يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾وردتْ الآيةُ الكريمةُ في سياق الحديث عن أحوال يوم القيامة والبعث بعد الموت، حيث ذكرَ الله تعالى قبلها صوراً عظيمة لأهوال القيامة ومشاهدها، فقال سبحانه: ﴿ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ ﴾ [الانفطار: 1 - 5]، ثم توجَّه الخطابُ إلى الإنسان المكذِّب بالبعث العاصي لربه جل جلاله، هذا الإنسان قد غرَّه جهلُه بالله تعالى، وإمهالُه له، وغرَّه الشيطان الرجيم، كما غرَّته نفسُهُ الأمَّارةُ بالسوء، فكذب وعصى.
ينادي سبحانه وتعالى الإنسانَ المغرورَ موبِّخاً له، حيث لم يتأمل في آيات الله تعالى في نفسه، وينظر إلى نِعمه الظاهرة والباطنة عليه، فيقول سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8].
أيها الإنسان أي شيء غرَّك بربك الكريم المنَّان الذي أوجدك من العدم، وسوَّى خَلْقَك في أحسن صورة، وأتمِّها، فجعلك معتدلَ القَامَة، جميلَ الصورة، بديعَ الخِلْقَة، أما ترى تناسبَ جوارحك، وعجائبَ حواسِّك، ووظائفَ أعضائك، كيف تعمل وفق نظام عجيب، وخَلْقٍ بديع مُعجز، يشهد بعظمة الخالق جلَّ جلاله، وعِظَمِ منَّته عليك، وجميل عنايته بك.
ولو شاء سبحانه لصوَّرك في صورة قبيحة وخِلْقَةٍ مهينة، كصورة كلب أو حمار أو قِرد، لكنه تعالى كرَّمكَ ورفعك وفضَّلك على كثير من خلقه، وجعلك أهلاً للتكليف، فهل يليق بك مع هذا التكريم أن تكذِّب بوعده، وتعصي أمره، وتتجرأ على حدوده وحُرماته!
وقد أخرج ابنُ أبي حاتم في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ [الانفطار: 6].
فقال: "غَرَّهُ وَاللَّهِ جَهْلُهُ".
وأخرج ابنُ جرير عن قتادة أنه قال عند هذه الآية:" شَيْءٌ مَا غَرَّ ابْنَ آدَمَ هَذَا الْعَدُوُّ الشَّيْطَانُ".
وعن مقاتل أنه قال: "غرّه عفوُ الله، حين لم يعجّل عليه بالعقوبة".
يا كاتِمَ الذنْب أمَا تَسْتَحِي
واللهُ في الخَلوة ثانِيْكَا؟
غَرَّكَ مِنْ رَبِّك إمْهَالُه
وسترُه طولَ مسَاوِيكا
ووصف الربَّ تعالى بالكريم في ختام الآية للتذكير بنعمته على العبد ولطفه به، فإن الكريم حقيقٌ بالشكر والطاعة جل جلاله [1].
وقد روي أن هذه الآية نزلت في بعض مشركي قريش، ولكن الخطاب فيها عامٌ، فالألف واللام في جل جلاله الإنسان) للجنس، فتشمل كلَّ مُنْكِرٍ للبعث، كما أنها موعظةٌ لكلَّ منْ غرَّه جهلُهُ وشيطانُهُ ونفسُّه الأمَّارةُ بالسوء فعصى ربَّه وتعدَّى حدوده وتجرَّأ على حُرُماته.
فعلى المسلم أن يتدبَّرَ هذه الآيات الكريمة ويتَّعظ بها، فيعترفَ بمنة الله عليه وإحسانه إليه ولُطْفِه به، ويحمده على ذلك، ويحذرَ الغفلة والغرور، ويتذكَّرَ العرْض على الله تعالى، يومَ الدِّين.
نسأل الله تعالى أن يعيننا على ذِكره وشكره وحسن عبادته.
[1] انظر التحرير والتنوير لابن عاشور 3 /175.