أرشيف المقالات

التي تسره إذا نظر

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .

عن أبي هريرة الله رضي الله عنه قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذ نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها وماله بما يكره» (رواه النسائي).
هذا الحديث من الأحاديث الجامعة التي جمعت أهم مميزات المرأة التي تحلو معها العشرة، وتدوم معها الألفة، ويسعد بها الزوج باكتسابها لصفة الخيرية التي هي مقياس الصلاح وعلامة النجاح! فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم هو أن التي بها هذه الصفات المذكورة في الحديث هي المرأة الخيرة، بل خير النساء لا تفضل عليها غيرها ما لم تكن متصفة بهذه الصفات الثلاثة.

إذا تأملنا في الصفات الثلاثة وجدناها متفاوتة في الفعل! فطاعة الأوامر وعدم المخالفة وإدخال السرور أفعال ليست على مستوى واحد في سهولة إنجازها وتحقيقها أو صعوبته! لكن من حيث الجملة ما يتطلبه إدخال السرور على الآخر أكثر صعوبة من مجرد طاعة أمره وعدم مخالفته في النفس والمال، فطاعة الأمر مجرد اتباع لتعليمات واضحة محددة، وكذلك عدم المخالفة في النفس والمال، لكن إدخال السرور على الآخر تحتاج إلى أكثر من ذلك؛ فالزوجة في حاجة إلى أن تعرف ما الذي يسر زوجها حتى تدخل عليه السرور كلما نظر! تحتاج  فهم نفسيته، وفهم محبوباته ومكروهاته، وفهم ما يعشق من الزينة والألوان، وما يعجبه من الخصال والفعال ومعايير الجمال فلكل معاييره، ولكل ذوقه..

وليس المقصود في الحديث مجرد الهيئة والصورة بل الخلق والسيرة أيضا! فموضع نظره هو سيرتها وخلقها، وهيئتها إجمالا وزينتها في وجهها وذاتها ولباسها، بل ومشيتها وحركاتها وسكناتها، وطريقتها في التعبير بالكلام والإشارة! بعبارة مختصرة تحتاج (التي تسره إذا نظر) إلى فقه معاييره الخاصة (المباحة) في الحسن والجمال والأدب والخصال.

إذا سر الزوج بما عليه زوجته في نظره فذاك هو مفتاح الرضى عنها في كل شيء، وهنا يكون تحقق هذا الوصف في الزوجة ممهدًا بشكل كبير لتلافي الإخفاقات فيما بعده! لذلك جاء الحديث مفتتحًا صفات الخيرية في النساء  بـ(التي تسره إذا نظر)! فسرور الزوج يسد في أحيان كثيرة ثغرات طاعة الأوامر وغيرها، سواء وقع له السرور قبلها أو بعدها، إذ يدفعه سروره للتغاضي والعفو والتجاوز والتغافل، ويصدق عليه في ذلك قول الشاعر:
 

عين الرضى عن كل عيبٍ كليلة *** ولكن عين السخط تبدي المساويا

ولا يعني ذلك أبدًا أن الجميلة الفاتنة هي التي تسر وحدها بمجرد جمالها الذاتي! فلا يوجد للجمال معيار واحد على صورة واحدة، وإنما هو لوحة تتغاير في ألوانها ومقاييسها تغاير مقاييس الناظرين وما يسرهم (والجمال في عين الناظر)، وما من أنثى إلا وفي ثنايا صورتها جمال كامن، وإنما تشرق شمسه أو تغيب بحسب اهتمامها بذاتها وعنايتها بأنوثتها، وامتلاكها للتميز بالأخلاق الأنثوية الآسرة، فالسلوك للجمال كالروح للجسد، ولذلك قد تجد المرأة غاية في الجمال لكنها تغر ولا تسر! فالناظر إليها أول وهلة يسر أكثر بجمالها -غريزيًا-! لكن إذا كانت تفتقد الخلق الفاضل والأدب فإن الحياة تتكدر! فما قيمة جمال يجثو عليه الكبر والغرور وسلاطة اللسان وألوان من الآخلاق السيئة!

وقد تجد امرأة لها من الجمال قدر يسير لكنها بصلاحها وحسن الخلق ورفيع الأدب تسر زوجها كلما نظر إليها؛ تسره بهيأة نظرتها الحانية لا بجمال عيونها، وبجمال عباراتها الساحرة لا بجمال صوتها، وبطيب بسمتها الصادقة لا بمجرد جمال خدودها، وكيف لا وهي ركن من أركان السعادة التي أخبر بها الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: الجار السوء، والمرأة السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق» (رواه ابن حبان).

وإنما السرور واحد من مفردات السعادة في الحياة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ذات الصلاح والدين أفضل من ذات الجمال مطلقا فقال: «تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك» (رواه البخاري )، والظافر مسرور لا محالة..

والتي تسره إذا نظر صفة معني بها الزوج قبل الزوجة، فمنه يقع الاختيار بالنظر أول وهلة في مرحلة الخطوبة ! فمن نظرة الخاطب يتولد الإحساس بالقيمة الجمالية العامة للمرأة (المخطوبة)، ويحدث هذا في كل نظرة عمومًا لكننا نحصرها في الخطبة لأنها الطريقة الشرعية التي رغب فيها الشرع وحث عليها، وهذه النظرة التي ينبثق منها الإحساس تملأ القلب بمشاعر تختلف من ناظر إلى آخر ومن امرأة إلى أخرى، ويبقى ذاك الشعور كالبيضة في حرارة العواطف حتى يتفتق عن حب تطيب به العشرة.

