أسباب التقليد في التعليم والتشريع بمصر الحديثة
مدة
قراءة المادة :
16 دقائق
.
للدكتور محمد البهي قرقر
في مقال سابق حاولت أن أبين أن التقليد هو أساس التعليم والتشريع اليوم في مصر، أساس التعديل في برامج التعليم والتغيير في القوانين المدنية والجنائية، وخصصت بالذكر هاتين الناحيتين لأنهما مظهر الأمة الثقافي والطابع العقلي الذي يعبر عن (نفسية) الشعب.
وإذا ذكرت التقليد فلا أريد منه الناحية الإيجابية التي يجب أن تشجع وتُنمى في زمن الطفولة، فذلك لم يكن هو النظرية السائدة في التعليم والتشريع بمصر، وإنما أقصد النوع السلبي الذي هو ذاك، أقصد النوع الذي لا يتعدى محاكاة الظواهر المقلدة ولا ينفذ إلى كيفية تكونها وهو الذي تدفع إليه العاطفة المجردة عن الروية. ولهذا قلما تتخذ الظاهرة المقلدة صفة الثبات والاستقرار، بل سرعان ما تنمحي من الوجود إذا خفيت العاطفة التي بعثت على تقليدها أو تغلبت عليها عاطفة أخرى تحمل على تقليد مظهر آخر. لكل كاتب أو مؤرخ أن يبدي رأيه في علل هذا التقليد وأن يوضح الباعث عليه.
له أن يعتقد مثلاً أن السبب هو رغبة مصر الحديثة الفتية النشأة في مسايرة المدنية الحاضرة والتقدم بسرعة إلى مصاف الدول الراقية، فهي لذلك لا غنى لها عن التقليد، ولا مفر إذن من أن تتعثر في طريقه مرة أو أكثر.
ولكن التقليد الناشئ عن مثل هذه الرغبة في الأمم الأخرى هو دائماً أشبه بسياسة مرسومة ثابتة نعرف إلى أي شيء تنتهي وأي طريق تسلك، فهو نوع إيجابي من التقليد، وذلك ما لا أعتقده في الحركة التقليدية السائرة اليوم في مصر لأنها حركة هوجاء متقلبة، تهدم اليوم ما بنته بالأمس، وتبني في الغد من جديد على غير أساس. لذلك الكاتب أو هذا المؤرخ أن يعتقد أيضاً أن العلة هي الضعف، إذ يشاهد أن الأمة الضعيفة تقلد القوية في مظاهرها لأنها ربما تتخيل الجمال مفرغاً في تلك المظاهر - فهي لانحطاطها لم تتكون عندها ملكة مستقلة للجمال، مطبوعة بطابعها الخاص، أو على الأقل لم تنضج عندها تلك الملكة بعد، أو لأنها ربما تحاول بذلك أن تستر ما بها من ضعف ونقص؛ فما دام شعار القوي مثلاً هو القبعة، أو مادامت ميزته في قوم هو ليس منهم العجمة في التعبير، فربما يُخيَّل الضعيف لنفسه إذا ما وضع القبعة فوق رأسه، أو إذ أفصح عن مراده في أمته بغير لغته الوطنية.
أو لهج لسانه من حين لآخر بكلمات أجنبية، أنه قد أصبح في منزلة القوي وأن له أن يتيه كبراً وخيلاء، ولم يدر أن سلوكه العملي الناشئ عن صفات نفسية خاصة به، وأن طريقه في التفكير الخاضع لبيئته وما ورثه في دمه عن أسلافه ينم عن أنه ما زال هو الضعيف، ولكنه تزيى بزي القوي فحسب. وربما يكون الضعف هو السبب الرئيسي والعلة غير المباشرة لكثير من صور التقليد، ولكن البحث النفسي الحديث يتجنب الآن بقدر الإمكان استنتاج قوانين عامة لجملة من الظواهر النفسية - لأن ذلك قد مضت مدته بفقدان العلوم الطبيعية والرياضية نفوذها على العلوم العقلية، وتأثيرها في تكوين كليات لها عامة تشرح بها جزئيات متعددة - ويفتش لكل ظاهرة عن علتها الخاصة بها والمباشرة في تكوينها. والتقليد الآن في مصر في أهم ناحيتين من نواحيها الثقافية والعقلية: في ناحيتي التعليم والتشريع، ظاهرة تغلب على نفسية الشعب، أو بعبارة أدق على رجاله المسئولين في توجيه سياسته العامة.
