الملك الشاب رمز الأماني الجديدة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
من أعجب الحقائق التي تقوم عليها الحياة في الجماعات الإنسانية أن جملة آرائها وعقائدها وغاياتها، هي آراء موتاها وعقائدهم وغاياتهم، وكل أمة تعرف ضرباً من تحكم الموتى في حياة الأحياء. ومن أمثلة ذلك: الوصية التي يتركها الذين يرحلون عن هذا العالم الفاني، ويخلفون بها ما لهم لهذا أو ذاك، بلا شرط أو بشرط يحتمون على الوارث التزامه.
ومن أمثلته عندنا الوقف الذي تبقى شروطه نافذة جيلاً بعد جيل، ولا يكاد أحد يملك تغييراً لها، أو يعرف له حيلة فيها إلا النزول على حكمها.
وكل من يعرف شيئاً من التاريخ لا يسعه إلا أن يفطن إلى سيطرة الماضي على الحاضر، وإلى أن عقول الذاهبين هي التي تسير الأحياء، أو تقيدهم كما يقيد الواقف ورثته ويحدّ من تصرفهم فيما يخلّف لهم.
وأضرب مثلاً قريباً لهذا ما نزال نقرأه في الصحف ونسمعه من أفواه الناس، من قولهم: (مبادئ سعد).
وقد أنتقل (سعد) إلى رحمة ربه ونفض يده من شئونها، وخلا قلبه من همومها وآمالها، ولكن يده لا تنفك تمتد من ظلمة القبر، وتدير الرؤوس إلى هنا وههنا.
وليس من همي في هذه الكلمة أن أستقصي كل مظاهر هذه الحقيقة الثابتة، فان حسبي أيسر الإشارة إليها، وفي مقدور كل قارئ أن يتوسع كما يشاء في رد حاضر الجماعة إلى ماضيها القريب والبعيد.
وكل ما أريد أن أقوله هو أن كل ما تنطوي عليه الجماعة من آراء سياسية أو اجتماعية، وما لها من عادات وخصائص، له تاريخ طويل، وان كل جيل يجيء يتلقى هذا الميراث عن سلفه، وأن التغيير الذي يقع لا يكون في العادة إلا بطيئاً.
وكثيراً ما يخفي أمره حتى على الذين يكونون أداة له، ولكنه يتفق أحياناً أن يقع للجماعة حادث أو حوادث ترج كيانها وتزلزل قواعد حياتها وتفكك الإطار الذي يحيط بصورتها الثابتة، وتبث صلتها - إلى حد ما - بماضيها الطويل، وتغريها بالتماس طابع آخر غير الذي درجت عليه، وتدفعها في اتجاه جديد، بروح جديدة، وخصائص لا تطابق كل المطابقة ما كان مألوفاً ومعهوداً فيها. وقد حدث هذا في مصر مرتين فيما أعلم، فأما في المرة الأولى فكانت الرجة التي أحدثت الانقلاب السياسي والاجتماعي سببها الثورة التي قامت في سبيل الاستقلال، وهو انقلاب بعيد المدى ما على من يشك فيه إلا أن يرجع البصر إلى ما كانت عليه حياتنا مع المصريين قبل هذه الثورة، وما صارت إليه بعدها؛ وقد تناول كل وجه من وجوه حياتنا السياسية والاجتماعية، ولم يسلم منه شيء.
وقد كان من الممكن أن يقع هذا التحول بغير حاجة إلى زلزلة الثورة ورجاتها العنيفة، ولكنه كان خليقاً أن يكون بطيئاً جداً، وغير محسوس، وعلى أجيال طويلة؛ غير أن الثورة القومية عجلت به، من حيث نشعر ولا نشعر، فأصبحنا فإذا نحن أمة أخرى، لها في الحياة آراء جديدة، وعزمات لم تكن معهودة، وآمال وهموم ومساع لا نكران أنها كانت تدور في نفوس البعض، ولكن السواد الأعظم كان ذاهلاً عنها، وقد لا تكون هذه الثورة التي انطلقت من عقالها في سنة 1919 سوى موجة صغيرة من ذلك البحر الأعظم الذي أزخرت الحرب تياراته ما فتئنا نرى فعلها وأثرها في أمم أخرى كثيرة غيرنا، ولكن هذه الموجة الصغيرة كانت حسبنا، وقد جاءت بالاستقلال آخر الأمر، ولكنها جاءت بشيء اخر، فكانت ختام عهد في حياة الأمة، وبداية عهد غيره له طابع مختلف جداً. وهنا موضع الكلام في المرة الثانية، وبها يتم التحول الذي بدأته الثورة. كانت قيادة الأمة في الثورة التي استعرت في سنة 1919 للشيوخ، وكان الزمام في أيديهم، وكان العبء السياسي في كواهلهم، وكانوا ولاشك يمثلون آراء البلاد واتجاه النفوس فيها، وقد فازوا لأمتهم بما كانوا ينشدون لها، والذي جادوا به هو الذي قدروا عليه، ولو كان في الوسع مزيد لزادوا، ولكنهم تولوا أمراً لا يسعهم فيه اكثر مما وقفوا إليه.
