أرشيف المقالات

ظاهرة الثبات في الثورة السورية - إبراهيم بن محمد الحقيل

مدة قراءة المادة : 12 دقائق .

ظاهرة الثبات وعدمه ظاهرة تستحق الدراسة والبحث والتأمل، وأيًّا ما كانت أسباب الثبات المنصوص عليها أو الاجتهادية فإن الثبات هبة من الله تعالى، قد تتوافر أسبابه في الظاهر ويتخلف، وقد تتخلف أسبابه في الظاهر ويتحقق، وأما السرائر فلا يعلمها إلا الله تعالى.

قد لا يثبت عالم أبيضَّ رأسُه في العلم والدعوة، وشهدت له الأمة بالفضل والصلاح، بينما يثبت من هو دونه بمراحل كثيرة.

وقد لا يثبت من شابت ذوائبه في الاستقامة ، ويثبت من كان حديث عهد بفسق وجاهلية.

هل الثبات بالاستقامة؟ أم بالشجاعة؟ أم بيقين الثابت بصحة ما يثبت عليه؟!

لو كان الثبات بالاستقامة وحدها لما رخَّص الله تعالى لمن أُكره على الكفر أن يكفر بلسانه مع إيمان قلبه، ولما رأينا أشخاصاً ثبتوا هم أقل صلاحاً في الظاهر من آخرين لم يثبتوا.

وما من شك في أن اجتماع العلم والعبادة في شخص، مع ثباته على الحق يبوئ صاحبه الإمامة في الدين كما كان الإمام أحمد بثباته في المحنة، إمام أهل السنة، وليس بالثبات وحده تكون الإمامة كما لم يكن محمد بن نوح إماماً مع أنه ثبت في المحنة حتى مات.

وكم من أشخاص ثبتوا على باطلهم حتى أزهقت أرواحهم فيه، وهذا مردَّه إلى أمرين: "يقين الثابت بما ثبت عليه ولو كان باطلاً، مع شجاعته".

ويبدو لي أن الثبات على الحق مثل الإيمان ، هبة من الله تعالى لمن شاء من عباده، قال الله تعالى في الإيمان: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [النحل:93].

وقال سبحانه: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
"وتثبيتهم في الدنيا ، أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزلّوا، كما ثبت أصحاب الأخدود والذين نشروا بالمناشير ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد" (تفسير القاسمي: [6/315]).

ومن عجائب صور الهداية والضلال أنك تظن في أناس أنهم لا يهتدون أبداً لبعدهم عن أسباب الهداية، وشراستهم في محاربة الحق، ثم يهتدون، كما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جباراً في الجاهلية ثم فاروقاً في الإسلام.

وتظن في أناس أنهم قريبون من الهداية ثم لا يهتدون كأبي طالب عم النبي عليه الصلاة والسلام، فما زال يحوطه ويرعاه ويدافع عنه، ومات على الشرك.

وكذلك الثبات مثل الهداية؛ فحينما تموج الفتن يثبت أقوام ما ظن أحد أنهم يثبتون، وتبتلع الفتن أقواماً فيفتنون ما ظن أحد من الناس أنهم يفتنون، وكثيراً ما قرأنا في التراجم (فُتن فلان فافتتن) أي: سقط في الفتنة ولم يجاوزها.

والحقيقة أن مظاهر الثبات في الثورة السورية جديرة بالتأمُّل والتدوين، ولو انبرى لها بعض الباحثين، ولاسيما من كان في الشام أو قربها أو يتصل بأهلها فأظنه يجمع مجلداً من صور الثبات التي تذكرنا بأمجاد الأسلاف في ثباتهم وقوتهم في الحق، ولعل هذه المقالة تُحفِّز همة الباحثين للعناية بهذا الشأن حتى لا تضيع صور الثبات الشامي من ضمن ما يضيع من تراث الأمة، وليكون تدوينها وقوداً للأجيال اللاحقة يشحنهم بالثبات على الحق مهما كانت التضحيات؛ فإن النفوس تهون في سبيل الله تعالى.