وإذن لبحث هذه الصفة يجب استعراض المؤثرات التي أوجدتها في نفسية هؤلاء وتعهدتها إلى درجة النضوج.
وأظن أننا إذا رجعنا ببصرنا إلى تاريخ مصر الحديثة في جيل سابق وجدنا تلك المؤثرات بادية في شيء واحد: في الابتعاد عن التربية الوطنية الذي كان نتيجة لخطة إحدى مدارس التعليم في مصر ولسياسة أخرى تعليمية كانت تهيمن على مدرسة ثانية منها. فالتعليم في مصر ليس واحداً، والمدرسة التي تخرج منها الشعب متباينة النزعة مختلفة الغرض.
فبينما نرى مدرسة وطنية، وهي الأزهر، تعتمد في تهذيب أبنائها على ما ورثته الأمة من ثقافة في صورتها التي احتفظت بها من عصور مضت، إذ بنا نرى مدرسة أخرى، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية، تلقن الناشئة المصرية مبادئ تنتهي بخلق أمم متعددة في أمة واحدة، وبفئات من الناس مختلفة لا تجمعهم وحدة في التفكير ولا وحدة في الغرض.
وبينما نشاهد هذه وتلك إذا ببصرنا يقع مرة أخرى على مدرسة ثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، ليس بينها وبين اللتين قبلها من صلة إلا أنها ربما تكون أو تحاول أن تكون مزيجاً منهما، ولكنه مزيج لا ينتج عنصراً جديداً كما فقدت فيه كل من مادتيه خواصها. فالأزهر - في نظر علماء الشعوب والاجتماع - لاشك أنه المدرسة الوطنية التي تربط الأمة بماضيها - وإن كان ينقصها ربط الحاضر بالماضي، وتلقن جيل اليوم ما كان لخلفه من دين ولغة وعادات خلقية وقومية، وهو لهذا كان ولم يزل مكان الخطر على الاستعمار الغربي وعلى سياسته في حكم الشعوب الإسلامية كما يراه الأوربيون أنفسهم الذين تخصصوا في السياسة وفي فلسفتها.
ففي المجلة العلمية السياسية الألمانية لمخرجها الأستاذ الفيلسوف السياسي الأستاذ بجامعة بحث جدير بالاعتبار عرض كاتبه لبيان صلة الإسلام ومقدار علاقة الأزهر على الخصوص بالحركات الوطنية في الشرق تحت عنوان (الإسلام والفاشستية) فكاتب هذا البحث يرجع الحركة الوطنية الحالية ضد السيادة الفرنسية في تونس ومراكش والجزائر إلى الأفراد الذين غلبت عليهم الدراسة الوطنية - الإسلامية - وعلى الأخص إلى أولئك الذين تلقوا علومهم في الأزهر بالقاهرة.
فالأزهر في رأي هذا الكاتب وفي رأي كثير من أمثاله منبع الخطر على السيادة الأجنبية في الشرق كله. وفوق ما للأزهر من هذه الصبغة الوطنية فهو مدرسة الشعب والسواد المنتج من الأمة.
ولسبب ما، إما لأسلوبه في التعليم (وعدم تمشيه في وقت من الأوقات على نظم التربية الحديثة)، أو لشعبيته، أو لسبب آخر غير هذا وذاك، وآلت الطبقة المثرية من الأمة من أرباب المناصب الكبرى في الحكومة وجهها نحو مدارس الإرساليات الأجنبية، وقصدت الطبقة المتوسطة إلى النوع المزيج وهو النوع الحكومي، وقنع الأزهر بالشعب وبأبنائه، طوعاً أو كرهاً، واضطر لهذا أن يكون بعيداً عن أفق سياسة الدولة، لأن سيادة الروح (الأرستقراطية) وجدت في ظل الحكم التركي ثم في حكم الاحتلال كل أنواع التأييد.
