فردريك نيتشه
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
للأستاذ إبراهيم إبراهيم يوسف
تتمة ما نشر في العدد الماضي
وفي سنة 1874 كتب نيتشه في مذكراته (إن ديني - إن كان لي بشيء يصح تسميته بذلك - لا يتعدى العمل لمنتجات العبقرية. أما الفن فهو التربية التي تحقق ما نأمله في الحياة وبذلك تهون علينا الحياة بما فيها من ألم.) وذكر نيتشه في نهاية الجزء الرابع من كتابه (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) في فصل (عن روح الفنان والأديب) كلاماً بلهجة اليائس، إذ أعتبر الفن في تدهور وانحلال - ولعله كان يتحدث في ذلك عن نفسه بالذات.
فقد حمل نيتشه على الفنانين الذين يحجمون عن النظر إلى المثل العليا، ويكتفون بالنظر إلى أعمالهم فقط.
ولهذا أنقلب على الفنانين وراح يمجد العلماء الذين يعملون للفكر، فكل عالم أصبح في نظره (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد).
وهكذا بدأ يشيد بسقراط الذي كان قد نعته من قبل (بقاتل التراجيديا) وأتخذه مثلاً أعلى له. وعد نيتشه بعد كتابه الأخير من الحكماء البلغاء القابضين على ناصية المنطق والخيال والقول الحكيم.
وكان في جده صارماً وفي لذعه قارصاً وفي مزحه ظريفاً.
وهو إذا ما غضب بلغ حد الغضب، وإذا ما عمد إلى اللعب نسي نفسه، وإذا ما رقص تفانى في الرقص، وكان الرقص أحب الأشياء إلى نفسه.
وكان نيتشه يرى في نفسه رأس حكماء الألمان ويعتقد بأن أسلوبه هو الأسلوب الخالد، إذ في وسعه أن يكتب في عشرة جمل ما لا يكتبه غيره في كتاب كامل.
وكان قد قرأ من الألمان ليشتنبرج (هينه) ومن الفرنسيين مونتاني وفونتنل وشامفور وغيرهم.
وكان يجد للفرنسيين آراء صادقة لم تجتمع في كافة كتب الفلاسفة الألمان. وتخطى نيتشه في سنة 1881 تلك الأزمة التي عاجلته بعد كتاب (إنساني وإنساني إلى أبعد حد) وكتاب (آراء وحكم مختلفة) وكتاب (الهائم وظله) وأحس بأنه قد أسترد قواه الجسمانية والروحية بعد أن جال في التيرول وفي جبال الألب وفي شمال إيطاليا. ورأي نيتشه أن الحياة تفتحت له من جديد، إذ أخذ يدرك الأشياء على حقيقتها بعد أن زال عنه الغشاء.
وقد أدى به تجواله إلى هيامه بتلك البلاد الجنوبية هياماً ضارع حبه لوطنه.
ومن ثم أصبح شخصاً آخر لا يؤمن بوطن خاص، وصار (أوربياً) لا يفرق بين شعب أو وطن، حتى لقد قال (لكي تكون ألمانيا صادقاً، يجب أن تنتزع النعرة الألمانية من صميمك).
كذلك قال: (إن الألمان هم رجال الأمس البعيد وسيصبحون رجال الغد البعيد، أما أنهم رجال اليوم فلا!) وما ذلك إلا لتعهدهم بتربية العاطفة بدلاً من تعهدهم تربية الفكر.
وألمانيا في اعتبار نيتشه أحط مستوى من بقية دول أوروبا في الناحية الثقافية.
ولم يشعر نيتشه بأنه ألماني إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعته (الأوربية الصادقة) فهو ألماني كما هو بولوني أو أيطالي أو غيرهما.
ولعل حياته الأولى ومحيطه الذي عاش فيه ساعداه على أن يكون ذلك الرجل وإذا كانت أعمال (أفلاطون) و (أسبينوزا) و (بسكال) و (روسو) و (جيته) قد أحدثت تطورات في الفكر البشري كما يقول نيتشه فأن كتاب (شفق الصباح) الذي أخرجه نيتشه عام 1882 وجعل له عنواناً آخر هو (أفكار عن الأحكام الخلقية) أحدث هو الآخر تطوراً في الفكر البشري.
وفيه عالج المسائل الأخلاقية، فمثلاً كتب عن العادات المستحبة.