إن الثورة السورية برُمَّتها صورة من صور الثبات العجيبة التي لا يستطيع أي محلل سياسي أو نفسي أو اجتماعي أن يفسرها، فظاهرة انقلاب أهل السنة في سوريا من أذلة مستضعفين مستضامين خائفين مذعورين يعلقون صور الطاغية في بيوتهم وسياراتهم ومحلاتهم من الخوف، ولا يتكلمون في السياسة، ولا في نقد الحكومة ولو بالهمس، ولا يثقون في أقرب قريب لهم في هذا الشأن، بل لا يخوضون في هذا الأمر ولا خارج الحدود السورية...
ثم ينقلبون إلى أُسْدٍ مغاوير، يصدحون بالحق، ويواجهون قوة النظام البعثي النصيري التي لا ترحم بصدورهم العارية، ويمزقهم النظام وأعوانه، وينحر أطفالهم أمامهم، ويغتصب نساءهم، وينكل بهم، حتى إننا رأينا من أساليب الذبح والتعذيب ما لم نسمع به من قبل، ولم يخطر على بالنا قط، وما خفي أعظم مما ظهر، ومع كل هذا العذاب والنكال لا يزيدون إلا ثباتاً على ثباتهم، ويقيناً بنصر الله تعالى لهم؛ فأي قلوب هذه؟! سبحان مقلب القلوب .

والأعجب من ذلك أن يكون الثبات في أطفالهم ونسائهم قبل رجالهم، وأيم الله إن هذا لعجب عجاب حين نرى واقعنا وواقع أطفالنا ونسائنا، ونقارنه بواقعهم.

فالذين أشعلوا الثورة هم الأطفال، وثبت فيها الأطفال، فثبت بثباتهم النساء والرجال، وهذه من أعاجيب المقادير، ولا أعرف أنه وقع مثل ذلك في تاريخ البشر، أن يقوم الأطفال بمواجهة الطاغوت، فيكون الكبار تبعًا لهم، إلا ما كان من قصة غلام الأخدود، وهي كرامة له وللرضيع الذي كلّم أمه وهو في المهد يأمرها بالثبات، لكن في الثورة السورية كان الثبات لجماعات كبيرة من الأطفال، فسبحان من ربط على قلوبهم، وثبت أقدامهم، وقوى عزائمهم.

جهر حمزة بن علي الخطيب وهو في ربيعه الثالث عشر بمعارضة الطاغوت، وسار مع من ساروا لفك الحصار عن إخوانهم في درعا، فقبضوا عليه، وضربوه ضرباً لا يطيقه الكبار، حتى ما عاد يقوى على القيام، فألقاه عبد الطاغوت أرضاً وانهال يركله بقدمه ويضربه بعصاً غليظة، حتى أدناه من صورة الطاغوت بشار، فأمره أن يسجد لها قائلاً: "اركع لربك"، فرفع الصبي رأسه واقترب وبصق عليها، في مشهد لا أنساه ما حييت، أعيده المرة تلو المرة لأشحن قلبي بجرعات الثبات، وأغبطه على ثباته العجيب، فانهال عليه كل من بالغرفة من جند النظام ركلاً وضرباً في وجهه وكل أجزاء جسده، واخترقوا ذراعيه برصاصتين استقرتا في بطنه، ودقوا عنقه، وقطعوا مذاكيره، فثبت حتى لقي الله تعالى، فيا لها من خاتمة!

هذا المشهد في الثبات يغني عن ألف كتاب، ويعلم الناس حقيقة العقيدة حين تستقر في القلب ، وليست العقيدة التي تلاك باللسان، وتشرح في الدروس، ثم تباع بثمن بخس عند أدنى امتحان لموافقة الطاغوت فيما يريد.

هذا أنموذج واحد من ثبات الأطفال، وكم رأينا من أطفال يحملون لافتات تعارض الطاغوت، ولا يهابون دوي الرصاص، وكم رأينا من أطفال قتل آباؤهم وإخوتهم، وفقدوا أمهاتهم وأخواتهم، ومع ذلك يعلنون عزمهم على مقارعة الطاغوت إلى الممات، فلله هم، نصرهم الله تعالى وثبتهم.

وأما نساء الشام...
وما أدراك ما نساء الشام؟!

فقد أخذن من الثبات أعلاه، وسطرن مواقف لا تنسى، وأعدن سيرة الخنساء بصور مكرورة كثيرة متنوعة.
فلقد حفظت كتب السير موقف خنساء واحدة استشهد أبناؤها الأربعة في اليرموك فقالت: "الحمد لله الذي شرفني بقتلهم"، وهي التي كانت قبل إسلامها وثباتها تنوح على أخيها صخراً حتى كادت تقتل نفسها، وقالت شعراً حفظت به قصتها.

لقد أتحفتنا أرض الشام المباركة بمئات الخنساوات، إي وربي، يحرضن أولادهن على الجهاد فيستشهدون واحداً تلو الآخر فلا يردهن فَقْدُ من قتل على دفع من بقي لأرض المعركة، فأي ثبات هذا؟!