فأسلوب التعليم في هذه المدرسة بعيد في ذاته عن التهيئة إلى موجة التقليد الطافحة اليوم في مصر والتي تنذر بالخطر، لأنه هو نفسه ضد التقليد والعقبة في طريقه، وكذا رجالها ليسوا ممن يتبعون سياسة التقليد لأنهم أبعدوا عن السياسة العامة للدولة واكتفوا بالتحدث إلى الشعب عن الحياة الآخرة والسبل الموصلة إلى السعادة فيها، وإن فرطوا بهذا الاكتفاء في حق أنفسهم كأبناء الشعب وفي حق دينهم لإظهاره بالمظهر الروحي فحسب، ثم أخيراً في حق وطنهم لإقصاء أنفسهم وهم أكثرية عن سياسة توجيه الأمور في الدولة أو لرضاهم بهذا الإقصاء. والمدرسة الثانية، وهي مدارس الإرساليات الأجنبية كانت - ولا تزال - تعمل على قطع الصلة بين الوطن وتراثه العلمي والديني والخلقي، وبين أطفاله وشبانه من أهل الطبقة العالية الذين ولوا الأمر فيما بعد، إذ كانت القاعدة أن ينتخب أولو الأمر منهم؛ ثم زودتهم بثقافة أجنبية ملؤها الدعاية لأمة من أمم الغرب طبقاً لجنسية الإرسالية.
وإن نوع هذه الثقافة قد يكون مختلفاً - وفي الواقع هو كذلك - عن ثقافة البلد الذي تنتمي إليه الإرسالية اتباعاً لخطة سياسية مرسومة لم يُرد بها - كما يدعي أو كما يفهمه الشرقي البسيط - القيام بعمل خيري من نشر ثقافة حديثة ومكافحة الأمية؛ وإنما قصد بها ضمان السيطرة على النفوس والتصرف في ميولها؛ فنشأت في الأمة فئة تجهل الأمة نفسها، تجهل عقليتها وطباعها، تحتقر الشعب وتهزأ بتقاليده، ثم بعد ذلك شاء القدر أن يكوم زمامه بيدها. ولاختلاف ميول هذه الثقافة واتجاهاتها - وإن كانت متحدة في غرض الدعاية - كانت وجهة هذه الفئة الحاكمة مصوبة على العموم نحو ظواهر المدنية الغربية، واقتباس ما يوحي به ميلها الثقافي، لا اقتباس ما قد يتفق مع مدنية الأمة وثقافتها القديمة وما يتطلبه الشعب ولا يتعارض مع قوانينه الخلقية وسننه الطبيعية.
وهنا نجد مظاهر شتى لهذا التقليد أنشأتها ميول الثقافة الأجنبية المختلفة.
فمن تثقف بالثقافة الفرنسية من تلك الفئة - وهو عدد كبير - كان المثل الأعلى في نظره حضارة فرنسا وحريتها المزعومة، وعمد إلى التقليد في مظاهر الحضارة الفرنسية، وإلى الاقتباس من القانون الفرنسي، لأنه يمثل في نفسه، كما تلقن، صورة العدالة، وينطوي في نظره على (حب) الحرية وتقديس معنى الإنسانية - وما كان القانون الفرنسي، ولا أي قانون وضعي آخر يمثل في يوم من الأيام صورة العدالة على الإطلاق، ولا ينطوي على حب الحرية للحرية نفسها، ولا يقدس الإنسانية للإنسانية؛ وإلا لما أعطي للقسوة صفة خلقية، وأنكر على الوطني المستعمر حقه الطبيعي في الحياة ما دام في ذلك حفظ للسيادة الفرنسية.
وما شهرة فرنسا بحب العدالة وبحب الحرية وبتقديس الإنسانية إلا لما قامت به من الثورة، كرد فعل نفسي ضد حكم الظلم والاستبداد؛ ثم استغل بعد ذلك استغلالاً أدبياً في صالحها.
وللإرساليات التعليمية في الدعاية به وخصوصاً في الشرق قسط غير قليل.