وتساءل: ما هي العادة التقليدية؟ فقال بأن العادة التقليدية هي الخضوع إلى ما يضاد العادات الغريزية.
وقال بأن على الناس أن يتعلموا من جديد، وعليهم أن يرفضوا ما أتفق عليه العالم من عادات تقليدية، إذ لا يوجد (عدل أبدي)، ولهذا فهو ثائر على كل اعتبار، حتى الاعتبارات الدينية المسيحية.
وأعقب كتابه هذا بآخر عنوانه العلم المرح وقد حاول فيه أن يحرر الإنسان من قيوده المكبل بها، ويبعده عما لحق به، كيما ينتعش فكره.
ولم تمض أربع سنوات أخرى حتى أخرج كتاباً آخر عنوانه (لغة الريح الساخن) (الذي من شأنه أن يذيب الثليج) - والكتب الثلاثة الأخيرة تمم بعضها بعضاً.
وفيها من غريب الآراء في الأخلاقيات ما لا يصح تلخيصه في مثل هذه العجالة. وعثر نيتشه في قراءاته على (زرادشت) فيلسوف الفرس الأقدم ومعلمها الأول والحكيم الخالد الذي عالج كل مسألة.
فأتخذ من أسمه شخصية تملى على الناس آراءه الخاصة.
فأصدر في فبراير سنة 1883 الجزء الأول من كتاب (زرادشت).
ولم يكن نيتشه في حاجة إلى أكثر من عشرة أيام لوضعه، فجاء في أسلوب من الشعر المنثور الذي لا يجارى.
وكتب كتابه هذا أثناء تجواله في طريق (زاوجلي) الذي يطل على خليج (رابللو) بالقرب من (جنوه) هنالك نزل على نيتشه وحي ذلك الكتاب الذي أختار له أسم (كتاب للجميع ولغير أحد) وجعل له عنوناً آخر (هكذا قال زرادشت) , كذلك أتم الجزء الثاني والثالث منه في عشرة أيام أخر.
فكتب الجزء الثاني في بلده (سلز ماريا) بين أواخر يونية وأوائل يولية من عام 1883 وأتم الجزء الثالث في يناير سنة 1884 في مدينة (نيس).
أما الجزء الرابع الذي كتبه لأصدقائه فقط فقد أقتطع من وقته زمناً أطول.
وكان نيتشه أثناء وضع هذا الكتاب على أتم ما يكون من عافية وصحة.
وكان لا يسأم السير في الجبال التي كانت توحي إليه بكل ما يكتب كما أن البحر الممتد أمامه كان له أثر في ذلك الوحي.
ولقد كتب (زرادشت) كما لو كان يرقص أو يلعب.
فقد قال بلسانه (كان من السهل أن يراني الناس راقصاً.
وكنت لا أعرف للتعب معنى.
فقد سرت في الجبال عدة أيام، وفي كل يوم أسير سبع أو ثماني ساعات متوالية، وكنت أنام ملء جفني، وأضحك من كل قلبي.
لقد كنت مستكمل كل معدات الحياة والفكر صبوراً.
وكان هذا العهد يختلف عن تلك الأيام التي كتب فيها (إنساني، وإنساني إلى أبعد حد) اختلافاً كلياً وكم كان نيتشه شكوراً في كتابه الرجل الطيب الذي أتى فيه بشيء من مذكراته لعام 1888. ويعتبر كتاب (زرادشت) الذي وضعه نيتشه في رأي بعض النقاد ومنهم بيتر جاست (من الكتب الواجب تقديسها).
وقال نيتشه نفسه فيه (إنه نوع أنيق من الدعاية للأخلاقيات.) بل هو (شعور نبي).
(وهذا الكتاب رقص وموسيقى، هو ألحان جميلة وحكم غالية، هو العاصفة والهدوء، هو المرح الكامل والظرف والغضب، وهو إلى جانب ذلك مرعب ومخيف، إذ فيه أسرار دفينة.) وإنه (كالغابة والليل والأشجار أي مجمع الظلام، فمن لا يخاف ظلمته سيجد فيه زهوراً ورياحين) هذه هي كلمات نيتشه في كتابه الذي كان يعجب به ويسميه (قرار المحيط).
وكتاب زرادشت هذا يعد بأجزائه الأربعة صباح وظهر وعصر ومساء اليوم الذي سيولد فيه الإنسان الكامل أو السوبرمان كما أسماه.
وهذا الإنسان الكامل قد تخيله نيتشه في كتابه (العلم المرح).