النظرة تعني الارتياح والسرور بالمرأة المنظور إليها، ولا تعني مجرد امتلاكها لهيئة محددة تعجب الآخرين أو تثيرهم، فلا مجال للكلام هنا عن مقاس عام محدد لأن المنظور إليه ليس مجرد صورة جامدة! فالنظرة أوسع في شمولها من نظر العين، فهي نظرة العين والروح معا لذلك تبقى ملامح الذات مجرد جزء من لوحة، العين ترى الذات وجمالها، والروح ترى الروح وجمالها، ثم تتعرف عليها فإذا تعارفا سُرّ القلب بنظر العين فيقع الحب والألفة، وهل الألفة إلا نتيجة طبيعية للسرور؟! وفي الحديث عن النبي صل الله عليه وسلم قال: «الأرواح جنود مجندة ما تعارف منا ائتلف وما تنافر منها اختلف» (رواه البخاري ومسلم).

وقد ذكر الخطابي رحمه الله احتمالات لمعنى الحديث منها أن: "تعارف الأرواح يقع بحسب الطباع التي جبلت عليها من خير وشر"، ونقله عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتابه (فتح الباري)، ولذلك حث النبي صلى الله عليه وسلم على رؤية المخطوبة لأجل طيب العشرة ودوامها، فعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «انْظُرْ إِلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا» (رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني في صحيح الترمذي)، والمعنى أي أحرى أن تدوم المودة بينكما، ولا يتصور أن تدوم المودة والمحبة إلا بسرور الزوج بزوجته وسرورها هي أيضا به.

وبعد الدخول في غمار الحياة الزوجية تصبح النظرة شيئًا دائمًا في شراكة الحياة، فيكون الزوج الذي خطب في الأول بنظرة في أوقات محدودة ناظرًا لزوجته كل يوم؛ فيكون سروره بنظره لزوجته هو واحد من أهم ضوابط الحياة السعيدة معها إذ يجدها نزهته كلما نظر، وهو ما جاء معبرا عنه في الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: «التي تسره إذا نظر»، فنظرة الخطبة إذًا لها أثر كبير في استدامة العشرة الزوجية لأنها أساس التوافق وسر من أسراره.

ولا يعني هذا أن حال جمال المرأة المخطوبة عند النظر إليها يبقى كما هو ثابتًا لا يتغير فإما أن تسره في تلك اللحظة أو لا تسره بعدها أبدًا، كما لا يعني أنها إذا سرته وأسرته في الخطبة ستسره وتأسره بقية العمر مهما أهملت ذاتها، ولذلك فمن المعاني التي دل عليها الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «التي تسره إذا نظر» تجمل المرأة واهتمامها بأنوثتها بما أباحه الشرع من الزينة واللباس، والنظافة وغير ذلك..

وبقاؤها على ما تطيب به العشرة من حسن الخلق ، وفي هذا إشارة إلى أن الاهتمام بهذا الجانب من الأمور الملحة في الحياة الزوجية بالنسبة للزوجين معا، وهو من العبادة التي حث عليها الشرع لما يترتب عليها من العشرة الطيبة، فسرور الزوج بنظره إلى زوجته مقدمة هامة للعشرة الزوجية بكل ما تعنيه، فهو أساس التواصل والتكامل والتفاعل والشراكة، وبه تطيب الحياة، فضلا على أنه خير معين على تجاوز فتن الشهوات الخارجية المنتشرة في زماننا هذا في كل ركن وجهة! وما يحدث هو أن هموم الحياة اليومية لا سيما مع تربية الأبناء تجعل الزوجة تهمل ذاتها واعتناءها بجمالها وزينتها وأنوثتها، فينتج عن إهمالها نوع من التنافر بين الزوجين حين لا يسر الزوج بمنظرها! والحكمة أن تعطي لكل ذي حق حقه.

وهذا كما ينطبق على الزوج ينطبق على الزوجة أيضًا، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» (رواه الترمذي وابن ماجه)، فإنك إذا تأملت في قوله: «خيركم خيركم لأهله» ثم حديثنا هذا: «أي النساء خير؟ قال: التي تسره إذا نظر» ستجد الخيرية قاسمًا مشتركًا بين هذين الحديثين، فالتي تسر زوجها إذا نظر إليها هي خير النساء، كما يدل عموم حديث: «خيركم خيركم لأهله» على أن من الخلق الطيب والخير أن يعتني الزوج بكل ما يدخل السرور والبهجة على زوجته، ومن ذلك اعتناؤه بزينته ونظافته وعطره وكل ما يستدعي سرورها مما يعرفه عنها بالتجربة والمعاشرة، فهو معني أيضًا بمعرفة ما يسرها ويرضيها في عشرتها، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه قوله: "إني أحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي"، وقد كان النبي صل الله عليه وسلم إذا اشتهت عائشة شيئًا لا محظور فيه تابعها عليه وذلك إمعانًا في إرضائها وإدخال السرور عليها.

وعند الترمذي حديث جميل لطيف عظيم في هذا المعنى، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أكمل المؤمنين إيمانًا وأحسنهم خلقًا ألطفهم بأهله» (رواه الترمذي)، فتأمل في كلمة (ألطفهم) كيف تدل برقتها على ما يجب على الأزواج من حسن معاملة للقوارير، فكما أن من حقوق الزوج عليها أن تعتني بما يدخل عليه السرور كلما رآها فكذلك من حقها عليه ذلك، ولا شيء أجمل من أن يسود الثناء بالقول والتعبير على ما يسر كلا من الزوجين في الآخر، فالتعبير عن الرضى والسرور في ذلك وعدم كتمانه يجعل الطريق واضحًا معبدًا بالمحبة والألفة والسعادة إلى البيوت المطمئنة. 

إدريس أبو الحسن

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