ثم تكون نتيجة هذا التقليد عكسية، ونهاية الاقتباس خاطئة، لأن مصر الشرقية غير فرنسا الغربية، ومصر الضعيفة الحديثة النشأة غير فرنسا المستعمرة.
وبالرغم من ظهور الخطأ وعكسية النتيجة لا يدير المقلد وجهه نحو أمته ويدرس حالتها النفسية والاجتماعية، ثم يقتبس ما تدعو إليه هذه الدراسة، لأنه لم يألف الأمة ولم يتعرفها منذ طفولته. ومن تثقف بالثقافة الإنكليزية عشق تقاليد الأمة الإنكليزية وأعجب على الأخص بالبرلمان الإنكليزي وبعراقة الدستور الإنكليزي ونظام الأحزاب الإنكليزية وبتمتع الأقلية بحرية المعارضة، فيهوى وفقاً لميله تقليد إنكلترا في مظاهرها الدستورية ونظامها البرلماني؛ ولكنه يخطئ أيضاً في تقليده، لأن الشعب المصري ذو صفات نفسية تغاير تمام التغيير صفات الشعب الإنكليزي؛ له طريق آخر في التفكير وأسلوب آخر في المعاملة؛ هو شعب ناشئ لم تتركز طبائعه بعد، ولم يروض على عادات خلقية تتناسب وفطرته، فإذا نوقش في خطأ تقليده أصر عليه وسرد تأييداً لإصراره أقوال الساسة الإنكليز والعرف الدستوري في البرلمان الإنكليزي.
وأولى به أن ينظر إلى الواقع وفي أي شعب هو يعيش.
أولى به أن يتعلم خواص الشعوب بدل أن يحلق في خيال نظري (قانوني) لا طائل تحته.
ولكن ميله الثقافي هو الذي حدد له نهاية الطريق وأملى عليه برنامج السير. ومن تثقف بالثقافة السويسرية يستهويه نظام التعليم ونظام الأسرة فيحاول تقليد الشعب السويسري، أو بعبارة أخرى يضطر أن يسير في طريق ميوله الثقافية، والتعليمية - وليس إلا طريق التقليد طبعاً - ثم لا يلبث أن يرى نتيجة تقليده بين يديه خاسرة، لأن المصري في طبعه وفي ميوله الغريزية غير السويسري الذي هو نفسه يغاير نفسه - وبناء على هذا يتغير نظام تعليمه - في منطقة أخرى من مناطق الاتحاد السويسري.
والأسرة المصرية التي حددت عاداتها طريق سلوكها في الحياة وعين دينها ولغتها طريق تفكيرها وفهمها لما يحيط بها، غير الأسرة السويسرية التي تتطلب أيضاً بحكم الوراثة وبحكم العادات وطبيعة البلاد أسلوباً في التعليم خاصاً بها. وهكذا دواليك نجد العمل الجدي لهذه الفئة تقليداً سلبياً قلما يتحول إلى محاكاة إيجابية، إلى (التمصير) الذي هو عملية نفسية يقوم بها الفرد كالأمة، عملية تتطلب أولاً أن تنشأ الأفراد تنشئة وطنية ثم تزود بثقافة أخرى أجنبية.
وإذن يكون عمل الفرد كعمل الأمة مصبوغاً بصبغة وطنية وفي الوقت نفسه مسايراً لخطى الأمم الراقية.
فالأمة اليابانية مثلاً تقلد الحضارة الغربية ولكنه تقليد إيجابي، لأنها تنظر إليها ثم تحاكيها لا في صورتها الأولى ولكن في صورة يابانية شرقية بعد ما تكون قد مزجت بينها وبين حضارتها الموروثة ووفقت بينهما.