ولهذا الإنسان وحده حق الحياة ومن أجله تحمل نيتشه مضض الحياة.
أما الإنسان الراقي الذي تكلم عنه في كتابه (زرادشت) يختلف عن الإنسان الكامل الذي جاء بوصف له في الجزء الرابع.
ولا داعي للاسترسال فإن (الرسالة) تترجمه في التحدث عما يتضمنه كتاب (زرادشت)، ونكتفي بما أشرنا إليه لنتحدث عن أسلوب نيتشه في هذا الكتاب.
فقد نهج فيه نهجاً فريداً.
وكان نيتشه قد كتب إلى (روده) إمام اللغة في ذاك العصر يسأله إن كان هناك في اللغة الألمانية أسلوباً يضارع أسلوبه في زرادشت من حيث القوة، وإن كان يعتقد بأن اللغة الألمانية بلغت أقصى شأوها على يدي جيته ولوتر ويقول نيتشه (إن أسلوبي هو الرقص، هو لعب متجانس في كل أشكاله، كذلك هو القفز والاحتقار لكل تكرار) ويعد كتاب (زرادشت) أكثر كتبه انتشاراً وأبعدهم أثراً وغوراً، وفيه تتجلى شخصيته وشاعريته.
وهو يقول عنه: (إن هذا الكتاب أنشودة الليل - وفي الليل تجيش كل فوراة بصوت أعلى.
كذلك روحي هي الأخرى فوارة.) وقال نيتشه على لسان زرادشت متحدثاً إلى شخصه: (إنني جوال أتسلق الجبال) كذلك قال: (إنني لا أحب المنبسط من الأرض، وقد تبينت أنني لا أستطيع الهجوع إلا يسيرا.
ولا أنتظر من القدر إلا أن أبقى هكذا جوالا أتسلق الجبال) وهذا الشعر الرمزي هو طابع كتاب (زرادشت) العظيم. ولنتيشه في هذا الكتاب شاعرية فذة، فهو في بعض الأحايين يخجل من أن يكون شاعراً، لأنه قد يكذب مع علمه بكذبه، ومع رغبته في الكذب.
ولهذا فهو يأبى أن يكون من طبقة الشعراء الذين لا ينظرون إلى أعماق الأشياء وأعماق الحياة.
أما أنه كان ميالاً إلى التلاعب بالكلام والصور في شعره فذلك لا ينكره أحد.
وكان نيتشه رومانتيكي النزعة الأدبية، ولكنه كان يأبى أن يعرف عنه ذلك، هذا إلى أنه كان عدواً لدوداً للأدب الرومانتيكي، ومع ذلك فقد كان كلاسيكياً في تذوقه للأدب.
وكان من أنصار الإيضاح والتبسيط، يكره التفاصيل كما يكره التعقيد والتشكك.
وكان يتذوق أدب (يونج ستلنج) وجيته وشتفتر وجيتفريد كلر وهم من غير نزعته.
وكذا ظهرت هويته فيما لا يملكه. وكان نيتشه يعمل في نفس الوقت الذي أخرج فيه كتاب (زرادشت) في تأليف كتاب آخر أظهره سنة 1886 تحت عنوان (ما وراء الخير والشر) وهو مقدمة شبه مسرحية لفلسفة المستقبل، وقال عنها نيتشه بأنها طريق ممهد لأرض زرادشت الموحشة الخطرة.
وهو يختلف مع كانت في تفكيره إذ يتساءل: لم الاعتقاد في مثل هذه الأحكام عن الأخلاقيات؟ وفي رأيه أنه لا يوجد مظاهر أخلاقية، ولكن توجد تعابير أخلاقية للمظاهر.
وكما يوجد لطبقة السادة تعاليمهم الأخلاقية، كذلك يوجد لطبقة العبيد تعاليمهم الأخلاقية الخاصة بهم.
ولهذا فالخير والشر أشياء تتغير معانيها بتغير الزمان وتغير البيئة.
ويرى نيتشه (أن التعاليم الأخلاقية لطبقة السادة كانت قد اختفت من أوربا ألفي سنة إلا أنها رجعت في عصره، وكانت قد بلغت أوجها حينما وصل نابليون أسمى مجده.