في دير الزور عجوز قدَّمت أولادها السبعة واحدا تلو الآخر؛ وكانوا قادة لمجموعاتهم وهم: "عبد الرحمن، وعبود، وباسم، وبسام، وفايز، وفواز، وفيصل"، في سبيل الله تعالى، وتقول بعد مقتل آخر واحد منهم: "منَّ الله تعالى علينا باستشهادهم واصطفاهم وهم رافعين رؤوسهم، والحمد لله والشكر له"..
وتقول: "والله لو عندي عشرة غيرهم لقدمتهم في سبيل الله تعالى، ولو عندي ابن عمره عشر سنوات أدخلته الكتيبة ليجاهد في سبيل الله تعالى".

وهي تطبخ للمجاهدين وتخدمهم وتستضيفهم في منزلها، وتوصي أمهات الشهداء بالصبر والفرح باستشهاد أولادهم، وتقول: "لو مات أولادي قبل لكنت خائفة عليهم، لا أدري يدخلون الجنة أم النار ؟ فالحمد لله..
اصطفاهم الله تعالى شهداء في سبيله".

ولن أنسى مشهداً رأيته باليوتيوب حينما وضع الرجال سيخ حديد طويل لسحب امرأة مقتولة برصاص القناصة وهي في مرماهم، يقنصون كل من اقترب منها، وأثناء انشغالهم بمد السيخ وعقفه ليصل للمرأة المقتولة لسحبها اقتحمت الطريق كهلة بحجابها فذهبت للقتيلة فسحبتها أمام القناصة وسلمها الله تعالى منهم، فمن أعطاها الجرأة حين أحجم الرجال الأشداء، وهي المرأة الضعيفة التي وضع عنها الجهاد؟! ومن حماها من رصاص القناصة وهي في مرماهم إلا الله تعالى؟!

وفي رجال سوريا ثبات حتى الممات، ولقد رأى الناس رجلاً يُدفَن حياً، وجنود الطاغوت يساومونه على أن يقول لا إله إلا بشار، وهو يردد أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يُكرِّرها والتراب ينهال على وجهه ورأسه، حتى طمروه بالتراب فانقطع صوته ونَفَسه وهو ثابت على شهادة الحق، ولم يأخذ بالرخصة وهو في أشد دركات الإكراه، رحمه الله تعالى وتقبله في الشهداء.

ورأينا شاباً يعدو راجلاً يواجه دبابة بمفرده حتى بلغها فقفز على فوهتها وألقمها قنبلة فجرتها.
ورأينا رجالاً أصابهم الرصاص فنزفوا دماً كثيراً وما أحجموا عن القتال، بل يتقدمون يقاتلون، وأصحابهم يأمرونهم بالرجوع لإصابتهم فلا يرجعون.

وفي القصير أنباء عن الثبات والبطولات، دهش منها الصحفيون الأجانب، فدونوا أعاجيب من الصمود والثبات.

يا أهل القلم من الشاميين وأنصارهم:

الأمة عطشى لقصص الثبات والصمود والبطولات، وهي قصص وأخبار تحيي القلوب الميتة، وتبعث الأمل في النفوس اليائسة، وترفع ذل أمة طال ذلها وانكسارها، وكنا ولا زلنا نقتات على أخبار أسلافنا، ونتغنى بأمجادهم، وقد نبعت في أرض الشام المباركة صور كثيرة جداً من الصمود والبطولات والثبات والتضحيات، فبالله عليكم دوِّنوا بأقلامكم أخبار مجاهديكم من رجال ونساء وأطفال؛ فإنها من حقوق إخوانكم المجاهدين عليكم، ومن حقوق أمتكم أيضاً عليكم، وسيكون من تراثها المجيد الذي تترنم به الأجيال القادمة.

إن الله تعالى ما ثبت أهل الشام وهم عُزَّل، وخمس دول تحاربهم:

النظام النصيري وإيران والعراق ورافضة لبنان واليمن، وتمدهم روسيا والصين، والغرب بدوله ومنظماته يكتف أهل السنة عن إمداد إخوانهم الشاميين بالأسلحة.

أقول:

إن الله تعالى ما ثبتهم في مواجهة هذه الدول كلها، رغم ما يجدونه من العذاب وشدة البلاء إلا لأمر عظيم يريده الله تعالى بهم وبالأمة جمعاء، فلن يذهب هذا الثبات سدى، وإني لأظن أن الأمة كلها ستتحول بالثورة الشامية من مواطن الذلة إلى مراقي العِزَّة، وهذا ما يخيف النظام العالمي بصليبييه ووثنيه وصهاينته وملاحدته حتى تواطئوا على السوريين كما لم يتواطئوا على أحد مثلهم، ولكن أمر الله تعالى غالب، وقدره نافذ، ولن تزيد المحن والشدائد أهل الشام وأنصارهم إلا قوةً وصلابةً وإيماناً ويقيناً، وإن غداً لناظره لقريب.
 

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