وهو لهذا تقليد فيما ينفع، وتقليد لا يمس بالخطر العوامل الأولى المكونة لحضارة الأمة، كأمة مستقلة. فجهل الوطن وما فيه والنزوع إلى التلون بلون غربي - كما هي النتيجة الحتمية لأسلوب هذه المدرسة - من الأسباب القوية لهذا التقليد السلبي؛ ثم اختلاف النزعة نحو هذا التلون، تبعاً لاختلاف نوع الثقافة، من أكبر العوامل في كثرة التغيير والتعديل اليوم في سياسة الأمة التشريعية والتعليمية. وربما تكون تبعة المدرسة الثالثة، وهي مدارس وزارة المعارف، في هذا التقليد أقل من المدرسة السابقة، ومع ذلك فعليها تبعة كبيرة أيضاً، لأنها لم ترسم لها خطة تعليمية وطنية، أو أرغمت، فطاوعت، على السير وراء سياسة استعمارية، سياسة أوربية أجنبية.
فالاتجاه الذي توحي به وتخلقه في تلامذتها لا يخلو من مبالغة في عظمة الغرب واحترام المدنية الغربية، كأبلغ شيء وصل إليه العقل الإنساني - ولكن لا لخدمة الإنسانية ولكن لسيادة القوى - وذلك يقوي غريزة التقليد في الطفل ويدفعها إلى ناحية معينة قلما تحيد عنها أو تتصرف في تقليدها؛ ثم في الوقت نفسه لا يخلو ذلك الاتجاه من النظر إلى الشرق كوطن والى تقاليده ودينه ولغته كمقومات لثقافته من إلقاء نظرة بسيطة عليها قلما يصحبها احترام أو يتبعها تقديس مما يدعو إلى الارتباط بها والحنين إليها. وهكذا يسير الشعب إلى غير وطنه ويقاد في غير طريقه الطبيعي ويدفع به في كفاح لم يتهيأ ولن يتهيأ له، وهو كفاح ضد الطبيعة ومقتضياتها؛ وهيهات أن يفوز إن لم تهلكه الحرب هلاكاً بطيئاً، وذلك شر أنواع الهلاك وآلمه. فمبدأ التقليد ليس معيباً إذا كان إيجابياً، لأنه إلى جانب الفكرة الخالقة والعقل المستقل في الإنشاء من عوامل تقدم الأمة، فما كان لأمة أن تستقل في نهضتها العقلية بنفسها ولكن يجب عليها أن تكيفها بشخصيتها وطابعها.
وهذا التكييف نفسه مدين إلى حد كبير بالاعتماد على ثقافة الأمة الموروثة أو هو نفسه المحافظة على تلك الثقافة والاعتزاز بها. واليوم آن للأزهر أن يعمل على تأدية رسالته، من ربط حاضر الأمة بماضيها، في ثبات وجرأة؛ وهي رسالة شاقة، ولكنه راعى الواقع، فلا يدري إنسان متى تتهيأ الفرصة للأزهر من جديد، فيمنحه الدهر رجلاً مستقل الفكر، قوي الإرادة، صادق العزيمة، متفهماً للحياة كما منحه في السابق رجل التاريخ والإصلاح، وكما يمنحه اليوم بصنوه.
فما أشد تقاربهما في الفكرة، ولكن ما أبعد المسافة بين توليهما شؤون تلك الجامعة العالمية. وإذا كانت روح السياسة العامة الآن للدولة مشبعة بمجاملة الأجانب ومنحهم حرية كاملة في تعليم جالياتهم وعدم إلزامهم بثقافة البلد الوطنية - كما هو الشأن في البلاد الأوربية نفسها - فلا يصح أن تقصر تلك السياسة في حق أبناء الأمة وتكل أمر تربيتهم إلى جهة أخرى غير الأمة نفسها.
يجب أن تفهم حد المجاملة وتدرك ما ينطوي عليه حق الأمة في استقلالها وحريتها. وإذا كانت وزارة المعارف اليوم تعنى بالثقافة الوطنية بعض العناية فيجب أن يكون الدافع لها عليها مصلحة الوطن والعمل على تحقيق استقلال الأمة لا الرغبة في كسب عواطف الشعب أو استمالة طائفة منه خاصة، فما أكثر تغير الشعب في عواطفه، ولكن ما أثبته على حب من أخلص إليه في خدمته! محمد البهي قرقر دكتور في الفلسفة وعلم النفس وعضو بعثة الإمام الشيخ (محمد عبده)