وفي رأي نيتشه أن الخير لا يوجد إلا عند الفقراء الذين لا قوت لهم، وعند الضعفاء الذين لا حول لهم، وعند المرضى والقبحاء وهؤلاء جميعاً هم المتدينون) وكان نبتشه قبل إصداره كتابه الأخير على وشك إتمام نصف كتابه الأعظم (قوة الإرادة لبلوغ الحكم ومحاولة قلب القيم جميعها) , وما يقصد نيتشه من (قوة الإرادة لبلوغ الحكم)؟ هو يقول: (إن الكائنات الحية تعمل قبل كل شيء أتظهر قوتها إذ الحياة هي قوة الإرادة لبلوغ الحكم) وهو يرى في الجزء الأول من هذا الكتاب الذي لم يتم وضعه أن اللاإرادة هي المسيطرة على مشاعر الناس.
وبذا تسيطرت اللاإرادة على الإرادة للحياة.
وفي الجزء الثاني من الكتاب نقد لكل القيم العليا: ففيه نقد للدين ونقد للأخلاقيات ومثلها العليا ونقد للفلسفة.
أما الجزء الثالث فقد جعله كتاباً خاصاً بمبدأ تقرير القيم الجديدة.
وقد أعتمد في وضع قيمه الجديدة هذه على اللاإرادة التي أعتبرها أساس القوة وأساس السيطرة.
ونظرته في الحياة هذه أصبحت عقيدة.
فقال إن الإرادة أساس الحكم في الطبيعة، وهي أساس الحكم عند الفرد والجماعة، وهي أساس الحكم في الفن.
أما كتابه الرابع فقد أراد أن يكون تمهيداً لتطور وازدهار هذه الفكرة.
وينتهي الكتاب بالقسم الأخير منه الذي أختار له (العودة الأبدية) عنوناً.
ولكن لسوء الحظ لم يتم نيتشه كتابه هذا، وكان الجميع يتوقعون أن يزدان به الأدب الألماني.
ولم يكن هذا كل ما كان يريده نيتشه، بل لقد وضع تصميم كتاب آخر عن (الوحدة والانعكاف) في جزء خاص من كتاب (زرادشت) ولكن الأجل لم يمهله؛ ولم يعش ليرى أعماله تنتشر وتروج.
وكانت سنة 1888 هي أكثر السنين التي أنتج فيها نيتشه مؤلفاته وقد لاحظ النقاد في بعض كتبه الأخيرة انطفاء جذوة فكره، وبدت عليه أعراض الخبل، وكان قد تملكه بعض الوقت.
وقد جر عليه تطرفه - وليس في ذلك ما يعيبه - قسوة القدرة وإعراض الناس عنه، ففي أواخر سنة 1888 أصيب نيتشه بهزة عصبية شديدة، وبدأ جسمه بعد ذلك في الاضمحلال.
ولكنه بقي حتى أواخر أيام حياته طيب القلب، شديد الصبر، كثير الأدب، مراعياً احساسات الناس كافة.
وكان في سنة 1888 قد خيل إليه أن لابد له من أن يبذل أقصى مجهود فكريي فجمع أشعاره التي أسماها (أغاني زرادشت)، ومنها قصيدة (غروب الشمس) الخالدة.
ومن من الناس لا يمجد (زرادشت) أو (الإنسان الكامل) حين يذكر أسم نيتشه؟ وبقى نيتشه حتى اليوم الخامس والعشرين من شهر أغسطس عام 1900 يقاسي آلام مرضه حتى وافته المنية في مدينة فيمار ولم يكن في نظر الناس حين أرتحل إلى العالم الآخر إلا أديباً غريب الأطوار والأفكار.
أما اليوم فله شهرة عالمية كأديب وفيلسوف.
وقد كان نيتشه شاعراً مجيداً ذا عقل وثاب وإحساس فياض عميق، في حين أن بقية الشعراء لم يكن لهم إلا مجرد (نزوات مضطربة) وما كان نيتشه ليهمه اصطلاح الناس على تمجيده أو الاعتراف بفنه، فقد قال: (إن الطيبة لن تعود طيبة إذا لاكها الجار في فمه) فكيف حال الطيبة إذا لاكتها الناس عامة؟. وكذا مات نيتشه، ولكن ما انقضت بعض الأعوام على وفاته حتى أخذ الأدباء والنقاد يشعرون بجبروت فكره ونبل غرضه.
وكم من زعماء الأمم يتطلعون اليوم إليه كرائد لهم، ويستمدون الوحي من تفكيره! وكفاه بذلك فخراً. إبراهيم إبراهيم يوسف