وقد أصبحنا بذلك أمة مستقلة، ولكنا أصبحنا بهذا أيضاً أمة محتاجة إلى مثل عليا جديدة، ومساع غير تلك التي بلغتنا هذه القاصية - قاصية الاستقلال - وقد كنا خلقاء أن نشعر بالحيرة والارتباك لو لم يقع ذلك الحادث الجديد الضخم في حياتنا، وهو ارتقاء الملك الشاب فاروق الأول عرش البلاد.
ذلك أن شيوخ الأمة لا يستطيعون أن يمثلوا اكثر مما مثلوا، ولا يسعهم في العهد الجديد أن يكونوا رمز الآمال الجديدة التي أنشأها تغير كياننا السياسي لقد صرنا أمة حديثة، كأنما أفاض عليها الاستقلال ثوباً من الشباب النضير، فهي أحس بفيض الحياة وقوتها منها بما خلعت ونضت من الهلاهيل التي كان الاستعباد يكسوها، وما صدعت من القيود العارقة التي كانت تقعد بها عن السعي وتلزمها سكون الوهن وعجز الشيخوخة.
والأمم في مثل هذه الحالة يقل صبرها على حكم الأيدي التي تمتد من وراء القيود، ويكون همها ما أمامها من حياة لا ما خلعته عنها من أكفان المذلة والهوان، ويكون مطلبها رمزاً تتعلق به آمالها وترحب به آفاقها وقد قيض الله لها ذلك الرمز، فولى أمورها ملكاً غض الشباب، شامت الخير كله من لمحاته، وآنست الرشد أجمعه من حركاته وسكناته، فافتتنت به، ولها العذر واضحاً، والحق صريحاً فما يمثل آمال الشباب إلا الشباب، وهذا هو بعض السر في السحر الذي لملكنا: إنه شاب فياض الحيوية زاخر الآمال عظيم لثقة بأمته ومستقبلها، شديد الإيمان بالله وبالمجد الذي كتبه تعالى لها، وإنه قام على العرش قبل أن تدرك الحيرة شعور الشباب في الأمة؛ وقد كان المغفور له الملك فؤاد يدرك ذلك، ولهذا أعده للعهد الجديد خير إعداد ومن فضل الله على الأمة أنه ملك سمح عظيم مروءة النفس، ومتواضع كريم، ورقيق حليم، ووثاب بعيد مرامي الهمة، وصادق العزم صارم الإرادة، وعالي المنزع شديد الطموح، يحب الأمة ويثق بها فإذا كان قد سحر الأمة فلا عجب.
بل العجب العاجب ألا يسحرها. ومن هنا فرحة الأمة به، وبكل ما يفرحه وأمر آخر يجعل الأمة أعمق حباً له، وأشد تعلقاً به، ذلك أنه ليس مديناً بعرشه إلا لله جل جلاله، فقد ورث عرشه بحقه الصريح فيه، فهو لا يمكن أن يشعر بغير فضل الله عليه، وهو لهذا أول ملك حر في مطلع عهد الحرية، والأمة تدرك هذا حق الإدراك، ولهذا يفيض قلبها بالحنو والحب كلما رأت مظاهر توجه الصادق إلى الله تعالى ويشاء الله أن يجعله موفقاً في كل عمل، فقد أسر قلوب الشعب يوم خطب لنفسه من بنات رعاياه، وقد صارت اليوم ملكتنا بسنة الله الرضية.
ولو أنها كانت بنت أعرق الملوك لما كانت احب إلى هذه الأمة، ولا أندى على قلوبها، ولا أجل في عيونها، ولا أسمى فيما تحس نفوسها لقد خلط الملك نفسه بنفوس أمته، فهي تشعر أنها منه وإليه.
وتحس أنه ملكها بأدق ما تفيده هذه الإضافة من معنى بارك الله في الملكين، وهنيئاً لهما وللأمة إبراهيم عبد القادر المازني