أرشيف المقالات

ثمار مراعاة الآخرين في الدعوة

مدة قراءة المادة : 15 دقائق .
ثمار مراعاة الآخرين
في الدعوة

أثمرت مراعاة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ولأهل مكة ثماراً مباركة دنيوية وأخروية، وتركت أثراً عظيماً في نفوسهم، والمتتبع لأخبار مسلمة الفتح، يلحظ تحقق قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم: ((الناس معادن كمعادن الفضة والذهب، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))[1]، ومن أمثلة ذلك:
أولاً: أثَّرَ عفوُ الرسول صلى الله عليه وسلم في نفوس أهل مكة، فانقلبت عداوتهم له ولاء، وتحول بغضهم له حبًّا، لمقابلته أذاهم وخصومتهم بالعفو والمغفرة والتسامح، وذلك مصداق قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34] [2].
 
فكأن الله تعالى يخص الدعاة بهذه الصفة الجليلة، وينبههم عليها، إذ سبقها بقوله ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33][3]، فالنهوض بواجب الدعوة يلزم الداعية بالتحلي بهذه الأمور من القول الحسن والعمل الصالح ودفع السيئة بالتي هي أحسن.
 
ثانياً: نتج عن حرصه صلى الله عليه وسلم على هدايتهم، تأليف قلوب الناس، وتوحيد كلمتهم، وإقبالهم طائعين على الإسلام، فلم يكن من السهل أن ترضى قريش ولها مالها من مكانة بهذا التحول، وتقبل على الإسلام مختارة وتحمل رايات الجهاد في سبيله، لو لم تعامل هذه المعاملة السلمية ويراعى زعماؤها، فانقلب موقعها من أشد الناس عداوة للإسلام، إلى أحرص الناس على رفع رايته.
 
ثالثاً: من ثمار فتح باب التوبة وقبول عودة الجامحين إلى حظيرة الإسلام، إخراج جيل حريص كل الحرص على التكفير عن محاربة الإسلام[4]، بأن يحارب ضمن صفوفه، مثل عبد الله بن أبي سرح رضي الله عنه، الذي ساهم مساهمة عظيمة في فتوح قارة أفريقيا، وكان قائداً لمعركة ذات الصواري، التي كانت حدا فاصلا في سياسة الروم إزاء المسلمين، فأدركوا بعدها فشلهم في استرداد هيبتهم، أو استرجاع مصر أو الشام من أيدي المسلمين[5]، وقد علم الجميع توبته رضي الله عنه وحفظ له التاريخ: (إن عبد الله أسلم يوم الفتح، ولم يتعد ولا فعل ما ينقم عليه بعدها، وكان أحد عقلاء الرجال وأجوادهم)[6].
 
وهذا الشعور كان منبعثًا من معظم مسلمة الفتح، وقد شاركوا في الفتوحات الإسلامية، وسار كثير منهم إلى الشام، كحويطب بن عبد العزى[7]، وسهيل بن عمرو، وأبي سفيان بن حرب، وغيرهم رضي الله عنهم، وقد تولى بعضهم مناصب قيادية في الجيوش الإسلامية، كيزيد بن أبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل رضي الله عنهم، والمطلع على فتوحات بلاد الشام يدرك دور مسلمة الفتح الإيجابي في هذه الفتوح، ومن مواقفهم البطولية التي أظهرت تفانيهم في نصرة الدين ما يلي:
1) فقد أبو سفيان رضي الله عنه في حصار الطائف إحدى عينيه، ثم قُلعت الأخرى يوم اليرموك، وكان يحرض المسلمين على الجهاد وكان تحت راية ولده يزيد[8].
 
ومما يروى عن تلك الغزوة أن الأصوات هدأت قليلاً، فسمع الناس صوتا يكاد يملأ العسكر يقول: يا نصر الله اقترب، الثبات الثبات يا معشر المسلمين، فنظروا فإذا هو أبو سفيان رضي الله عنه، وقال للمسلمين: يا معشر المسلمين، أنتم العرب، فقد أصبحتم في دار العجم، منقطعين عن الأهل، نائين عن أمير المؤمنين، وقد والله أصبحتم إزاء عدو كثير عدده، والله لا ينجيكم من هؤلاء القوم، ولا يبلغ بكم رضوان الله غدا، إلا بصدق اللقاء والصبر.
ثم ذهب إلى النساء فوصاهن، وقال لهن: من رأيتنّه فارّا فاضربنه بهذه الأحجار والعصي حتى يرجع.
ثم عاد فوصى المسلمين[9].
 
2) ثبت يومئذ يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وقاتل قتالا شديدا، وكان في قلب الجيش، وقد مرَّ به أبوه، فقال له: يا بني عليك بتقوى الله والصبر، فإنه ليس رجل بهذا الوادي من المسلمين إلا محقوقا بالقتال، فكيف بك وبأشباهك الذين ولوا أمور المسلمين، فاتق الله يا بني، ولا يكونن أحد من أصحابك بأرغب منك في الأجر والصبر، ولا أجرأ على عدو الإسلام منك.
فقال: أفعل إن شاء الله[10].
 
