّع".
وفي رواية: "يقرأ وهو على ناقته أو جمله وهي تسير به وهو يقرأ سورة الفتح -أو من سورة الفتح- قراءة لينة يقرأ وهو يرجِّع" -والترجيع هنا يعني تحسين الصوت، والقراءة بصوت جميل يعين السامع على الخشوع والتذوق للمعاني-.
ونبي الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة فاتحاً لم يحمله الفرح على الكِبر والبطر، بل كان متواضعاً خاضعاً حتى إن ذقنه ليكاد يمسّ رحله من تواضعه لله عز وجل، مع أنه في موطن نصر وعِزّ وتمكين وغلبة على أعدائه.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الفرح بطاعته وأن يمن على المسلمين بالنصر والعزة والتمكين، وأن يُقرّ أعيننا بتحكيم شريعته في أرضه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.