3) في تلك الغزوة حدث تراجع من الناس إلى مواقفهم، فقال عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه : قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن، وأفر منكم اليوم.
ثم نادى: من يبايع على الموت.
فبايعه عمه الحارث بن هشام، في أربعمائة من وجوه المسلمين[11]، وروي أنه ترجل عن فرسه ( فقال له خالد بن الوليد رضي الله عنه: لا تفعل فإن قتلك على المسلمين شديد.
قال: خلّ عني يا خالد، فإنه قد كان لك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة، وإني وأبي كنا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فمشى حتى قتل)[12]، فوجد به بضعة وسبعين من طعنة ورمية وضربة[13].
 
4) شارك عبد الرحمن بن سَمُرة رضي الله عنه في غزوة تبوك، وشهد فتوح العراق، وغزا سجستان أميراً.[14]
 
رابعاً: أثرت هذه المراعاة في غرائز المدعوين وأخلاقهم، فهذبتها ونقتها من المفاسد، ومن ذلك تهذيب خلق الحسد الذي كان قائما في نفوس كثير من القرشيين، وصادا لهم عن قبول دعوة الحق، فتحول إلى غبطة[15]، وقد عبر الحارث بن هشام رضي الله عنه عن ذلك حين خرج من مكة، فجزع أهلها وخرجوا يشيعونه، - وقد كان من السادة الفضلاء المُطعمِين- ووقفوا حوله يبكون، فقال: والله ما خرجت رغبة بنفسي عنكم، ولا اختيار بلد على بلدكم، ولكن هذا الأمر كان، فخرجت فيه رجال من قريش، ما كانوا من ذوي أسنانها ولا في بيوتها، وأصبحنا والله لو أن جبال مكة ذهبا، فأنفقناها في سبيل الله، ما أدركنا يوما من أيامهم، فنلتمس أن نشاركهم في الآخرة.
ثم توجه إلى الشام غازياً، فلم يزل مجاهداً، حتى ختم الله له بخير، فأصيب شهيداً رضي الله عنه[16].
 
كما عبر عنه سهيل بن عمرو رضي الله عنه بعد إسلامه، حين كان المهاجرون والأنصار على باب عمر رضي الله عنه - وهو أمير المؤمنين - فجعل يأذن لهم على قدر منازلهم - وثمَّ جماعة من الطلقاء - فنظر بعضهم إلى بعض، فقال لهم سهيل - لما رأى غضبهم مما فعله عمر -: وعلى أنفسكم فاغضبوا، دُعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، فكيف بكم إذا دعيتم إلى أبواب الجنة، ثم خرج إلى الجهاد[17]، وفي المستدرك أنه قال: فانظروا هذا الجهاد ألزموه، عسى الله أن يرزقكم الجهاد والشهادة[18].
 
خامساً: أثمرت المعاملة الحسنة لأهل مكة تكيفًا وانسجامًا مع المجتمع المسلم، الذي يعيشون فيه، وأصبحوا قطعة منه، فلا يشعرون بوطأة نظمه، أو يضيقون ذرعا بأوضاعه، بل ترسبت هذه النظم والأوضاع في سلوكهم[19]، فغدو يمارسون شعائر الإسلام مع المسلمين دون اعتراض أو نفور، فهذا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما يشارك رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته، ثم يتولى تقصير شعر النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول: (قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص)[20].
 
وتولى عدد من مسلمة الفتح تجديد أنصاب الحرم - علامات حدود الحرم -، كما فعل حويطب بن عبد العزى، ومخرمة بن نوفل، وسعيد بن يربوع القرشي[21]، وأزهر بن عبد عوف [22] حين أمرهم عمر بذلك، وبعثهم بذلك عثمان بن عفان رضي الله عنهم[23].
 
سادسا: استبدال حمية الكفر والجاهلية بالحمية لدين الله والدفاع عنه، وقد عاب الله تعالى أهل الجاهلية بذلك يوم الحديبية في قوله تعالى ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ﴾ [الفتح: 26] [24]، فصارت حمية للإسلام، ومن ذلك موقف سهيل بن عمرو من أحداث الردة التي وقعت بعد لحوق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وقد ضج أهل مكة فخرج سهيل بن عمرو مع عتاب بن أسيد رضي الله عنهما، حتى أتيا المسجد الحرام، فقام سهيل خطيبًا، فحمد الله وأثنى عليه، وخطب بمثل خطبة أبي بكر، لم يخرم منها شيئًا.
فكان في تصرفه تثبيت لأهل مكة على الإسلام[25].
 
وإن مداخل الشيطان التي يصد بها الناس عن اتباع الحق، تدور بين ثلاثة محاور:
الأول: ما يتعلق بالعوامل الاجتماعية والبيئية المحيطة بالناس، والتي تتعلق بهم بشكل مباشر، كتقدمهم في العمر، أو بشكل غير مباشر كتأثير أصحاب المكانة و الكبراء، وتأثير رفقاء السوء.
 
الثاني: ما يتعلق بالانحراف الفكري العقلي عند الناس، كالموازين الجاهلية، والتعصب القبلي، وشدة التمسك بتقاليد الآباء والأجداد، واغترار الناس بما حباهم الله به من ثروة وقوة وتمكين، وأساس ذلك كله الجهل.
 
الثالث: إتباعهم أهواءهم، سواء أكانت بالتعلق بشهوات الدنيا وملذاتهاـ أم التنسك بالمكانة والجاه، أم كان ذلك انحرافاً ومرضاً خُلقياً، كالكبر والحسد والحق للحق وأهله.
 
والداعية الحصيف يستغل هذه المحاور، فيعمل على إغلاق أبوابها أمام الشيطان كي لا يلج منها، ثم يستفيد منها كمداخل لنفوس المدعوين، عن طريق مراعاة هذه الأسباب وغيرها، وهذا يستلزم من الداعية مراعاة المدعو مراعاة متكاملة للعديد من النواحي، سواء أكان من الناحية النفسية، أم العقلية، أم الاجتماعية، أم الوجدانية، مع مراعاة مواهب المدعو وقدراته.
 
ولتحقيق أفضل مراعاة للمدعوين، وأسمى عرض للدعوة الإسلامية، على الداعية أن يستخدم الأساليب الفعالة والوسائل الملائمة للتأثير فيهم، وهذا ما سيتضح بإذن الله في مقالات قادمة.



[1] سبق تخريجه ص 297.


[2] سورة فصلت آية 34.


[3] سورة فصلت آية 33.


[4] انظر ما سبق من قول عكرمة رضي الله عنه.


[5] بتصرف، ذات الصواري وحصن بابليون: شوقي أبو خليل ص 69، دار الفكر دمشق، ط:3، 1400هـ 1980م.


[6] سير أعلام النبلاء 3/ 34، وانظر أسد الغابة 3/ 261.


[7] انظر المرجع السابق 2/ 541.


[8] بتصرف، المرجع السابق 2/ 106.


[9] بتصرف، البداية والنهاية ص 9 و 11و 14.
وانظر المصنف: ابن أبي شيبة 13/ 36 ح 15682.


[10] بتصرف، البداية والنهاية 7/ 14.


[11] بتصرف البداية النهاية 7/ 11.


[12] منتخب كنز العمال عن ابن عساكر 5/ 242.


[13] بتصرف، المصنف : ابن أبي شيبة 13/ 37 ح 15686، وسير أعلام النبلاء 1/ 324.


[14] سير أعلام النبلاء 2/ 571.


[15] الغبطة: هي أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل نعمة أخيه، ولا يتمنى زوالها عنه.
النهاية في غريب الحديث 1/ 383.


[16] انظر الحديث في المستدرك على الصحيحين كتاب معرفة الصحابة 3/ 278، وسكت عنه وتابعه الذهبي، وانظر سير أعلام النبلاء 4/ 421.


[17] بتصرف، الإصابة 2/ 94.


[18] المستدرك على الصحيحين كتاب معرفة الصحابة 3/ 282.
وسكت عنه وتابعه الذهبي.


[19] بتصرف، المنهج الإسلامي في دراسة المجتمع ص 266.


[20] صحيح البخاري كتاب الحج باب الحلق والتقصير والإحلال 2/ 189.
والمشقص هو: ( نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض).
النهاية في غريب الحديث 2/ 490.
وقد اختلف في زمن حدوث هذا التقصير، والذي رجحه الحافظ ابن حجر أنه بعد الفتح، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حلق في حجته ولم يقصر، لأنه لم يكن متمتعا.
انظر فتح الباري 3/ 565 ح 1730.
كما رجح ذلك ابن تيمية في منهاج السنة النبوية 2/ 280.


[21] هو سعيد بن يربوع القرشي، شيخ بني مخزوم، أسلم بعد الفتح وشهد حنين، وأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم خمسين بعيرا، توفي رضي الله عنه سنة 54هـ وعمره 120 سنة.
بتصرف، المستدرك على الصحيحين كتاب معرفة الصحابة 3/ 490، و سير أعلام النبلاء 2/ 542.


[22] هو أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث القرشي الزهري عم عبد الرحمن بن عوف، أسلم بعد الفتح.
بتصرف، الإصابة 1/ 29.


[23] انظر سير أعلام النبلاء 2/ 541.
والإصابة 3/ 390.


[24] سورة الفتح جزء من آية 26.


[25] المستدرك على الصحيحين كتاب معرفة الصحابة 3/ 282، وسكت عنه وتابعه الذهبي، ومنتخب كنز العمال 5/ 199، وهذا هو المقام المحمود الذي أنبأ به النبي صلى الله عليه وسلم عمر بعد غزوة أحد.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